علم البلاغة في العصر الحديث

اللغة العربية وقدرتها على استيعاب العلوم والفنون
أغسطس 3, 2024
زبدة التفاسير للقدماء المشاهير لشيخ الإسلام بن قاضي القضاة عبد الوهاب الغجراتي : دراسة تحليلية ( الحلقة الثالثة الأخيرة )
أغسطس 3, 2024
اللغة العربية وقدرتها على استيعاب العلوم والفنون
أغسطس 3, 2024
زبدة التفاسير للقدماء المشاهير لشيخ الإسلام بن قاضي القضاة عبد الوهاب الغجراتي : دراسة تحليلية ( الحلقة الثالثة الأخيرة )
أغسطس 3, 2024

دراسات وأبحاث :

علم البلاغة في العصر الحديث

الدكتور عبد الوحيد شيخ *

يرى بعض الباحثين العرب أن البلاغة العربية انتهى عصرها الذهبي الذي عرفته خلال القرن الخامس الهجري مع أعمال عبد القاهر الجرجاني ، وعرفت بعده تعثراً وجموداً حيث أصبحت مع السكاكي    ( 626هـ ) ، والقزويني ( 739هـ ) قواعد جافة بسبب إقحام مسائل الفلسفة والمنطق فيها ، ولذلك كثرت الدعوات في العصر الحديث إلى إعادة النظر في التراث البلاغي العربي ، حيث نادى بعض العلماء إلى تجديد البلاغة العربية ، ودعا آخرون إلى تطويرها ، ودعا فريق آخر إلى تيسيرها . وفي هذا البحث قراءة في أهم دعوات التطوير والتجديد والتيسير للبلاغة العربية في العصر الحديث .

الكلمات الدالة :

اللغة ، البلاغة العربية ، التجديد ، العصر الحديث ، القدامى .

معنى البلاغة لغةً واصطلاحاً :

قبل الخوض في البحث لا بد لنا أن نتعرف على معنى البلاغة في اللغة والاصطلاح ، لكي نتمكن من تفهمه على وجه أتم .

معنى البلاغة :

جاء في اللسان ( بَلَغَ ) : بلغ الشيئ يبلغ بلوغاً وبلاغاً : وصل وانتهى ،  . . . وبلغت المكان بلوغاً : وصلت إليه ، وكذلك إذا شارفت عليه ، ومنه قوله تعالى : ( فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلُهُنّ ) أي قاربه [1] ، وجاء في ” القاموس المحيط ” تحت مادّة ” ( بَلَغَ ) بَلَغَ – يَبْلغ – بلوغاً وبلاغاً : المكان بلوغاً : وصل إليه ، أو شارف عليه ، و – الغلام : أدرك ” [2] .

وعرّفه ” معجم اللغة العربية المعاصرة ” تحت مادّة بلغ ، هكذا     ” بلغ يبلغ بلوغاً وبلاغاً – الأمرُ : وصل إلى غايته – الشيئَ بلوغاً : وصل إليه . وبَلُغُ يبلُغُ بلاغةً – فصُح وحسُن بيانه فهو بليغ ” ، وفي ” معجم الرائد ”   ” بلغ يبلغ بلوغاً (1) الشيئَ أو المكان : وصل إليه (2) الشجرُ : حان إدراك ثمره . وبلغ الأمرُ : وصل إلى غايته . وبَلُغُ يبلُغُ بلاغةً . فصح لسانه وحسن بيانه ” [3] ، وفي ” المعجم الغني ” تحت مادّة ( بَلَغَ ) ” بلُغَ يبلُغُ بلاغةً – بلُغ الكاتب : كان بليغاً ، أي فصُح لسانه وحسُنَ بيانه ” ، وبلغ السيل الزبى ( مثل ) وصل إلى مرحلة خطيرة .

وبذلك اتّضح أن معنى البلاغة في اللغة يتمحور حول المعنيين :

أحدهما : الوصول والانتهاء إلى الشيئ والإفضاء إليه . وهي أحد علوم اللغة العربية ، بمعنى وصل إلى النهاية ، وقد سميت البلاغة بهذا الاسم ؛ لأنها تنهي المعنى إلى قلب المستمع ممّا يؤدي إلى فهمه بسهولة ، وتعرف البلاغة لغةً بأنها الوصول والانتهاء إلى الشيئ ، كما في قوله تعالى : ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) أي وصل ، فالبلاغة تدل في اللغة على إيصال معنى الخطاب كاملاً إلى المتلقي .

البلاغة اصطلاحاً : إن كثيراً من الأدباء والبلغاء والنقاد ، قد عرفوا هذا المصطلح وعنوا به عنايةً كبييرةً فلعل التعريف الأقدم لهذا المصطلح هو ما سجله لنا الجاحظ في كتابه ” البيان والتبيين ” ، وهو تعريف عمرو بن عبيد المعتزلي ( 144هـ ) ، يقول هي أي البلاغة : ” تخير اللفظ في حسن الإفهام ” [4] ، فلا بد عنده من إفهام المتلقين والمستمعين الكلام إفهاماً تاماً بدون أي لبس .

والجاحظ نفسه بعد أن أورد لنا العديد من تعاريف العلماء للبلاغة ، اختار منها تعريفاً شائقاً أعجبه ، وهو كما قال : قال بعضهم ” لا يكون الكلام يستحقّ اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه ، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك ” [5] .

والمبرد ( 285هـ ) كان في أغلب الظن من أول الأعلام الذي خرّج رسالةً ، وأطلق عليها اسم ” البلاغة ” ، ونراه فيها يربط البلاغة بالنظم ، وتخير الكلمات المنسجمة الملتحمة ، ولإتمام الفائدة ، لكي يفهم الكلام على أتم وجه وأكمله [6] .

ولقد عرّف الرماني ( 386هـ ) مصطلح البلاغة تعريفاً أدق إذا قارناه بتعاريف السابقين ، قال : هي ، أي البلاغة : إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ ” [7] ، ولقد أومئ خلال هذا التعريف إلى أنواع البلاغة الثلاثة ، فإذا أمعنا إليه وجدنا الإشارة إلى علم المعاني والبيان عندما أشار إلى ” توصيل المعنى ” ، وإلى علم البديع عندما غمز إلى ” الصورة الحسنة من اللفظ ” التي لم تكن حينذاك جلياً . هذا هو التعريف الذي حافظ على فحواه اللاحقون وإن كانوا يضيفون عليه التعليقات .

وحينما جاء السّكاكي وعرفها بالدّقة والضبط ، قال : ” البلاغة هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حداً ، له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقّها ، وإيراد التشبيه والمجاز والكناية على وجهها ” [8] ، لاحظنا أنه أدخل علم البيان والمعاني فيه عندما أكّد المعاني غير أنّه أخرج علم البديع عن مسمّاها .

جاء أخيراً الخطيب القزويني ، واستقرّ هذا المصطلح في عهده وعرّفها بقوله : ” مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته ” [9] . وقسّم البلاغة إلى ثلاثة أقسام : علم المعاني و علم البيان علم البديع .

” ولم يخرج البلاغيون المتأخرون عن هذا التعريف والتقسيم ، وأصبح مصطلح البلاغة يضمّ هذه العلوم الثلاثة ” [10] ، واختار أصحاب المعاجم بعده تعريفه مع الإضافات البسيطة ، فالبلاغة إذن ” مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته ” .

التمهيد :

إن من أهمِّ العلوم التي وُضِعت للبحث في المعجزة ، وأسهَمتْ فيه بنصيبٍ موفور : علم البلاغة ، علم الذوق والجمال ، والفن الأدبي .

فالبلاغة العربيَّة إذاً دينية النشأة ، قرآنية المولد ، درجتْ ونَمتْ في رحاب كتاب الله ، تستهدي آياته ، وتتشرَّب معانيه ، قبل أنْ تتناولَ الأدب العربي بوجْه عام .

وعلى هذا ، فالبلاغة علمٌ له قَدْره ومكانته ، وعلينا نحن المسلمين أنْ نحلَّه المكانة اللائقة به من الاهتمام والتقدير .

لكنَّ البلاغة العربية – وإنْ كانت لَقِيت عنايةً كبيرةً في عصورها الأولى – تخلَّفتْ عن رَكْب العلوم الحديثة ، واعترَض طريقَها من الصعاب والعقبات ما وقَف بها عن بُلوغ الغاية ، وحادَ بها عن مَسار الذوق والفن والجمال .

وهذا ابتداء من الرازي ، وزاد التعقيدات عندما جاء السكاكي ، وتجمد أكثر عند نزول القزويني ، ففي كتابَي القزوين ” التلخيص ”     و ” الإيضاح ” ، يجدُ الباحث الفلسفة وأساليب المناطِقة ومصطلحاتهم ماثلةً أمامه ؛ ممَّا يعوق الانتِفاعَ من بلاغته في صَقْل الأذواق وتربيتها ، وللأسف فإنَّ كتاب ” التلخيص ” هو الذي دارَتْ حوله وحول شروحه دراسة البلاغة حتى العصر الحديث .

قال الدكتور عبد العزيز عتيق عن هذا الموقف : ” وتلك الشروح والتلخيصات والمنظومات ، إن دلت على شيئ فعلى جمود الفكر البلاغي وعقمه منذ عصر السكاكي ” [11] .

وقال شوقي ضيف في هذا الموقف : ” وواضح من كل ذلك أن العصور المتأخرة ، منذ عصر الفخر الرازي والسكاكي ، لم تستطع أن تضيف إلى مباحث البلاغة مباحث جديدةً ، من شأنها أن تبقى لها على ازدهارها الذي رأيناه عند عبد القاهر والزمخشري ، لسبب طبيعي وهو ما ساد في هذه العصور من الجمود ، لا في البلاغة فحسب ، بل أيضاً في الشعر والنثر ، وحقاً صاغ السكاكي قواعد الزمخشري وعبد القاهر صياغةً علميةً ، ولكن هذه الصياغة نفسها كانت من أهم الأسباب التي أشاعت الجمود بل العقم في البلاغة ، إذ تحولت إلى قواعد متحجرة ” [12] .

إنَّ الزمان لَم يعقم ، وإنَّ الحياة لا تَزال خِصبةً مُثمرةً ، وإنَّ الطبيعة لَم ينقطع عَطاؤها بعدُ ، وما يزال في أمة الإسلام خيرٌ كثير ، وما زال بين عُلَمائها وأُدبائها مَن يستطيع التجديدَ والتطويرَ .

وقد وجدت عدداً غير قليل نادَى بتجديد البلاغة ، ووضَع معالم لهذا التجديد ، من هؤلاء الشيخ أمين الخولي ، والشيخ عبدالعزيز البشري ، والأساتذة : أحمد الشايب ، وأحمد حسن الزيات ، وأنيس المقدسي ، والدكاترة : أحمد بدوي ، وعلي العماري ، وعبدالرزاق محيي الدين ، وأحمد مطلوب ، وبدوي طبانة ، وحفني شرف ، ومحمد نايل ، وكامل الخولي وغيرهم .

جهود القدامى في تجديد البلاغة العربية :

كان التجديد والتطوير في العلوم كلّها أمل القدامى من العلماء والباحثين العرب ، ففي القرن الثالث الهجري دعا ابن قتيبة ( 213 – 276هـ ) إلى التجديد في علوم اللغة والبلاغة ، حيث قال : ” إنَّ الله لَم يَقصر العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن ، ولا خصَّ به قوماً دون قوم ، بل جعَل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كلّ دهْر ، وجعَل كلَّ قديم حديثاً في عصره ” [13] ، وفي القرن السادس الهجري ثارَ ابن بسام وشكا من جمود الدرس البلاغي في المغرب وتقليد المشارِقة ، فقال :       ” وليت شعري مَن قصَر العلم على بعض الزمان ، وخصَّ أهل المشرق بالإحسان ، والإحسان غير محصور ، وليس الفضل على زمن بمقصور ، وعزيز على الفضل أن يُنكَر ؛ تقدَّم به الزمان أو تأخَّر ، ولَحَى الله قولَهم : الفضل للمتقدِّم ؛ فكم دفَنَ من إحسان ، وأخْمَل من فلان ، ولو اقتصر المتأخِّرون على كُتب المتقدِّمين ، لضاعَ علمٌ كثير ، وذهَب أدب غزير ” [14] .

ولعلّ أكبر اهتمام حدث بعلم البلاغة قديماً كان مع جهود المعتزلة ومع عبد القاهر الجرجاني ( ت 471هـ ) ، فالمعتزلة يرجع لهم الفضل في وضع كثير من مصطلحات البلاغة العربية وتبويب مباحثها ، وقد قال شوقي ضيف ( ت 2005م ) مبيّناً بعض جهودهم : ” وأقبلوا على دراسة كلّ ما خلّفه العرب حتى عصرهم من ملاحظات بلاغية مختلفة وأيضاً على كلّ ما سقط إليهم من تلك الملاحظات عن الهنود والفرس والرومان واليونان ، محاولين أن يضعوا من خلال ذلك كلّه أصولاً دقيقةً للبيان العربي ” [15] .

عدّ الجاحظ ( ت 552هـ ) المؤسس الحقيقي لعلم البلاغة العربية ، فكان أول أديب عربي توسّع في دراسة هذا العلم وأعطاه الكثير من نشاطه الأدبي والفكري ، وهو أول من جمع ما يتصل به من كلام سابقيه ومعاصريه ، وشرحه ، وأضاف إليه ما عنّ له شخصياً فيه من أفكار وآراء ، وقلما ظهر بلاغي بعده لم يفد من كتاباته في البيان والبلاغة بطريق مباشر أو غير مباشر [16] ، وساهم ابن قتيبة ( 276هـ ) في ذلك الوقت المبكر في وضع الملحوظات وإكمال ما أسّس له الجاحظ ، وقدّم الفراء ( ت 213هـ ) ، وأبو عيسى الرماني ( ت 384هـ ) ، وابن جني أبو الفتح ( ت 392هـ ) ، والقاضي عبد الجبار الهمذاني ( ت 415هـ ) إسهامات جليلةً في الدرس البلاغي . ولعلّ أغلبهم كان اهتمامه منصباً على دراسة الإعجاز القرآني ، والسعي إلى الكشف عن الخصائص اللغوية والبيانية في القرآن الكريم .

واتجهت طائفة من العلماء واللغويين إلى العناية بالبلاغة العربية من خلال دراسة الأدب وفنونه بصورة عامة ، ومنهم قدامة بن جعفر ( 337هـ ) ، وعبد الله بن المعتز ( 296هـ ) ، وأبو هلال العسكري ( 395هـ ) ، وقد دفعوا بالدرس البلاغي نحو البراعة والتميّز ، وأمّا عبد القاهر الجرجاني ( ت 471هـ ) فيشهد له الباحثون بأن البلاغة قد استقرت أركانها ، ورسخت دعائمها ، ووصلت إلى ذروة نضجها وازدهارها على يديه ، وبخاصة في كتابيه ” دلائل الإعجاز ” و ” أسرار البلاغة ” ، حيث تكاملت فيهما المباحث البلاغية ، واستقرت للبلاغة العربية ملامحها الأخيرة ، وبلغت أقصى ما قدّر لها أن تبلغه من نضج واكتمال على امتداد تاريخها الطويل [17] .

وتجلّى التيسير عند البلاغيين العرب القدامى في ما ألفه العلماء من كتب في التلخيصات والشروح والحواشي وشرح الحواشي والتعليق عليها ، وكان بعضها يتعلّق أحياناً بقضايا المنهج ، وبعضها بالموضوعات ، وبعضها بالمصطلحات ، وبعضها الآخر بالشواهد والنصوص .

تصنيف دعوات تجديد البلاغة العربية في العصر الحديث :

كما أسلفنا اتجهت البلاغة العربية منذ ظهور كتاب التلخيص للقزويني : ( 682هـ ) ، اتجاهاً تعليمياً حيث وجدنا ” معظم الشراح في هذه الحقبة كانوا معلمين يجلسون إلى طلابهم يشرحون لهم علوم اللغة العربية ولم تكن طريقتهم في التدريس يومئذ إلا قراءة المتن والتعليق عليه ، ومن هنا كثرت الشروح والحواشي والتعليقات والتقريرات ، وثقلت المؤلفات البلاغية بما أوجبه الدرس الشفوي ومواجهة المتعلم من علوم فلسفية وكلامية وأصولية وفقهية وتاريخية ، ولو من باب المباهاة بالعلم أو مجاراة اللاحق بالسابق ” [18] .

ولما حل عصر النهضة العربية في العصر الحديث جاءت الدعوات إلى قراءة بلاغتنا العربية كثيرة وممتدة من خلال الكتب والمؤلفات والمجلات والندوات والمؤتمرات ، إنما الأكثر أهمية والأعلى جدوى هو التطبيق لإقناع المتلقين بمصداقية الدعوة وموضوعية المشروع البلاغي وللتدليل على فهم الدعاة لما ينادون ، وإذا صنفنا دعوات التجديد الحديثة في البلاغة العربية وجدناها تصبو إلى الغايات العديدة منها :

أولاً : التجديد في دراسة علوم البلاغة وفي الربط بينها تحت اسم الصورة البلاغية أو الصورة الفنية أو الصورة الأدبية أو الصورة الجمالية ، ويمثله سيد قطب الشهيد خاصة في كتابه ” التصوير الفني ” .

ثانياً : التجديد في درس تاريخ البلاغة من حيث ظواهرها وصلة هذه الظواهر بالأعلام والتيار البلاغي ، وفي دراسة القضايا البلاغية من خلال العصور أو من خلال الأعلام .

ثالثاً : التجديد في دراسة العلوم البلاغية وصلتها بالعلوم الحديثة مثل علوم الإنسان والنفس والاجتماع والتربية ونظرية المعرفة .

رابعاً : التجديد في دراسة المصطلحات البلاغية وتدرجها ، وقضايا البلاغية من خلال عصورها .

السعي إلى تخليص البلاغة من تلك الزيادات والحواشي ومن الفلسفة والمنطق وغيرها من العلوم ، والاقتصار على المستوى البلاغي والفني فحسب ، ولم يؤثر عن أحد أنه سعى لتخليص البلاغة من القواعد والتعريفات ، إدراكاً من الباحثين والمعلمين لأهمية القاعدة والذوق معاً [19] .

وكان لهذه الحركة التجديدية عيوب منها ما بيّنه الباحث     عبد الله مساوي من خلال دراسته الموسومة ” محاولات تجديد البلاغة العربية في العصر الحديث ” [20] إن المبالغة في فكرة الجمود البلاغي العربي سهلت استقبال النظريات العلمية الحديثة وإدماجها في قضية تجديد البلاغة قبل فحص مضمرات التراث ، وهو توجه أفضى بدوره إلى هلهلة دور البعث العربي الدافع بقوة التجديد ، بعدما بنيت أسسه على أعمدة مهمشة .

أهم دعوات تجديد وتيسير البلاغة العربية في العصر الحديث :

انطلقت الدعوات الأولى لتجديد البلاغة وتيسيرها في العصر الحديث من الجامعات المصرية ، ولعلّ أوّل دعوة لتجديد البلاغة العربية كانت من لدن الأديب السوري جبر ضومط ( ت 1930م ) في كتابه        ” الخواطر الحسان في المعاني والبيان ” الذي أصدره سنة 1896م ، وفيه دعوة صريحة إلى نظرة بلاغية شمولية تهم النص الأدبي بدل الاقتصار على بلاغة الجملة . ثم ألف كتاباً آخر هو فلسفة البلاغة سنة 1898م ، بيّن فيه الطرق التي تساعد على جعل اللغة آلةً لنقل الأفكار بطريقة سهلة مبنية على الاقتصاد على انتباه السامع .

وكتب في موضوعات التجديد والتيسير والتطوير باحثون كثر منهم :

– أحمد أمين ( ت 1954م ) من خلال مقالاته وبحوثه التي كان ينشرها في المجلات العربية .

– أحمد الشايب ( ت 1976م ) في كتابه ” الأسلوب ” حيث وضع منهجاً كاملاً للبلاغة العربية الجديدة .

– أحمد مطلوب من خلال مقالاته في تيسير البلاغة العربية وفي كتبه الأخرى .

– سلامة موسى ( ت 1958م ) ، في كتابه البلاغة العصرية واللغة العربية ، وكانت دعوته هجوماً على كلّ القيم اللغوية والبلاغية القديمة التي خلّفتها الثقافة العربية ، ودعا دعوةً صريحةً إلى احتضان مظاهر الحداثة الغربية مغلفة بعناوين التجديد والتحديث .

– بكري شيخ أمين ، من خلال كتابه البلاغة العربية في ثوبها الجديد .

– طه حسين ( ت 1973م ) في كتابه البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر الجرجاني .

– محمد بركات حمدي أبو علي في كتابه دراسات في البلاغة ، وكتابه البلاغة العربية في ضوء منهج متكامل .

– مصطفى الصاوي الجويني في كتابه البلاغة العربية : تأصيل وتجديد .

وأمّا الأسباب التي دعت هؤلاء وغيرهم إلى الدعوة إلى تيسير البلاغة وتجديدها فترجع إلى ما لاحظه هؤلاء من التعقيد والغموض الذي عرفته بعض مسائلها ومصطلحاتها ، وكذلك ما اصطبغت به بعض البحوث البلاغية التي وضعها المتكلّمون والأصوليون من المنطق ، وكذلك ما رأوه من تعقيد لعلومها بعد عبد القاهر الجرجاني ، وقد أشار ابن خلدون في المقدمة إلى عامل آخر من عوامل التعقيد وهو أّن أكثر أعلام العربية من الأعاجم ، وكان لذلك أثر سلبي حيث إنّه كلّما تقدّمت في اللّسان ملكة العجمة صار التقصير في اللغة العربية واضحاً [21] .

ومن أهم الكتب في مجال التيسير البلاغي كتاب البلاغة الواضحة لعلي الجارم ( ت 1949م ) ومصطفى أمين ( ت 1997م ) وقد صدر سنة 1939م ، وأعيد طبعه طبعات كثيرةً ، وهو كتاب تطبيقي امتاز بطريقته التعليمية التربوية ، جاء مختصراً وبسيطاً في عرض الموضوعات ، وجمع بين التقعيد الموجز والشرح التطبيقي المطول ، وقد برع المؤلفان في اختيار الشواهد البلاغية من التراث الأدبي العربي . ولا يزال الكتاب مرجعاً هاماً في التدريس . وقال المؤلفان في مقدمة كتابهما :  ” فهذا كتابٌ وضعناه في البلاغة ، واتجهنا فيه كثيراً إلى الأدب ، رجاءَ أن يجتل الطلابُ فيه محاسنَ العربية ، ويلمَحوا ما في أساليبها من جلال وجمال ، ويدرُسُوا من أفانين القول وضروب التعبير ، ما يهَبُ لهم نعمةَ الذوق السليم ، ويُربِّي فيهم ملكَة النقد الصحيح ” [22] ، وكتاب الأديب أحمد حسن الزيَّات ” دفاع عن البلاغة ” ، الذي أصدره سنة 1945م ، ورأى فيه أن البلاغة تحتاج إلى دفاع ، لأن السرعة والصحافة والتطفل جنت عليها .

هل هناك مذهب جديد :

وكان لظهور الأستاذ أمين الخولي ( ت 1966م ) في حقل التدريس في الجامعة المصرية أثر محمود على الدراسات القرآنية والبلاغية في أواخر الربع الأول من القرن العشرين ، فقد أحدث انقلاباً في المفاهيم التدريسية ، وكان له إسهام كبير في نقد المناهج ، وتجديد أساليب التفسير القرآني والبحث البلاغي ، وكان الدرس اللغوي همّ الخولي الأساسي والحلبة الأولى لنضاله من أجل الاجتهاد والتجديد ، وتأثيم التقليد .

قال الشيخ أمين الخولي عن منهجه الجديد في البلاغة العربية :     ” طفقتُ أتعرف على معالم الدراسة الفنية الحديثة عامةً ، والأدبي منها خاصةً ، وأرجع إلى كل ما يجدي في ذلك ، من عمل الغربيين ، وكتبهم . وأوازن بينه وبين صنيع أسلافنا ، وأبناء عصرنا في هذا كله . وكانت نظرتي إلى القديم – تلك النظرة غير اليائسة – دافعة إلى التأمل الناقد فيه ، وإلى العناية بتاريخ هذه البلاغة ، أسأله عن خطوات سيرها ، ومتحرجات طريقها . أستعين بذلك على تبين عقدها ، وتفهم مشكلاتها ، ومعرفة أوجه الحاجة إلى الإصلاح فيها . وكنت أقابل القديم بالجديد ، فأنقد القديم ، وأنفي غثه ، وأضم سمينه إلى صالح جديد . لذا قاربت أن أفرغ من النظر في القديم ، بعدما ضممت خياره إلى الجديد ، فألفت منها نسقاً كاملاً ، يُرجى أن يكون دستور البلاغة في درسه [23] .

ومن مؤلفات الخولي كتاب ” البلاغة العربية وأثر الفلسفة فيها ” صدر سنة 1931م ، وكتاب ” مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب ” أصدره سنة 1944م حيث ” تتبع فيه تاريخ البلاغة العربية ، ودعا إلى ترك منهج المدرسة الفلسفية وتعويضه بمنهج المدرسة الأدبية ، كما دعا إلى ربط البلاغة بعلمي الجمال والنفس وقصد تجديدها ، وكان من مطالبه في تجديد البلاغة العربية على المدى القريب إتقان طرائق علماء النفس والتربية والاجتماع بما يخدم المادة البلاغية ، ثم علم تحقيق التراث والنصوص هو المدى البعيد من تجديد التراث البلاغي في نشر مخطوطاته نشراً علمياً [24] ، وكتاب ” فن القول ” أصدره سنة 1947م ، وهو أبرز مؤلفاته بيّن فيه معالم خطته في تجديد البلاغة العربية .

ويرى النقاد أن الخولي خطا في هذا الكتاب بالبلاغة العربية خطوةً تاليةً لخطوات السابقين ، فقد درس الصلة بين البلاغة والفنون والجمالية الأخرى ، ودعا إلى تنسيق العناصر الأدبية تنسيقاً يؤلف منها مجموعةً متحدةً متماسكةً ، وركز على إقامة الدرس على أساس وجداني ذوقي ، لا يعتمد على التحديد المنطقي ، بل يهدف إلى التنبيه الوجداني الواعي إلى تذوق الأثر الأدبي بعيداً عن التلقين والالتزام ، ودعا إلى النظر البلاغي للأثر الأدبي باعتباره كلاً متصلاً لا جملاً تتوالى ، وجرت بينه وبين الدكتور على العماري سجالات علمية وفكرية حول البلاغة العربية على صفحات مجلة الرسالة التي أسسها ورأس تحريرها الأديب أحمد حسن الزيات بين سنتي 1933م و 1953م ، ثم انضم إلى المعركة آخرون ، وكان لتلك السجالات الأثر الطيب على تطور البلاغة وعلوم العربية .

النتيجة :

وكما أسلفنا أن المؤسس الحقيقي لعلم البلاغة العربية هو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ، وازدهر فيما بعد وترقق هذا العلم على يد الإمام عبد القاهر الجرجاني حتى بلغ ذروته ، لكنه وللأسف الشديد تجمد بعد ، وتحجر بسبب تقعيد القواعد الجافة والاقتصار عليها ، بحيث أصبح التسلح به صعب المنال . ثم وجد بعد هذا الجمود علماء وجهودهم ، شمروا عن ساق الجد لكي يعيدوا للبلاغة العريبة شرفها وفخرها ، ولتسهيل الطريق الممهمة نحوها ، وسعوا وراء تقريبها إلى الذوق والطبائع ، فعلينا أن نأخذ جهودهم ودعواتهم المباركة بعين الاعتبار وأن نسير مسارها .

* الجامعة الإسلامية للعلوم والتكنولوجيا ، كشمير ، بالهند .

[1] ابن المنظور ، لسان العرب ، ج 1 ، ص 346 .

[2] محمد بن يعقوب الفيروزآبادي ، القاموس المحيط ، ص 780 .

[3] جبران مسعود ، معجم الرائد ، ص 180 .

[4] البيان والتبيين ، ج 1 ، ص 114 .

[5] البيان والتبيين ، ج 1 ، ص 115 .

[6] المبرّد ، البلاغة ، ص 59 .

[7] الرّماني ، النكت في أعجاز القرآن ( ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ) ، تحقيق : محمد خلف الله ، ومحمد زغلول عبد السلام ، دار المعارف ، ص 75 – 76 .

[8] السكاكي ، مفتاح العلوم ، ص 196 .

[9] الخطيب القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة ، ص 72 .

[10] أحمد مطلوب ، أساليب بلاغية ، ص 60 .

[11] الدكتور عبد العزيز عتيق ، علم المعاني ، ص 33 .

[12] شوقي ضيف ، البلاغة : تطور وتاريخ ، ص 358 .

[13] الشعر والشعراء ، ج 1 ، ص 63 .

[14] ابن بسام الشنتريني ، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة ، ج 1 ، ص 2 ، تحقيق إحسان عباس ، دار الثقافة ، بيروت 1979م .

[15] شوقي ضيف ، البلاغة : تطور وتاريخ ، دار المعارف ، ط6 ، القاهرة ، ص 438 .

[16] عبد العزيز عتيق ، في تاريخ البلاغة العربية ، دار النهضة العربية ، بيروت ، ص 51 .

[17] أحمد جمال العمري ، المباحث البلاغية في ضوء قضية الإعجاز القرآني ، مكتبة الخانجي ، القاهرة 1990م ، ص 248 .

[18] يوسف رزقة ، القاعدة والذوق في بلاغة السكاكي ، مجلة الجامعة الإسلامية ( غزة ) ، المجلد السابع ، العدد الأول ، يناير 1999م ، ص 194 .

[19] يوسف رزقة ، القاعدة والذوق في بلاغة السكاكي ، ص 194 .

[20] عبد الله مساوي ، محاولات تجديد البلاغة العربية في العصر الحديث .

[21] عبد الرحمن بن خلدون ، المقدمة ، مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد ، القاهرة ،        ( د . ت ، ص 408 .

[22] علي الجارم ومصطفى أمين ، البلاغة الواضحة ( البيان والمعاني والبديع ) ، المكتبة العلمية ، ط 1 ، بيروت 2002م ، مقدّمة المؤلفين . ( وقد اعتنى محمد فرمان الندوي بهذا الكتاب ، وصدر من المكتبة الندوية ، لكناؤ ، الهند ، مزداناً بأمثلة قرآنية وأسئلة تدريبية . التحرير ) .

[23] محمد بركات ، كيف نقرأ بلاغتنا ، ص 27 .

[24] محمد بركات ، كيف نقرأ بلاغتنا ، ص 27 .