اللغة العربية وقدرتها على استيعاب العلوم والفنون

مصادر الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في مختاراته الشعرية
أغسطس 3, 2024
علم البلاغة في العصر الحديث
أغسطس 3, 2024
مصادر الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في مختاراته الشعرية
أغسطس 3, 2024
علم البلاغة في العصر الحديث
أغسطس 3, 2024

دراسات وأبحاث :

اللغة العربية وقدرتها على استيعاب العلوم والفنون

أ . د . محمد قطب الدين الندوي *

مدخل :

تُعتبر اللغة أداةً قويةً للتعبير عما يجول في خواطر الناس ، ووسيلةً هامةً للتواصل بين الأفراد ، كما تُعَدُّ مظهراً من مظاهر الحياة العقلية للأمة والمتحدثين بها . إنها رابطة ترتبط بها الشعوب والأمم في العالم . وفي رأي المؤرخ العربي الكبير عمر فروخ : ” إن اللغة فوق ما هي أداة للتعبير عن النفس وواسطة للتفاهم بين الناس ، جامع قومي يشد بعض أفراد الأمة إلى بعض ويرتبط ماضيَهم بحاضرهم ، واللغة عامل مهم في حياة الأمة وفي توارث خصائصها واستمرار حضارتها ، وفي بقاء تراثها وتطور ثقافتها مستقلة متميزة من كل ما عداها . وذلك عنصر من عناصر بقائها هي ” [1] . وإن اللغة لا تأتي في حيز الوجود دفعةً واحدةً ، بل ترتقي تدريجياً حسب ضرورة الأمة . فكلما طرأت أشياء جديدة وُجدت لها ألفاظ جديدة ، ومع فناء الأشياء تفنى الألفاظ ، فتعيش اللغة في حالة بين الحياة والممات دائماً .

وأما اللغة العربية فهي أرقى اللغات السامية ، بل هي أرقى لغات العالم الحية ، كما يعبر عمر فروخ عن نشأة اللغة العربية ومكانتها بين لغات العالم وتفوقها على سائر اللغات العالمية الحية قائلاً : ” اكتسبت اللغة العربية اسمها من الإعراب أو العُروبة أو العُروبية أي الفصاحة والوضوح والبيان . من أجل ذلك سمى العرب أنفسهم عرباً وسمَّوا سائر الأمم عجماً ( أي لا يُفهم عنهم ما يقولون ) . واللغة العربية أقدم اللغات الحية ، فليس ثمة في العالم لغة محكية أقدم منها ، ولا تزال اللغة العربية تحتفظ بالإعراب تاماً كاملاً ، كما كان شأن جميع اللغات القديمة ، أما معظم اللغات القديمة فقد فقدت الإعراب . ولكننا نجد الإعراب شبه تام في اللغة الألمانية والايسلندية ، ونجد بعض الإعراب في اللغة الدنمركية واللغة الروسية ، وهناك آثار للإعراب في عدد من اللغات الباقية . يبدو أن اللغة العربية انفصلت مع أخواتها الشماليات من اللغة السامية الأم منذ زمن بعيد ، ثم عادت فانفصلت من المجموعة الشمالية أيضاً منذ زمن بعيد . وإذا اعتبرنا اللغة العربية وجدناها أكثر أخواتها الساميات مفردات وأتمها صيغاً وأكملها صرفاً ونحواً وأرقاها بياناً وبلاغةً وأحسنها أسلوباً . من أجل ذلك لا نستبعد أن تكون اللغة العربية هي اللغة السامية الأم الفصحى ، وأن سائر اللغات السامية ، من شمالية كالبابلية والكنعانية والآرامية ، ومن جنوبية كالحبشية والحميرية لهجات ” [2] .

قبولها لكلمات أعجمية :

التمدد والتوسع من طبيعة اللغة العربية . ولها قدرة على هضم الكلمات الأجنبية وتعريبها وتصويغها حسب قوالبها . لذا منذ نشأتها قبلت عدداً لا بأس به من الكلمات الأعجمية من معظم اللغات العالمية الحية كلما اقتضت الضرورة ، وكلما احتك العرب من الأجانب ووجدوا كلمات غريبةً فأخذوها وأدخلوها في لغتهم ثم أخضعوها حسب قواعد العربية ، فأصبحت اللغة العربية ثريةً وغنيةً لا تضاهيها لغة أخرى . وعلى سبيل المثال وردت ألفاظ أعجمية في اللغة العربية ومنها : القنطار والفردوس والياقوت ، والصابون وزنجبيل وكافور والآبنوس والببغاء والخيزران والفلفل والأهليج وغيرها من أسماء النباتات والحيوانات   الهندية [3] . وتدخلت الكلمات الأعجمية إلى اللغة العربية منذ الجاهلية كما يرى عمر فروخ قائلاً : ” ومنذ الجاهلية دخلت على اللغة العربية كلمات أعجمية لم تكن عند العرب ثم طرأت عليهم فأخذوها بأسمائها . غير أن اللسان العربي استطاع أن يصقُلَ هذه الألفاظ الأعجمية حتى أصبح بعضها وكأنه عربي خالص : من هذه الألفاظ : قرطاس ودرهم ودينار وسجل وبرنس وكرسي ودِمَقس واستبرق وقصر . وهذه الكلمات الأعجمية دخلت في الشعر الجاهلي ، وبعضها ورد في القرآن الكريم ” [4] .

واللغة العربية تمتاز بين أخواتها العالمية بأنها لغة كتاب أبدي ، وهو القرآن الكريم ولغة السنة النبوية الشريفة ، حيث قال الله تعالى :     ( إنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) [ يوسف : 2 ] . فقد وسعت اللغة العربية كل الآيات والسور والعظات المذكورة في القرآن الكريم ، والأحاديث النبوية الشريفة . وهذه اللغة مثل البحر الذي توجد في أعماقه الجواهر واللآلي من العلوم والفنون والمواعظ والحكم . كما هي لغة الدين والعلم والفلسفة والأدب .

وللغة العربية ميزات تتميز بها عن أخواتها ، ومنها النحو والصرف والإعراب ودقة التعبير والإعجاز والإيجاز والمترادفات والأضداد والمعاني الكثيرة للفظ واحد والسجع وحكاية الأصوات والأمثال [5] ، كما هي أرقى لغات العالم بكثرة مرونتها ، وسعة اشتقاقها ، وهي غنية باشتقاقها وتصريف كلماتها للدلالة على معان مختلفة ومتنوعة ، كما تدل دلالةً كاملةً على غنى اللغة وصلاحيتها للبقاء ، فعلى سبيل المثال ، اشتق العرب من الضرب : ضرب ، ويضرب ، وإضرِب ، وضارب ، ومضروب ، وآلة الضرب مِضرباً ، ومضراباً ، ويقولون ضاربَه أي جالده ، وتضرّب الشيئ ، واضطرب ، تحرَّك وماج ، وحديث مُضطَرب ، وأمر مُضطرب ، والضريبة ، ما ضربتَه بالسيف ، وضاربه في المال من المضاربة ، كما اُشتُق منه مُضارِباً ومضارَباً [6] ، وقس على هذا الأفعال الأخرى .

ونظراً إلى مدى مرونة اللغة العربية وأهمية اشتقاقها يقول الكاتب العربي أحمد أمين : ” هذه المرونة التامة وهذا الاشتقاق والمجاز والقلب والإبدال والنحت هو الذي جعل اللغة العربية تستطيع أن تكون لغة القرآن الكريم والحديث وما فيها من معان في منتهى السمو والرفعة وما فيها من تعبيرات دينية واجتماعية وتشريعية ، لا عهد للعرب بها في جاهليتهم ، كما استطاعت بعد أن تكون أداةً لكل ما نُقل من علوم الفُرس والهند واليونان وغيرهم . وفي نحو ثمانين سنة من بدء العهد العباسي كانت خلاصة كل هذه الثقافات مدونة باللغة العربية ، والعرب الذين لم يكونوا يعلمون شيئاً من مصطلحات الحساب والهندسة والطب ، ولا شيئاً من منطق أرسطو وفلسفته ، أصبحوا في قليل من الزمن يعبرون بالعربية عن أدق معاني نظريات أَقلِيدِس ، وحساب الجيب الهندي ، وما وراء المادة لأرسطو ، ونظريات الهيئة لبطليموس ، وطب جالينوس ، وحِكم بُزرجمهر ، وسياسة كسرى . وما كانت تستطيع ذلك كله لولا ما بها من حياة ومرونة ورقي ” [7] .

إن اللغة العربية ظلت وسيلة التواصل والتفاهم بين الناس منذ نشأتها . فأينما حل العرب ونزلوا واستوطنوا ذهبوا معهم باللغة العربية وجعلوها لغتهم علماً وديناً كما يلمح إليه أحمد أمين قائلاً : ” وانتقل كثير من العرب من جزيرتهم إلى هذه الأصقاع ، فسكن قوم في فارس ، وقوم في الشام ، وقوم في العراق ، وكانوا أولي الأمر فيها أيام الخلفاء الراشدين والدولة الأموية . وكان المتنقلون من جزيرة العرب إلى هذه الأقاليم أكثر ممن انتقل من الأقاليم المختلفة إلى جزيرة العرب ، ونشر اللغة والدين في كل هذه البلاد المفتوحة ، وأصبحت الثقافة مصبوغةً بالصبغة العربية ، وأصبحت لُغة العلم هي اللغة العربية ” [8] .

حقاً ، اللغة العربية كانت ولا تزال تصلح للتعبير عن الأفكار والأخيلة ، وتقدر على تناول العلوم والفنون في كل مرحلة من مراحل حياتها التاريخية . إن كانت هذه اللغة صالحةً للشعر والأدب في عصرها الجاهلي ، فأصبحت اللغة العربية لغة العلم والمعرفة بعد مجيئ الإسلام . وكل من دخل في الإسلام من أمم العالم وشعوبها ، أصبحت اللغة العربية أداةً لتفكيرها . وامتزج فكر العرب وفكر الفُرس وفكر الروم وفكر المصريين بعضها بالبعض وجعل اللغة العربية وسيلةً للتعبير نطقاً وكتابةً [9] .

وقد أثّر الإسلام في حياة العرب الدينية والاجتماعية والسياسية والفكرية بعيد الأثر . وما زالت تتمحور جميع الحركات العلمية حول الدين الإسلامي حتى أواخر العصر الأموي وتبنّت اللغة العربية لغتها . والسيرة النبوية – صلى الله عليه وسلم – وغزواته وفتوح المسلمين كانت منبعها التاريخ . واستُخرج الفقه من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف . والعلماء والمثقفون كانوا يناقشون التفسير والحديث والفقه كموضوع للنقاش .

وعندما ندخل في العصر العباسي ننبهر أمام العلوم والفنون التي نُقلت إلى اللغة العربية ، ” جاء العصر العباسي فرأينا مظهراً آخراً – رأينا العلوم الدنيوية تفيض فيضاً في المملكة الإسلامية ، فتُترجم الفلسفة اليونانية بجميع فروعها من طب ومنطق وطبيعة وكيمياء ونجوم ورياضة ، وتُترجم الرياضة الهندية والتنجيم الهندي ، ويُترجم تاريخ الأمم من فُرس ويونان ورومان وغيرهم ” [10] .

ومن البيانات المذكورة وصلنا إلى نتيجة أن أصل اللغة العربية ثابت في الأرض وفرعها في السماء . ولم تقبل الضعف والاضمحلال والزوال والفناء عبر العصور والقرون ، بل هي متينة ونابضة بالنشاط والحيوية والشباب في كل آن ومكان . وإذا لم يكن هذا الشأن للغة العربية لما كانت صالحةً لنقل العلوم والفنون والحِكَم والفلسفة والنصوص الأدبية إلى اللغة العربية في عصر ” بني أمية ” ، ثم في العصور المتعاقبة وخاصة العصر العباسي ( الأول والثاني ) ، ولا سيما في عهد       ” هارون الرشيد ” ، و ” مأمون الرشيد ” حيث نُقلت العلوم والفنون من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية عن طريق الترجمة مما كان له عظيم الأثر في إثراء العلوم العربية وآدابها والعقل العربي كذلك . ” فإن الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد أنشأ دار الحكمة وعين بها مترجمين ليترجموا كتباً أجنبيةً من اليونانية والفارسية والهندية والرومية وترجمت في عصره كتب في مختلف فروع المعرفة في تلك الأيام بما فيها الطب والهندسة وعلم الفَلك والزراعة ” [11] . ويذكر التاريخ لهذين العصريْن فضل إنشاء مدرستي : ” جنديسابور ” ، و ” بيت الحكمة ” اللتيْن كانتا من أهم مراكز الترجمة في تلك العصور . يقول الدكتور يوئيل يوسف عزيز : ” وقد نشطت الترجمة في ظل الدولة العباسية التي تسلمت الحكم بعد سقوط الدولة الأموية في عام750 للميلاد . فقد نقلت إلى العربية مؤلفات عديدة من الفارسية والسنسكريتية والسريانية والإغريقية ، ولم يمض سبعون عاماً على بناء بغداد حتى أصبحت مكتباتها تزخر بكثير من الكتب المترجمة لأشهَر كُتّاب العالِم القديم في الفلسفة والطب والعلوم الأخرى ” [12] .

ومن الجدير بالذكر أن مراكز الترجمة تلك قد عملت على نقل العلوم والفنون المتنوعة لدى الحضارات والثقافات المتزامنة ، و ” أنها شملت كل ما استطاع العرب نقله من علوم الهند والفرس واليونان ، وكان أكثر ما نقلوه عن الفرس والهند في مجال الفلك والرياضيات ، ونقلوا عن اليونان إمَّا عن اليونانية مباشرةً وإمَّا عن السريانية والفارسية مجموعات العلوم التي تتصل بهم من الرياضيات والعلوم الطبيعية ” [13] . ويقول جرجي زيدان : ” وجملة القول أن المسلمين نقلوا إلى لسانهم معظم ما كان معروفاً من العلم والفلسفة والطب والنجوم والرياضيات والأدبيات عند سائر الأمم المتمدنة في ذلك العهد ولم يتركوا لساناً من ألسن الأمم المعروفة إذ ذاك لم ينقلوا منه شيئاً وإن كان أكثر نقلهم من اليونانية والفارسية والهندية . فأخذوا من كل أمة أحسن ما عندها ، فكان اعتمادهم في الفلسفة والطب والهندسة والموسيقى والمنطق والنجوم على اليونان ، وفي النجوم والسير والآداب والحكم والتاريخ والموسيقى على الفرس ، وفي الطب       ( الهندي ) والعقاقير والحساب والنجوم والموسيقى والأقاقيص على الهنود وفي الفِلاحة والزراعة والتنجيم والسحر والطلاسم على الأنباط والكِلدان ، وفي الكيمياء والتشريح على المصريين ” [14] .

اعتنى العرب بترجمة علوم ومعارف العالم إلى اللغة العربية على نطاق لم يُشهد له مثيل في تاريخ الأمم والحضارات . و ” بيت الحكمة ” في العهد العباسي واهتمام الأمراء والحكام بنقل العلوم والمعارف من الحضارات القديمة كاليونان والهند وفارِس على أوسع نطاق ، قد فتح الأبواب على مِصراعيه لدخول العلوم والفنون من الطب والنجوم والهندسة والفلك والآداب إلى اللغة العربية والذي مهد لانطلاق ثورة علمية مبهرة في العالم العربي والإسلامي ، وفي رأي المؤرخ الدكتور شوقي ضيف : ” . . . وكل هذه السيول من الترجمة كانت تجري معها سيول أخرى من تراث اليونان والفرس والهند ، حتى ليكاد الإنسان يظن أنه لم يبق شيئ من هذا التراث لم ينقل إلى العربية ، سواء منه ما اتصل بالعلوم أو ما اتصل بالصناعات أو ما اتصل بالعجائب والأسمار والخرافات ، أو ما اتصل بالملل والنحل . وكانت كل هذه السيول تتجمع في دكاكين الوراقين ، ويُطلب كلُّ منها ما يجد فيه متاعه ” [15] .

ومن أهم المؤلفات التي ترجمت إلى العربية : ” كليلة ودمنة ” ،       و ” السند والهند ” ، وكتب ” أرسططاليس ” ، وكتاب ” المجسطي ”       لـ ” بطليموس ” ، وغيرها من الكتب المرجعية والمصدرية في مختلف العلوم والفنون والتي تزدان بها المكتبات العربية والإسلامية .

ومن نافلة القول أنه لم يبق لنا علم من العلوم المتنوعة للأمم الأخرى إلا ترجم إلى اللغة العربية في هذا العصر ، وذاب في المجتمع العربي وأصبح عنصراً هاماً من عناصر العلوم العربية وآدابها . وإن العرب لم يتفهموا ولم يتفقهوا في الفلسفة وعلوم الأوائل فحسب بل أسهموا فيها إسهاماً كبيراً وأضافوا إضافةً جديدةً منفردةً صنعت التاريخ في الحضارة الإنسانية ، من أمثال جابر بن حيان ( ت 815 ) ، الذي اعتنى بعلم الكيمياء وجرّب تجربةً ناجحةً ، وله نظريات في الإكسير وخواصه ، وله مؤلفات أكثر من مائة وتُرجمت معظمها إلى اللغة اللاتينية ومنها ” أسرار الكيمياء ” و ” أصول الكيمياء ” و ” علم الهيئة ” و ” الرحمة ”                و ” المكتسب ” و ” مجموع رسائل ” . واستفاد منها الغرب استفادةً حتى أثّرت في نهضة الأبحاث الكيمائية في أوروبا . ومن لا يدري ابن النديم ، المؤسس الأول لعلم الكيمياء عند العرب . والخُوارِزمي ، المؤسس الأول لعلوم شتى مثل العلوم الرياضية والفلكية والجغرافية ، وهو أحد منجمي المأمون ، وله كتاب شهير ” الجبر والمقابلة ” ، كما اشتهر كثير من العلماء العرب في الطب وعلم العقاقير ، ولهم رسائل وكتب في الأمراض وطرق علاجها وتركيب العقاقير ، منهم يوحنا ابن ماسويه الذي أضاف نتائج مهمةً حديثةً إلى نتائج جالينوس في علم التشريح . ( تشريح القردة خاصة ) . وهو صاحب رسالة قيمة ذاع صيتها في العالم في طب العيون باسم ” دغَل العين ” ، وتُرجمت إلى اللغة اللاتينية أيضاً . وهو يُعتبر المؤسس الأول للأبحاث الطبية العربية [16] .

وابن الهيثم ، وهو مفخرة للعالم العربي الذي له إسهامات كبيرة في الرياضيات والبصريات والفيزياء والفلك والهندسة وطب العيون والفلسفة العلمية والإدراك البصري . وله العديد من المؤلفات والمكتشفات العلمية ، ومنها ” كتاب المناظر ” و ” رؤية الكواكب ” ، ومقالة في ضوء النجوم ، ومقالة في ضوء القمر وغيرها .

وأبو القاسم الزهراوي وهو من أعظم الجراحين العرب ، وقد لُقّب بأبي الجِراحة الحديثة . ومن تأليفاته كتاب ” التصريف لمن عجز عن التأليف ” في ثلاثين مجلداً وهو يُعتبر موسوعةً طبيةً . وله ” المقالة في عمل اليد على فن الجراحة . وإنه قد استنبط التقنيات الطبية التي لها بعيد التأثير شرقاً وغرباً ، ولا يزال يُستخدم بعض اختراعاته حتى يومنا هذا .

وها هو ابن سينا الذي اشتهر بالطب والفلسفة واشتغل بكلا المجالين . وسُمّي بأمير الأطباء وأبي الطب الحديث في العصور الوسطى . وقد ألّف كتباً كثيرةً في مواضيع مختلفة ، العديد منها يركّز على الفلسفة والطب . ويُعد ابن سينا أول من كتب عن الطبّ في العالم . وأشهر أعماله ” كتاب القانون ” في الطب ، و ” الشفاء ” و ” النجاة ”        و ” الإشارات والتنبيهات ” ، و ” الحدود ” في الفلسفة والمنطق [17] . هذه الأسماء غيض من فيض ، وعلى سبيل المثال ولا على الحصر . وقد صدق من قال :

أولئك آبائي فجئني بمثلهم  إذا جمعتنا يا جرير المجامع

وأما فترة النهضة الأخيرة ( وهي من ثماني مائة وواحد حتى أوائل القرن العشرين ) فإنها أيضاً لم تخلو من تعليم الطب باللغة العربية في المدرسة الطبية بمصر التي أسست في عام 1826 في مصر . ولها إسهامات جليلة في تربية وتخريج الأطباء والمترجمين للعلوم الدخيلة إلى اللغة العربية . و ” ما زال التعليم في المدرسة الطبية باللغة العربية يتخرج فيها الأطباء والعلماء بالعربية ويؤلفون في العربية . وهم نخبة رجال هذه النهضة وعليهم كان المُعوَّل في نقل العلوم الحديثة بالترجمة أو التأليف أو التلخيص ، ظلوا على ذلك نحو سبعين سنة ” [18] .

وتسببت النهضة في نقل العلوم والفنون من كتب الطب والطبيعيات والرياضيات والعلوم الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية من اللغات الأوروبية إلى اللغة العربية كما نُقلت الآداب الغربية نثراً ونظماً . ومن أهم العلوم والفنون التي نُقلت إلى العربية للتدريس في المدارس الكبرى بمصر والشام هي الطب والطبيعيات والرياضيات . ويرى جرجي زيدان بأنه ” كان عند العرب قبل هذه النهضة كثير من العلوم الطبية والطبيعية والرياضية وغيرها ، لكن ما نقلوه في هذه النهضة يختلف عما كان عندهم – وإن كثيراً من هذا المنقول أخذه الأفرنج أصلاً عن العرب ، لكنهم رقَّوه بالاكتشافات والاختراعات حتى صار يُعرف بهم ، كما فعل العرب قبلهم بما نقلوه عن اليونان والفرس والهند من كتب الطب والفلسفة ، فإنهم رقَّوها وأضافوا إليها وصارت تُنسب إليهم ” [19] . ومن اللافت للنظر بأنه اشتغل العلماء العرب من مصر وسوريا بنقل أو تأليف العلوم من الطب والطبيعيات والنبات والجيولوجيا والكيمياء وغيرها خلال النهضة الأخيرة .

أما واقع اللغة العربية اليوم فإنها لغة ينطق بها سكان ثلاث وعشرين (23) دولة تقريباً ما عدا المتحدثين بها غير العرب عبر العالم ، وأصبحت العربية من اللغات العالمية المعدودة أكثر تحدثاً في العالم . كما اعتبرت هيئة الأمم المتحدة ضمن اللغات الست ، وهي العربية والإنجليزية والروسية والصينية والفرنسية والإسبانية في عام 1973م . والآن هي معترف بها لدى جميع المنظمات العالمية وأصبحت إحدى اللغات الرسمية الست في منظمة الأمم المتحدة ، ومنظمة اليونسكو ، ومنظمة الصحة العالمية ، ومنظمة الأغذية والزراعة ، ومنظمة العمل الدولية ، ومنظمة الإيسسكو ، والألكسو ، ومنظمة التعاون الإسلامي ، ورابطة العالم الإسلامي ، والبنك الإسلامي للتنمية ، ومنظمة الوحدة الأفريقية ، وكذلك منظمة السياحة العالمية ، والمنظمة العالمية للأرصاد الجوية ، وجامعة الدول العربية ، ومجلس التعاون الخليجي ، ومكتب التربية العربي لدول الخليج ، والندوة العالمية للشباب الإسلامي [20] . ونظراً إلى أهمية اللغة العربية الكبيرة تاريخياً وثقافياً وحضارياً وتداولِها عالمياً وسعةِ انتشارها جغرافياً ، أعلنت الأمم المتحدة في عام 2010م عن الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية الذي يصادف 18 ديسمبر كل سنة .

ملخص القول :

تحمل اللغة العربية في طياتها درراً كامنةً من الروعة والجمال والفصاحة والبلاغة الأدبية التي لا تضاهيها الآداب العالمية الأخرى لفظاً ومعنىً . وهي همزة وصل وجسر للتواصل بين العرب وغير العرب من المسلمين في كافة أنحاء العالم ، وهي تجمع شملهم وتوحّدهم كأمة واحدة بل كجسد واحد . المسلمون عبر العالم يدرسون ويدرّسون اللغة العربية في المدارس والمعاهد والجامعات الأهلية منها والحكومية ، ويتحدثون بها وينشرونها ويعززونها قراءةً وكتابةً ونطقاً .

ويبلغ عدد المتحدثين باللغة العربية في الوطن العربي اليوم أكثر من 500 مليون نسمة ، ما عدا المتحدثين المسلمين الذين يجيد بعضهم التحدث والقراءة بهذه اللغة [21] . وتُدرس العلوم والفنون باللغة العربية في الجامعات في كثير من البلدان العربية .

هذا ، وهناك اتهامات وادعاءات بأن اللغة العربية عاجزة عن مواكبة الحضارة العلمية الحديثة . فهي غير صحيحة ونظرية عدائية تجاه اللغة العربية . لأنه مهما كانت اللغة ، جميعها متساوية من حيث الإمكانات ، وقادرة على تلبية حاجات المجتمع الدينية والثقافية والحضارية والعلمية في كل عصر ومصر . واللغة التي صلحت لمواكبة الحضارات والثقافات عبر عصورها ، صالحة اليوم أيضاً للمسايرة مع الاختراعات والاكتشافات . والشيئ الذي تحتاج إليه اللغة العربية اليوم هو الاعتناء والاهتمام البالغان من قبل المتحدثين والمهتمين بها . فاليوم نرى الاتجاه الأدبي أكثر من الاتجاه العلمي بين الدارسين والمتحدثين باللغة العربية . والمؤلفات الأدبية تفوق على المؤلفات العلمية في البلدان العربية وخارجها . واللغة العربية حتى اليوم صالحة لمواكبة الاختراعات والاكتشافات العلمية والثقافية على حد سواء . والحاجة إلى العناية بالعلوم والفنون نقلاً وتأليفاً باللغة العربية ، وإلى خلق الفرص للاستفادة بها والعمل فيها . وقد صدق المفكر العربي أحمد أمين حيث قال : ” ونحن لو درسنا الشرق لرأينا فيه من الكفايات ما يكفي العلم والأدب جميعاً . فالجو الذي أخرج ابنَ الهيثم يستطيع أن يُخرج أمثاله من العلماء لولا أن الشعب لظروفه وجّه ناشئيه إلى الأدب . ولو وُجِّهوا إلى العلم ، لكانوا بحسن استعدادهم نابغين . فعلى الشرق الآن عبء ثقيل هو أن يعوّض عن القصور في العلم فيما مضى ، النهوض بالعلم في الحاضر . ونحن إن فعلنا ذلك ، امتلأت كتب تراجمنا بالعلماء والأدباء على السواء ” [22] .

ويحلو لي أن أختم كلامي بمشاعر شاعر النيل حافظ إبراهيم على لسان حال اللغة العربية :

وسِعتُ كِـــتابَ اللهِ لَــــفـــظاً وغايةً  وما ضِـــــقْتُ عن آيٍ به وعِــــــظاتِ

فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلةٍ  وتَــــنْـــسِيــــقِ أســــماءٍ لـــمُـخْترَعاتِ

أنا البحر في أحشائه الدر كــامن  فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي

فيا وَيحَكُم أبلى وتَبلى مَحاسِـــني  ومـــــنْـــــكمْ وإنْ عَزَّ الدّواءُ أُساتِي

فلا تَــــكِــــــلُونـــــي للـــزّمانِ فإنّني  أخافُ علــــــيـــكم أن تَحينَ وَفاتي

أرى لرِجالِ الـــــغَـــــربِ عِــزّاً ومَــنعَةً  وكــــــــم عَــــــزَّ أقــــوامٌ بــعِــزِّ لُغاتِ

أتَوْا أهلَهُم بالــــمُـــــعــــــجِزاتِ تَفَنُّناً  فيـــــا لـــيــــتَـكُمْ تأتونَ بالكلِمَاتِ

* مركز الدراسات العربية والإفريقية ، جامعة جواهرلال نهرو ، الهند .

[1] تاريخ الأدب العربي ، عمر فروخ ، الجزء الأول ، دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة الثانية ، 1969 ، ص 34 – 35 .

[2] تاريخ الأدب العربي ، عمر فروخ ،  الجزء الأول ، دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة الثانية ، 1969 ، ص 35 – 36 .

[3] ضحى الإسلام ، أحمد أمين ، الجزء الأول ، الطبعة السابعة ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، ص 246 .

[4] تاريخ الأدب العربي ، عمر فروخ ،  الجزء الأول ، دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة الثانية ، 1969 ، ص 37 – 38 .

[5] تاريخ آداب اللغة العربية ، جرجي زيدان ، الجزء الأول ، منشورات دار مكتبة الحياة ، بيروت ، ص 46 – 50 .

[6] ضحى الإسلام ، أحمد أمين ، الجزء الأول ، الطبعة السابعة ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، ص 289 – 290 .

[7] ضحى الإسلام ، أحمد أمين ، الجزء الأول ، الطبعة السابعة ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، ص 29 – 291 .

[8] ضحى الإسلام ، أحمد أمين ، الجزء الثاني ، الطبعة السابعة ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، ص 5 .

[9] ضحى الإسلام ، أحمد أمين ، الجزء الثاني ، الطبعة السابعة ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، ص 5 .

[10] ضحى الإسلام ، أحمد أمين ، الجزء الثاني ، الطبعة السابعة ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، ص 8 .

[11] فن الترجمة ، ص 16 .

[12] مبادئ الترجمة من الإنجليزية إلى العربية ، ص 16 ، نقلاً عن فن الترجمة لسيد إحسان الرحمن ، ص 12 – 13 .

[13] شوقي ضيف : تاريخ الأدب العربي ، العصر العباسي الثاني ، ط ٢ ، دار المعارف ، القاهرة ، سنة الطباعة لم تذكر ، ص ١٢٩ – ١٣٠ .

[14] تاريخ آداب اللغة العربية ، جرجي زيدان ، الجزء الثاني ، ص 35 .

[15] شوقي ضيف : تاريخ الأدب العربي ، العصر العباسي الأول ، ط ٢ ، دار المعارف ، القاهرة ، سنة الطباعة لم تذكر ، ص 117 .

[16] شوقي ضيف : تاريخ الأدب العربي ، العصر العباسي الأول ، ط ٢ ، دار المعارف ، القاهرة ، سنة الطباعة لم تذكر ، ص 116 – 117 .

[17] المنجد في اللغة والأعلام ، الطبعة الخامسة والأربعون ، 2012 ، دار المشرق ، بيروت ،    ص 10 .

[18] تاريخ آداب اللغة العربية ، جرجي زيدان ، الجزء الثالث ، ص 388 – 392 .

[19] تاريخ آداب اللغة العربية ، جرجي زيدان ، الجزء الثالث ، ص 529 .

[20] 100 سؤال عن اللغة العربية ، مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية ، الرياض ، الطبعة الثانية ، ص 20 .

[21] نفس المصدر ، ص 21 .

[22] ظهر الإسلام ،أحمد أمين ، الجزء الثاني ، الطبعة الثالثة ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، ص 273 .