محبة النبي صلى اللّه عليه وسلم

اللهم قد بلغت اللهم فاشهد ( الحلقة الثانية الأخيرة )
أغسطس 3, 2024
رعاية الله للمرأة على تداول الأزمان
سبتمبر 2, 2024
اللهم قد بلغت اللهم فاشهد ( الحلقة الثانية الأخيرة )
أغسطس 3, 2024
رعاية الله للمرأة على تداول الأزمان
سبتمبر 2, 2024

الدعوة الإسلامية :

محبة النبي صلى اللّه عليه وسلم

الشيخ السيد بلال عبد الحي الحسني الندوي

تعريب : الأخ نعمت اللّه قاسم الندوي

مما يجب على كل واحد منا نحن المسلمين من حقوق النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يكون صادقاً في حبه ، متفانياً فيه ، كما ينبغي أن ينبثق هذا الحب من أعماق القلب ، وينبغي كذلك أن يسيطر على القوى والأعصاب ، ويغلب على كل ما ينبعث من عواطف ومشاعر ، ويستولي على كل ما يرغب العقل فيه أو يطلبه ، حتى يكون النبي صلى اللّه عليه وسلم أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين ، ويتمنى المرء بغاية من الصدق والإخلاص أن يضحي له بكل رخيص وثمين ، ويفديه بنفس ونفيس .

وإن هذا الحب من علامات الإيمان كما قال الرسول صلى اللّه عليه وسلم بنفسه : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين . ( صحيح البخاري ، كتاب الإيمان ، الحديث : ١٥ ) .

ويقول تعالى : ( ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) [ سورة الأحزاب ، الآية : ٦ ] .

تعني الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أرأف بالمؤمنين وأجدر وألطف وأحق من أنفسهم ، وحقوقه صلى اللّه عليه وسلم عليهم أعظم من حقوقهم على أنفسهم . فمن واجبات أهل الإيمان أن يؤثروا ما يقوله الرسول صلى اللّه عليه وسلم ويدعو إليه ، ويفضلوا أحكامه دائماً على أموالهم وأنفسهم ورغباتهم وشهواتهم في كل ساعة من ساعات الحياة ، فمن لم يفعل ذلك فإن إيمانه في خطر دائماً ، وعليه أن يستعرض دينه ويتفقد إيمانه .

وعلى ذلك يؤكد ما رواه عبد اللّه بن هشام فقال : كنا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، فقال له عمر : يا رسول اللّه ! لأنت أحب إلي من كل شيئ إلا من نفسي ، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : لا والذي نفسي بيده ، حتى أكون أحب إليك من نفسك ، فقال له عمر : فإنه الآن واللّه لأنت أحب إلي من نفسي ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : الآن يا عمر ( صحيح البخاري ، كتاب الأيمان والنذور ، الحديث : ٦٦٣٢ ) .

وجاء نفس المعنى في آية أخرى من القرآن الكريم ، ففي مناسبة غزوة تبوك عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الجميع بالخروج ولكن المنافقين بدأوا يعتذرون ، وتخلف بعض الصحابة لأسباب متعددة ، نزلت الآية : ( مَا كَانَ لِـأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ ) [ سورة التوبة ، الآية : ١٢٠ ] .

فأكد اللّه سبحانه وتعالى بوضوح أن المطلوب من أهل الإيمان أن يحبوا النبي صلى اللّه عليه وسلم أكثر من حبهم لأنفسهم ، ويقدموه صلى اللّه عليه وسلم على كل شيئ ، على رغباتهم وشهواتهم وميولهم وغرائزهم ، ويذعنوا لأمره ويعملوا به ، مهما يتطلب ذلك منهم من تضحيات ، هذا ما يقاس به صدق الحب ووفاؤه ، ومن ثم تتضح ميول الإنسان واتجاهاته . فإذا قام أحد بتقديم أحكام الرسول صلى اللّه عليه وسلم في كل حال من أحوال حياته فذلك دليل على حبه الصادق ، وإلا فإن كلامه وادعاءه للحب مجرد كلمات وشعارات فارغة يرددها مراراً ولكن تكذبها مواقفه . يقول تعالى : ( يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ) [ سورة التوبة ، الآية : ٦٢ ] .

فإن كنا نطلب الرضا فرضا اللّه ورسوله أحرى بنا أن نطلبه فإن رضا كل واحد مؤقت وثمراته محدودة ، ولكن رضا اللّه ورسوله يكفل بدوام السعادة .

ومن علامات الحب الصادق أن يمتثل المرء لأمر حبيبه ويتجنب كل ما يتسبب في سخطه وغضبه ، ويهتم دائماً بإرضائه .

أسباب الحب :

لقد خلق اللّه الإنسان ، وأوجد معه احتياجاته ، وجعل له ما يلبي مطالبه ويسد حاجاته ، وجعل له ذوي القربى والعلاقات ، يعيش معهم ويأنس إليهم . فإذا تأملنا في العلاقات والقرابات وجدنا أن أساسها هو أمر اللّه تعالى وإرادته . فالأم صارت أماً بأمر اللّه تعالى وإرادته ، والأب أصبح أباً بأمر اللّه تعالى وإرادته ، وكل ما يربطنا من علاقات وقرابات يرجع إلى اللّه سبحانه وتعالى . وإن حبنا لأبينا وأمنا وولدنا ووالدنا حب طبيعي . وهناك حب عقلي ، وله أسباب ، وهي تتجلى بأبرز صورها وأسمى معانيها في ذات اللّه تعالى وشخصية نبيه الحبيب محمد صلى اللّه عليه وسلم . فكل ما نشهد اليوم في الدنيا من جمال وبهاء وحسن ولطافة – مهما كان نوعه وموقعه – هو من صنع اللّه تبارك وتعالى . وكل ما نراه اليوم من كمال ونبوغ وإبداع هو من خلقه تبارك وتعالى . فلو لم يرزق اللّه الإنسان نعمة العقل ماذا كان فاعلاً ؟ وأي إنجاز كان بوسعه أن يحققه ؟ وأي مكرمة كان قادراً على صنعها ؟

فجميع أسباب الحب من الجمال والكمال وغير ذلك مما يورث في قلوب الناس حب بعضهم بعضاً مرجعها ومردها إلى اللّه سبحانه وتعالى في الحقيقة . فإنه منبع كل خير وسعادة ، ومصدر كل كمال وجمال .

أقصى درجات الجمال :

فإذا تأملنا في ذات الرسول صلى اللّه عليه وسلم تبين لنا أن أسباب الحب كلها توجد فيه صلى اللّه عليه وسلم بأسمى معانيها ، وتبرز بأجمل أشكالها ، فإنه أوتي من الجمال ما لم يؤت أحد من العالمين . فلو جُمعت محاسن العالم كله ما بلغت معشار ما حباه اللّه سبحانه وتعالى به من الحسن والجمال .

عن جابر بن سمرة رضي اللّه عنه قال : رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ إضحيانٍ ( مضيئة ) . فجعلت أنظر إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وإلى القمر ، وعليه حلة حمراء . فإذا هو عندي أحسن من القمر ( رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب ، الحديث : ٢٨١١ ) .

فوصفهم الصحابة رضي اللّه عنهم بأن وجهه كان أحسن من القمر . فإن القمر به بقع ، ووجهه مبرء من كل عيب ومنزه من كل نقص ، لذلك مثلوا وجه النبي الشريف بأجمل وأحسن ما عرفوه – وهما الشمس والقمر – حيث قالوا ” كانه قطعة قمر ” ، فكأنهم شبهوا وجهه في الصفاء والنقاء والجلاء والوضاءة من القمر بقطعته البراقة الصافية من سواد البقع ، حتى قالوا  :  لا شيئ أجمل منه ، وإنه أحسن من القمر .

منبع العلم والابتكار :

وكل ما يتمتع به العالم من مواهب وكفاءات وقدرات وبراعات ، وكل ما يشهده من تقدم وإبداع ورقي وازدهار ، إنما هو نتاج العلم الذي وضع أساسه نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً ، فإن هذا العلم الذي حظي العالم بفضله بإبداعات وتطورات واختراعات وابتكارات جاء عن طريق محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فلو لم تكن بعثته ولو لم ينزل عليه الوحي الذي ابتدا بـ ” اقرأ ” لما توجهت البشرية نحو العلم . وبالجملة فإن جداول العلم والحكمة كلها متفرعة من معين سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وإليه ينتهي ما حظي به العالم من كمالات وبراعات وعلوم وفنون .

أفضاله على البشرية :

إن المنن التي تفضل بها نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم على البشرية تبلغ من حيث الكمية والكيفية ذروتها ، ولا يمكن تصور صدور هذه المنن عن أحد غيره بعد اللّه تعالى . فإن البشرية قبل بعثته صلى اللّه عليه وسلم كانت متناحرةً متقاتلةً ، وموزعةً بين قبائل وجماعات ، وأصبحت كالبهائم ، لا حظ لها في القيم والأخلاق . وكانت هناك إمبراطوريات عظيمة وسلطات قوية هائلة ، كلها تردت في حمأة الفساد الخلقي ، وأصيبت بالسلوك الهمجي والتدهور الاجتماعي . وقد سجل التاريخ الإنساني حوادث الانحطاط الفكري والانحلال الخلقي والاجتماعي ، مما لا يكاد العقل البشري يسلم بصحته ويعترف بوقوعه على وجه الأرض ، فالعقل البشري يقف متعجباً متحيراً ، ويصعب عليه أن يصدّق كيف تسمح للإنسان نفسه بالتجرأ على ارتكاب هذه الجرائم الشنعاء . فقد كان الإنسان حينذاك غافلاً عن نفسه ومصيره ، مقيداً بالطقوس الجاهلية والعادات القبيحة فأصبح عبداً لما تملي عليه أهواؤه  ورغباته ، خاضعاً لما تسوق إليه نفسه التي انسحبت وزاغت آنذاك عن طريق الحق والصواب .

ونرى في كتب التاريخ أن الناس عندما كانوا يجتمعون بمناسبات الولائم والمآدب ، كانوا يستخدمون العبيد والأرقاء كمصباح بإشعال النار في ثيابهم بعد ربطهم إلى عمود ، ويتلذذون بأنواع الأطعمة على ضوء تشعه أجساد عبيدهم الملتهبة بالنار ويتمايلون على أغاني الأنين المتصاعدة من أفواههم ، فكان الموت إذا استظل على أحدهم احتراقاً ، تركوا طعامهم وشرابهم يجتمعون حوله ويشاهدون لحظات الفراق بين الروح والجسد . فكان ذلك هوايتهم المفضلة . فقصارى القول أن الإنسانية قد انحدرت إلى حضيض من التدهور الاجتماعي وسقطت في قعر من الوهن الديني والأخلاقي ، وكانت مثخنةً بالجروح ومرهقةً بالآلام ، فكانت تلفظ أنفاسها الأخيرة ، حتى جاء محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وهدى الإنسانية التائهة طريقها ، وأمسك بيدها إلى الخير والفلاح والسعادة ، ولقّنها درس المودة والإخاء والمساواة والمواساة .

يقول تعالى :  ( وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) [ سورة آل عمران . الآية : ١٠٣ ] .

وقد أعلن ربعي بن عامر قائلاً : اللّه ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة اللّه ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام . ( البداية والنهاية لابن كثير ، المجلد : ٩ ) .