الهجرة النبوية : حادث في التاريخ كبير

اللهم قد بلغت ، اللهم فاشهد ( الحلقة الأولى )
يوليو 3, 2024
عظمة النبي صلى اللّه عليه وسلم ( الحلقة الرابعة )
أغسطس 3, 2024
اللهم قد بلغت ، اللهم فاشهد ( الحلقة الأولى )
يوليو 3, 2024
عظمة النبي صلى اللّه عليه وسلم ( الحلقة الرابعة )
أغسطس 3, 2024

الدعوة الإسلامية :
الهجرة النبوية : حادث في التاريخ كبير
الأستاذ محمّد عرفات عبيد الله الوانميلي 
الهجرة صفحة تاريخية أثرت تأثيراً قوياً في فشو الملة الحنيفية السمحة وإبرازها بين الخلائق مع استدراك العزة والهمة ، فلا ينبغي للمسلم مداومة ذكراه واستذكار دعواه في شدائد حياته الدينية والدنيوية ، واسترجاع مقاديره ومهاراته في الخدمات العلمية والدعوية لنشر دين الله الإسلام .
حينما نطّلع على مثار تاريخ الهجرة ، نعرف أنه قد كان تعامل المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام بالمظالم الصعبة والمشاكل المختلفة لفتح باب الهجرة للمسلمين ، حيث أدت بالصحابة رضي الله عنهم إلى هجرة من بلدهم الأم مكة إلى الحبشة دار النجاشي والنصارى أولاً ثم إلى يثرب دار الأنصار واليهود ثانياً .
ولما كثر عدد الصحابة وأسلم عديد من قبائل مكة ويثرب ، اشتد ضرر المشركين حيث أخذوا يعذبونهم بأنواع المحن ويفتنونهم بأنواع الفتن ، حتى قادهم ذلك إلى تآمر جديد لإعدام النبي صلى الله عليه وسلم في جوف الليل ، وذلك لما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اجتمع معه أصحاب وأنصار في المدينة ولا سلطان لهم عليه ، تخوّفوا من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب ، وعرفوا أنه إذا كان ذلك فلا حيلة لهم فيه ، فاجتمعوا في دار الندوة ، وتشاوروا فيما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واجتمع فيها أشراف قريش .
حتى أجمعوا على أن يؤخذ من كل قبيلة فتى شاب ذو شجاعة وجلادة في ذلك الأمر ويقتل هؤلاء النبي صلى الله عليه وسلم في ظلم الليل ، ويضربوه ضربةَ رجلٍ واحدٍ ، فحينئذ يتفرق دمه في القبائل جميعاً فلا بأس به ، حتى تفرقوا .
ولكن أخبر الله تعالى رسوله بهذه المؤامرة ، فأمر عليّاً رضي الله عنه أن ينام على فراشه حتى خرج من بيته ينثر التراب في أعينهم وهم يطوفون البيت بنصرة الله تعالى ، ولما أصبحوا رأوا علياً نائماً على فراشه ، وقال فيهم قائل : خرج محمد ! ، فانقلبوا خائبين .
تخطيط النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للهجرة :
ولما تمت العقبة الثانية وإسلام ثلاثة وسبعين رجلاً من قبائل يثرب الأوس والخزرج ، بايع هذا الوفد من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه في بلادهم ، أوى إليهم عدد من المسلمين ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والتهيؤ للهجرة بأموالهم وأنفسهم واللحوق بإخوانهم من الأنصار ، وقال : ” إن الله عز وجلّ قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها ” ، فخرجوا أرسالاً .
وذلك كان في سنة 622م وبعد 14 سنة بعد البعثة ، والنبي صلى الله عليه وسلم في الثالث والخمسين من عمره ، ولم تكن الهجرة سهلةً لهم ، لأن قريشاً لما سمعوا عنها وضعوا عقبات ونثروا أشواكاً في طريقهم إلى المدينة ، وامتحنوا المهاجرين بأنواع المحن كما عاملوا مع أبي سلمة رضي الله عنه في هجرته ، وأكثرهم تركوا أموالهم لدين الله كما فعل صهيب الرومي رضي الله عنه ، منعه قريش من أخذ ماله فقال لهم : ” أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي ؟ ” ، قالوا : ” نعم ” ، قال : ” إني جعلت لكم مالي ” ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ” ربح صهيب ، ربح صهيب ” .
وهاجر الصحابة رضي الله عنهم وفداً وفداً ، منهم عمر بن الخطاب ، وطلحة ، وحمزة ، وزيد بن حارثة ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام ، وأبو حذيفة ، وعثمان بن عفان وآخرون رضي الله عنهم أجمعين ، وتتابعت الهجرة يوماً بعد يوم ، ولم يتخلف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة غير من حبس وفتن ، وإلا علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهما .
حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر رضي الله عنه ، فقال له : ” إن الله قد أذن لي في الهجرة ” ، فقال : ” الصحبة يا رسول الله ” ، فقال : ” الصحبة ” ، وبكى أبو بكر رضي الله عنه من الفرح ، وقدم أبو بكر راحلتين كان قد أعدَّهما لهذا السفر ، واستأجر عبد الله ابن أريقط ليدلهما على الطريق .
فالهجرة علمت الأمة المحمدية حركة دينية ودعوية حيث توصلهم إلى أن يتركوا أحبابهم ومنازلهم ومناصبهم لدين الله ، فما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث كانت الكعبة المشرفة التي هي أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مما سواها في مكة ، وفيها مسكنهم وأهل بيتهم وضاقت الأرض بما رحبت للتمسك بهذه الملة الحنيفية والتحمل بعضّ النواجذ لمثل هذه الشدائد والمحن ، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم مخاطباً لمكة وقت الهجرة : ” ما أطيبك من بلد وأحبّك إليّ ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك ” .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه للهجرة ، وكان في رهطه أربعة رجال ، هم رسول الله ، وأبو بكر الصديق ، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر وعبد الله بن أريقط دليلهما ، ولما خرج من مكة ، وصلا غار ثور ودخلا فيه ، وأخذا يختفيان فيه من وصول المشركين إليهما ومكثا فيه ثلاث ليال ، فعلى هذا ، أمر أبو بكر ابنه عبد الله بن أبي بكر أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر ، وأمر عامر ابن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ، ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار ، وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما .
خريطة الهجرة من مكة إلى يثرب :
وقد سبق الصحابة بالهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ، حتى سافروا إلى يثرب من حيث استطاعوا من الطرق والأودية ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه تأخرا عنهم حيث قادهما عبد الله بن أريقط دليلهما ، فسلك بهما أسفل مكة ثم مضى بهما على الساحل ( حتى عارض الطريق ) أسفل من عُسْفان ثم سلك بهما على أسفل أَمْج ثم استجاز بهما حتى عارض بها الطريق بعد أن أجاز قديداً ثم من مكانه ذلك ، فسلك بها الخرّار ، ثم سلك بهما ثنية المرة ، ثم سلك بهما لقفا .
ثم أجاز بهما مدلجة لقف ثم استبطن بهما مرجح مجاج ، ثم تبطن بهما مرجح من ذي الغضوين ثم بطن ذي كشر ، ثم أخذ بهما على الجداجد ، ثم على الأجرد ، ثم سلك بهما ذا سَلَم ، من بطن أعداء مدلجة تِعْهِن ، ثم على العبابيد .
ثم أجاز بهما الفاجة ، ثم هبط بهما العرج ، وقد أبطأ عليهما بعض ظهرهم ، فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أسلم ، يقال له : أوس بن حجر ، على جمل له يقال له : ابن الرداء إلى المدينة ، وبعث معه غلاماً له ، يقال له : مسعود بن هنيدة ، ثم خرج بهما دليلهما من العرج ، فسلك بهما ثنية العائر ، عن يمين ركوبة – ويقال . ثنية الغائر ، فيما قال ابن هشام – حتى هبط بهما بطن رئم ، ثم قدم بهما قباء ، على بني عمروبن عوف ، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين ، حين اشتد الضحاء ، وكادت الشمس تعتدل .
وبعد هذا السفر الطويل والعناء المديد ، ولم يزل يسلك بها الدليل عبد الله بن أريقط طريقاً بعد طريق ، حتى قدم بهما ” قباء ” وهي في ضواحي المدينة ، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطه المدينة المنورة ، وذلك في الثاني عشر من ربيع الأول ، يوم الاثنين ، فكان مبدأ التاريخ الإسلامي .
النصرة الإلهية أثناء الهجرة النبوية :
أول نصرة إلهية فاز بها النبي صلى الله عليه وسلم خروجه من بيته الذي حفّه الأعداء بالأسلحة وهو في البيت ليقتلوه بنثر التراب عليهم ، ولذا أنزلت آية ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَويَقْتُلُوكَ أَو يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) [ سورة الأنفال : 30 ] .
ومن عجائب نصرة النبي صلى الله عليه وسلم في غار ثور والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يمكثانه ، وذلك حينما دخلا الغار إذ بعث الله العنكبوت فنسجت ما بين الغار والشجرة التي كانت على وجه الغار ، وسترت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه ، وأمر الله تعالى حمامتين وحشيتين فأقبلتا تدفان ، حتى وضعتا بين العنكبوت وبين الشجرة ، وكان ذلك شاهداً لآية ( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) [ سورة الفتح : 4 ] ، فلما وصل المشركون إلى وجه الغار حال الله بينهم وبين ذلك ، فاختلط عليهم الأمر ورأوا على باب الغار نسج العنكبوت ، وإلى ذلك أشار الله تعالى بقوله : ( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [ سورة التوبة : 40 ] ، وبينما هما في الغار ، إذ رأى أبو بكر آثار المشركين ، فقال : ” يا رسول الله ! لو أن أحدهم رفع قدمه ، رآنا ” ، قال : ” ما ظنك باثنين ، الله ثالثهما ” ، وفي ذلك يقول الله تعالى : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) [ سورة التوبة : 40 ] .
ومما منّ الله تعالى رسوله بنصرته قصة وقعت في ركوب سراقة في إثر الرسول صلى الله عليه وسلم وما وقع له ، وذلك لما أعلنت قريش في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فقدوه مائة ناقة لمن يردّه عليهم ، وكانا في الغار ثلاث ليال ثم انطلقا ، ومعهما عامر بن فهيرة ودليل من المشركين استأجره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بهم على طريق السواحل .
فحمل سراقة بن مالك بن جعشم الحرص على أن يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرده لقريش وينال مائة ناقة ، فأخذ يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركب على أثره يعدو ، فعثر به الفرس وسقط عنه فأبى إلا أن يتبعه ، فركب في أثره فكبا به الفرس مرةً ثانيةً ، فسقط عنه وأبى إلا أن يتبعه فركب في أثره ، فلما بدا له القوم رآهم وعثر به الفرس مرةً ثالثةً ذهبت يداه في الأرض وسقط عنه وتبعهما دخان كالإعصار ، فعرف سراقة حين رأى ذلك أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حماية الله تعالى ، وأنه ظاهر لا محالة ، ويقول سراقة نفسه عن قصته : ” فلما بدا لي القوم ورأيتهم عثر بي فرسي فذهبت يداه في الأرض وسقطت عنه ثم انتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار ، فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع مني ، وأنه ظاهر ، فنادى القوم ، وقال : ” أنا سراقة بن جعشم ، أنظروني أكلمكم ، فوالله لا يأتيكم مني شيئ تكرهونه ” ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : ” قل له : وما تبتغي منا ؟ ” ، فقال سراقة : ” تكتب لي كتاباً يكون آيةً بيني وبينك ” ، فكتب عامر بن فهيرة كتاباً في عظم أو في رقعة ، وكانت في ذلك الوقت بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لسراقة بفتح قصور كسرى وقيصر ولباسه سواري كسرى .
ومن العجائب أثناء الهجرة ، قصة شاة أم معبد الخزاعية ، فهو لما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بأم معبد ، كانت عندها شاة خلفها الجهد عن الغنم ، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها ، وسمى الله ، ودعا ، فدرّت ، فسقاها ، وسقى أصحابه حتى رووا ، ثم شرب ، وحلب فيه ثانياً ، حتى ملأ الإناء ، فلما رجع أبو معبد ، سأل عن القصة ، فقالت : ” لا والله ، إلا أنه مرّ بنا رجل مبارك ، كان من حديثه كيت وكيت ، ووصفته له وصفاً جميلاً ، قال : ” والله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلبه ” .
وخلاصة البيان أن الهجرة النبوية لها مزايا متنوعة عميقة في تاريخ الإسلام وأن استعداد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لها أيضاً سطر في صفحات التاريخ بدموع مخضلة وسُجِّل بدماء مهراقة ، حيث لا بد من استجلاب ذكراه في الأزمنة على مر الدّهور بمناسبة بداية السنة الهجرية ، وقد ختمت الهجرة بقبول حسن من الأنصار ، قبلوهم ورحبوهم بتغني الأناشيد وضرب الدفوف ، وتنافس الأنصار في ضيافة المهاجرين بمشاركتهم في أموالهم وأهاليهم ومنازلهم وجاهدوا لتحصيل رضى الله ورسوله حتى الممات وتضحية أنفسهم لدين الله حتى المعاد .