قصة ذي القرنين وما يستفاد منها

قصة موسى والخضر عليهما السلام ، وما لها من دروس ( الحلقة الثانية الأخيرة )
يوليو 3, 2024
نجاة المؤمنين : دراسة علمية في ضوء حديث : من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ( الحلقة الثانية )
أغسطس 3, 2024
قصة موسى والخضر عليهما السلام ، وما لها من دروس ( الحلقة الثانية الأخيرة )
يوليو 3, 2024
نجاة المؤمنين : دراسة علمية في ضوء حديث : من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ( الحلقة الثانية )
أغسطس 3, 2024

التوجيه الإسلامي :

قصة ذي القرنين وما يستفاد منها

الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي

تعريب : محمد فرمان الندوي

( وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى ٱلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً . إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى ٱلأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً . فَأَتْبَعَ سَبَباً ) [ الكهف : 83 – 85 ] .

كانت في قديم الزمان ملوكية ، فيكون الملك مستبداً وجائراً ، وتحصل له جميع الخيارات للعزل والنصب ، يفعل ما يشاء ، وكان في مثل هذه العصور ملك يسمى ذا القرنين ، إنه وضع نصب عينيه ابتغاء وجه الله أثناء تمكنه من سرير الدولة ، واختار طرقاً ومناهج معتدلةً لتسيير نظامها ، فخرج مدججاً بالأسلحة ، مع عساكره وجنوده ، وفتح البلدان والأقطار ، ورد في القرآن الكريم أنه بلغ من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ، مدوخاً نظام حكومته فيهما ، ولما بلغ ذو القرنين مغرب الشمس ، حيث كان الناس يسكنون ، فخضعوا لذي القرنين ، وانقادوا له ، فخيَّر الله لذي القرنين : إما أن يختار منهج الملوك الفاتحين ، فيعذب الناس ، وينكلهم بأنواع من العذاب ، وينهب منهم أموالهم ، أو أن يتخذ منهم حسناً ، وهو تعامل الحب والمواساة مع الناس ، هذا ما يرضاه الله تعالى ، فقال ذو القرنين : أما من ظلم فسوف نعذبه عذاباً نكراً ، وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى ، وسنقول له من أمرنا يسراً ، كأن ذا القرنين اعترف بأنه سيقيم دولةً مؤسسةً على الإيمان ، ويختار موقفاً إيمانياً ، ويسعى في إصلاح الناس وتربيتهم ، لكن إذا كان الناس لا يرغبون في الصلاح والإصلاح فنعاقبهم بالعقوبات الإسلامية .

ذو القرنين على مطلع الشمس :

بدأ ذوالقرنين يوسع حدود مملكته ، ويتقدم شيئاً فشيئاً بعساكره ، حتى مر بمناطق نائية في الشرق ، حيث كان الناس يسكنون ، وكانت الشمس تطلع عليهم ، لم يجعل الله بينها وبينهم ستراً وحاجزاً ، أي لا يملكون من اللباس ما يغطون به أجسامهم ، ولا من المنازل التي يعيشون فيها ، بل كانوا خلقاً من نوع جديد ، يقول القرآن الكريم : ( كَذٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ) ، أي أن ذا القرنين عاملهم معاملةً يرضاها الله تعالى .

سد ذي القرنين ويأجوج ومأجوج :

تقدم ذو القرآنين إلى الأمام ، فمرا بمكان كان يتقارب فيه سدان منيعان ، فقد رأى هناك رجالاً لا يكادون يفقهون قول ذي القرنين ، كأنهم قوم وحوش ، وظلوا قلقين من صروف الزمان ، فذكروا أمام ذي القرنين مشكلاتهم ، وقالوا : يا ذا القرنين ! إن يأجوج ومأجوج قوم أشرار ، يعثيون في الأرض الفساد ، فنحن نتعرض من قبلهم لمصايب تترى ، وأنت ملك عظيم في العالم ، فهل لك أن تنقذنا من هذه المشاكل والابتلاءات ، وإذا كانت نفقات ومصاريف للإنفاق في هذا الأمر وفّرنا لك ، لأنك تحمل وسائل وأدوات ، وأنت ملك من ملوك العالم ، فأقم بيننا وبينهم سداً نتخلص به من هذه المصيبة .

تدبير ذي القرنين الحكيم :

أخذ ذو القرنين طلب هذه المنطقة بكل جدية ، وقال : إن ما أعطاني الله تعالى من الوسائل والأسباب ، وما وفّر لي من طرق المساعدة هو خير لي ، فأنصركم نصراً مؤزراً ، فأعينوني بقوة ، لا أجرة لي على هذا العمل ، وإعانتكم بهذه المناسبة أن توفروا من أدوات إقامة السد مثل الحديد وغيره ، حتى إذا ساوى بين الصدفين فيقام جدار بوضع صفائح الحديد ، ثم تنفخ فيها النار ، فتذوب هذه الصفائح ، وتغلق جميع الأحجار المتخللة في الجدار ، وتملأ بالمواد السائلة ، ليكون الجدار محكماً ، فلا يكون في وسع يأجوج ومأجوج أن يتسوروا الجدار ، أو ينقبوا فيه ، فكيف يمكنهم نقب هذا الجدار الحديدي ؟

نصيحة ذي القرنين :

حينما أعجب بهذا التدبير جميع سكان المنطقة قال ذوالقرنين : هذا رحمة من ربي منّ الله بها علي ، وأنا أنجزه بتوفيقه وفضله ، وبذلك تتوقف غارات يأجوج ومأجوج على سكان المنطقة ، لكن الله قادر على كل شيئ ، فإذا أراد أن يزيل هذا السد ، الذي منع فتنة يأجوج ومأجوج من الخروج إلى الناس ، أزاله وهدمه من الأرض ، ثم يخرج هؤلاء الوحوش ويفسدون في الأرض فساداً ، فيهلكهم الله تعالى ، كما ورد في صحيح مسلم : يحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه ، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم ، فيصبحون فرسى ، كموت نفس واحدة ( مسلم ، كتاب الفتن ، وأشراط الساعة ، باب ذكر الدجال وصفته وما معه : 7560 ) .

امتداد فتنة يأجوج ومأجوج :

كان يأجوج ومأجوج قوماً وحوشاً ، يفسدون في الأرض ، وينهبون أموال الناس ، ولم يكن وراء ذكر قصة يأجوج ومأجوج في القرآن الكريم إلا أن الإنسان إذا وثق بنفسه ، واعتمد على أمواله أفسد في الأرض ، وأهلك الحرث والنسل ، حتى يتقلب نظام العالم ، وذلك حينما لا يعمل الإنسان بأحكام الله ، ويؤثر متطلبات الدنيا ، وقضاياها ، لمصالحه الذاتية ، وإذا لم يكن هناك خشية الله تعالى ، فهناك أنشأ الله وسائل أسلحة تأتي بدمار شامل أحياناً ، مثل السلاح النووي الذي صنعه المثقفون يكفي لإهلاك الناس ، هذا هو السلاح التي أطلق على هروشيما وناغاساكي فأهلك مآت الآلاف من الناس ، في ثانية واحدة ، ولم تكن جريمتهم إلا أنهم ما سمحوا المستعمرين بالاستيلاء على أراضيهم ، وكانوا يدافعون عن وطنهم ، فاستعمل هذا السلاح ، وتحولت المدينتان إلى قاع صفصف ، الواقع أن الناس أتوا بهذا الدمار الشامل بالوسائل التي منحههم الله تعالى ، وعلى أساس الأسلحة التي توافرت من الله تعالى ، فلم يمنحهم الله للإفساد في الأرض ، بل منحهم للابتلاء والامتحان : من يكون صالحاً رغم نيل هذه القوة الخارقة للعادة ، ومن ينخدع من الوسائل والأسباب مغروراً بها ، ويضر بالآخرين .

جوانب ذات عبرة :

في قصة يأجوج ومأجوج نموذجان لمعرفة الخير والشر ، أكرم الله تعالى ذا القرنين بالمال والأسباب المادية فأنفق في جهات الخير ، وأحسن إلى الناس ، كما أعطى يأجوج ومأجوج قوةً ومناعةً بدنيةً ، فأفسدوا بها في العالم ، فاتضح منه أننا إذا أسأنا استعمال الوسائل المادية وتبجحنا بأسباب الدنيا ، واستعملناها في إفسادها ، ولا ننظر في ذلك إلى مرضاة الله تعالى ، فكان ذلك اتباعاً لنظرية يأجوج ومأجوج ، والحضارة الغربية أكبر نموذج لهذه الفكرة والمنهج ، وهي تدفع الإنسانية إلى هوة من الهلاك والدمار ، وأوضح دليل له غارات نووية على هيروشيما وناغاساكي ، فقد أثبت بها أتباع الحضارة الغربية أن من لا يخضع أمامهم ، ولا يستسلم أمرهم يغيرون عليهم ، ويبيدونهم إبادةً كاملةً ، فلا بد من استسلام أمرهم ، والانقياد لهم ، وإلا كانت عاقبتهم وخيمةً .

غرور الوسائل :

الواقع أن الاعتماد على الوسائل والأسباب إذا كان زايداً أصبح الإنسان مصاباً بالأنانية والغرور ، وبدأ يدعي بألوهيته ، واعتبر نفسه بمنزلة الإله الواحد ، ثم تنشأ فيه فكرة أنه حر طليق ليس عليه تبعة أحد ، ولا يحمل دين ولا شريعة في نظره قيمة ولا أهمية ، فالأصل والأساس هو استغلال المنافع ، من أي جهة حصلت ، فالفكرة الأساسية لأوربا أو الحضارة الغربية هي نيل المنفعة العاجلة ، ولا فرق في ذلك بين خير وشر ، ولا نقاش في هذا أن ذلك الأساس يضر أحداً أو ينفع آخر ، وإن كان على حساب الإنسانية ، فإذا كانت فيه مصالحنا ومنافعنا قمنا بهذا العمل على أتم وجه .