حياة تستحق النصر والتأييد من الله
يوليو 3, 2024قصة ذي القرنين وما يستفاد منها
أغسطس 3, 2024التوجيه الإسلامي :
قصة موسى والخضر عليهما السلام ، وما لها من دروس
( الحلقة الثانية الأخيرة )
الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله
تعريب : محمد فرمان الندوي
سبب خرق السفينة :
قبل كل شيئ ذكر سيدنا الخضر عليه السلام عن السفينة أنها كانت لمساكين يعملون في البحر ، وكانت ذريعةً لاقتصادهم وكسب معاشهم ، فكانوا يكسبون بها نفقاتهم اليومية ، وكان ملاح السفينة يذهب بالناس من ناحية إلى ناحية أخرى في البحر ، ويأخذ منهم الأجرة ، فخرقتُ في ناحية منها ، وجعلتها ذات عيب ، ذلك لأنه كان يسكن قريباً منها ملك ، يغصب سفناً جديدةً لاستعمالها ، ولعل هذه المناطق مناطق المياه ، وكانت الحاجة فيها إلى سفن دائماً ، فإن الملك بدلاً من أن يشتري السفن ، أو يكلِّف واحداً لصناعة السفن ، يأخذ سفن المساكين غصباً ، وبما أن هذه السفينة قد صُنعت حديثاً ، وكان ربانها فقراء ومساكين ، فشاء الله أن تسلم سفنهم من سيطرة الملك ، فقال الخضر عليه السلام : إني خرقت هذه السفينة ، لئلا يأخذها عُمال الملك ، نظراً إلى خرقها وفسادها .
بركة كسب الحلال :
إذا فكر إنسان في كسب الحلال رزقه الله بركةً وخيراً ، وأنشأ له أسباب حفظه وصيانته من الغيب ، فالقصة المذكورة أعلاه مثال واضح له ، فإن الله تعالى قد حفظ سفينة المساكين الذين يكسبون أقواتهم بجهد ومشقة ، من سيطرة الملك الظالم ، فرحمهم ونجاهم من هذه المصيبة ، ولو سُلبت منهم السفينة لانتهت ذريعة اقتصادهم ، واضطروا إلى اختيار ذريعة أخرى لكسب أموالهم ، لكن الله هو الرزاق الحقيقي ، وضع عنده حق منح الرزق ، فهو يعطي الرزق ، فأكرم هؤلاء المساكين بذريعة الرزق ، وأنقذهم من المصائب ، لكن العبد أحياناً لا يعتقد فضل الله هذا ، ويبتلى بهذا المرض أنه رُزق المال بجهده وسعيه .
إن غاية نزول سورة الكهف هي أن يعرف العبد معرفةً تامةً أن كل ما يقع في هذا الكون يقع بأمر من الله تعالى ، لا بسعي الإنسان وجهده ، ويتجلى من ظاهر أعمال الإنسان أنه هو الفاعل الحقيقي ، هو الذي جعل نظام الدنيا مقصوراً على الذرائع ، وتكون هذه الذرائع في الظاهر مؤثرةً ، لكن الواقع أن جميع الذرائع تعمل بأمر من الله تعالى ، وإذا كانت ذريعة غير مؤثرة أنشأ الله تعالى ذريعةً أخرى من عنده ، وكان من المتوقع بالنظر إلى ظاهر الأمر أن السفينة تُغصب ، بحيث يأتي عُمال الملك ، ويعجبون بهذه السفينة ، ويحملونها معهم ، فتسلب ذريعة الاقتصاد لهؤلاء الملاحين المساكين ، لكن الله يوفر الرزق ، إنه لا ينزل الرزق من فوق السماء مباشرةً أو لا يلقيه في جيب شخص ، بل يوفر الرزق بذريعة من الذرائع المادية ، كما وفر الله لهؤلاء المساكين وسائل الاقتصاد ، ولم يعطل لهم هذا النظام .
فليعلم من هذه القصة أن الله هو الذي يقدِّر ذريعةً لكسب الرزق ، ثم يجعلها مؤثرةً أو معطلةً ، لكن خطأ الإنسان أنه يعتبر هذه الذريعة من صناعة يده ، ويتفكر أنه اخترعها من عند نفسه ، فكسب بها المال ، وليس فيه لأحد تدخل فيه ، فاللافت للنظر أن نفكر في هذه الذريعة : من خلقها ؟ ومن وضع فيها تأثيراً وفائدةً ؟ فإذا لم توجد هذه الذريعة فكيف يستفيد الإنسان منها ؟ الواقع أن الذرائع كلها خلقها الله عز وجل ، ويبقى فيها التأثير الذي أودعه ، فالسكين الذي يحمل قوة القطع يكون ذريعةً للقطع والفصل ، لكن الله تعالى إذا شاء سلب منه هذا التأثير ، فاتضح منه أن جميع الذرائع خلقها الله تعالى ، فإذا شاء أبقى فيها التأثير ، وإذا شاء سلبها منها .
سبب قتل الغلام :
بعد ما عبر سيدنا الخضر عليه السلام البحر قتل غلاماً كان يلعب مع أترابه ، فقال عن سبب قتله : إن أبويه كانا مؤمنين ، يعملان كل عمل ابتغاءً لوجه الله تعالى ، ويعيشان حياتهما طلباً لمرضاته ، ويجتنبان الذنوب والمعاصي ، فكانت مشيئة الله تعالى أن يكونا في حياتهما مطمئنين ، ولا يكون هذا الغلام فتنةً لهما في المستقبل ، وكان يخشى نظراً إلى الذرائع الظاهرة أن هذا الغلام سيكون فريسةً للضلال ، ويكون محروماً من نعمة الإيمان ، وكان ذلك ممكناً ، لأن أوضاع هذه المنطقة ستكون متأزمةً ، فتتعرض لها الأجيال ، وبما أن الإنسان يفسد من الصحبة الفاسدة ، ويقبل أثر رفاقه وأصدقائه ، ويصطبغ بصبغة بيئته وبلاده ، فكان في علم الله تعالى أن هذا الولد سيكون في المستقبل مصاباً بالأمراض الفاسدة لقريته ، ومتأثراً بالأخلاق السيئة التي تكون فتنةً لوالديه ، فقبل أن تأتي هذه المرحلة السيئة جنَّب الله الوالدين من الوقوع في الفتن ، وحفظ إيمانهما رغم ما أمكن لهما نظراً إلى الذرائع الظاهرة ، وغيَّر الله نظامه جزاءً بأعمالهما الصالحة ، فإنهما وإن كانا قد أصيبا بصدمة كبيرة من وفاة نجلهما البار ، لكن الله أنسى رويداً رويداً حزنهما على الولد ، ورزقهما ولداً صالحاً ، لأن الله تعالى إذا ألقى على عبد مؤمن مصيبةً ، وهو صابر عليها ، آتاه أجراً مضاعفاً ، وأسعده بالتقرب إليه .
تأثير الصحبة :
تحمل الصحبة قوةً كبيرةً ، وهذه سنة الله في الأرض أن الإنسان يتأثر بصحبة أشخاص ، يجلس معهم ، فإذا كان هناك رفاق أشرار يفسد كثير من الأولاد بصحبتهم ، وإذا كانوا صلحاء أتقياء يصلحون بتأثير صحبتهم وتقواهم ، فالإنسان في هذه الدنيا يتعلم من إنسان آخر ، فتنسجم له أحواله ، ويسهل له العمل ، لكن الجاهل يظن أنه يعمل حسب فهمه وفراسته .
سبب سقوط الجدار :
قال الخضر عليه السلام وهو يذكر حقيقة آخر قصة : إن الجدار الذي قام بإصلاحه كان لغلامين يتيمين ، وكان تحته كنز لهما ، وكان الغلامان لا يستطيعان أن يخرجا كنزهما لصغر سنهما ، وإذا سقط الجدار فلا يحفظان كنزهما ، فكانت النتيجة أن أهالي الحي يذهبون بجميع هذه الكنوز ، وتلحق بالغلامين خسارة فادحة ، لكن أباهما كان صالحاً ، فجزاهما الله جزاء صلاحه وتقواه ، وأرادت مشيئة الله تعالى أن هذين الغلامين إذا بلغ أشدهما ونشأت فيهما قوة التمييز بين الخير والشر فليستخرجا كنزهما ، والظاهر أن الله عاملهما على أساس صلاح الوالد ورحمته ، وهذا يدل على أن صلاح الإنسان ينتقل إلى أولاده ، فتحصل لهم منافع وبركات .
كانت أموال الغلامين اليتيمين تحت الجدار ، وهي تعرف بالكنز ، ولم يكن في قديم الزمان نظام المصارف والبنوك ، فكان الناس يدفنون أموالهم عامةً وقايةً لها من الضياع في مكان ، إما في حقولهم أو في جزء من منازلهم ، فإنهم كانوا يعرفون مواضع كنوزهم ، أو من أخبروهم ، ولا يطلع عليها آخرون .
غاية القصص الثلاث :
بعد ما ذكر سيدنا الخضر عليه السلام حقيقة هذه القصص الثلاث قال لسيدنا موسى عليه السلام : إن كل ما رأيته آنفاً ما فعلته من أمري ، كنا في الظاهر نقوم بهذا العمل ، لأن الله تعالى جعلنا ذريعةً ظاهرةً له ، والله تعالى هو الفاعل الحقيقي وراءه ، فكل شيئ يصدر من جهته ، لكنك ظننت أن مصدر هذه الأعمال أنا ، فلم تستطع له صبراً .
فقدم سيدنا الخضر عليه السلام بهذه القصة الفرق بين الذريعة وأمر الله ، فلو واصلا رحلتهما إلى الأمام لظهرت عشرات من القصص خلال هذه الرحلة ، وهي تدل دلالةً واضحةً على أن الله تعالى قادر على تغيير النظام القائم على أساس الذرائع ، بأمره المحكم ، وقال صلى الله عليه وسلم : يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهما ( صحيح مسلم ، كتاب الفضائل ، باب من فضائل الخضر عليه السلام : 6313 ) .
قدرة الله على تغيير النظام :
ذكر الله قصة موسى والخضر عليهما السلام على سبيل المثال ، فلا يغتر واحد بعد ذلك بأن كل شيئ يتم بجهده ، أو يتم بنفسه ، بل الواقع أن كل شيئ يجري وفق سنة الله تعالى ، وهو لم يتغافل للحظة عن مراقبته ، فسنة الله خاضعة لله مائة في المائة ، وإذا شاء الله غير في سنته ، مثلاً : جعل الله النار ذريعةً للإحراق ، فصفة الإحراق توجد في النار ، فإذا طُرح رجل في النار نظراً إلى سنة الله في الكون أحرقته النار ، لكن لما طُرح فيها سيدنا إبراهيم عليه السلام غيَّر الله تعالى سنته ، وسلب منها قوة الإحراق ، قال تعالى : ( قُلْنَا يٰنَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَخْسَرِينَ ) [ الأنبياء : 69 – 70 ] ، فعلم منه أن النار ذريعة للإحراق ، لكنها خاضعة لأمر الله تعالى ، فلا تؤثر في شيئ إلا إذا أمرها الله تعالى .
كذلك كل شخص يعلم نظراً إلى نظام الذرائع الظاهر أن جسم الإنسان بعد موته بدأ يفسد وينشق ، ويتعفن ، لكن ما وقع مع سيدنا عزير عليه السلام كان عكس ذلك ، إنه ظل مائة عام ميتاً ، ولم يتأثر جسمه بشيئ ، بل ظل طعامه وشرابه صالحين ، لم يتسنها ، رغم أن حماره قد انتفخ جسمه ولم يبق له عين ولا أثر ، قال تعالى : ( أَوْ كَٱلَّذِى مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـى هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ البقرة : 259 ] .
هذه القصة تدل على أن صفات الأشياء من الله تعالى ، وهو الذي أودع فيها خواص وميزات ، فتعمل عملها ، وتؤثر تأثيرها ، لكن الله قادر على أن يسلب منها تأثيرها ، متى شاء، وله أسباب ودواع ، أحياناً يسلب الله صفات بعض الأشياء منها لإبعاد الإنسان عن الخسارة ، نظراً إلى صلاحه وتقواه ، وتارةً أخرى يغير نظام الذرائع الظاهر ، مثال ذلك أن رجلاً إذا أحبه الله ، ورضي بعمله الصالح جعل له الثواب في الدنيا مع ادخار ثوابه في الآخرة ، وأزال عنه مصيبةً من المصائب ، ووفَّر له صحةً وعافيةً كاملتين في الدنيا .
المصائب : فرصة ذهبية لإصلاح النفوس :
وهناك نكتة أخرى أن الإنسان إذا أصيب بمصيبة فكان معناه أنه قد صدر منه خطأ أو معصية سببت له المصائب في الدنيا ، وذلك ما أشار إليه الله تعالى في القرآن الكريم : ( وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ) [ الشورى : 30 ] ، فالآية تخبر بأن المصائب الدنيوية تكون نتيجة سوء الأعمال ، لكننا نعتقد أن وراء هذه المصائب سبباً خارجياً ، ولا نتفكر في أعمالنا ، ولا نراجع أنفسنا ، كذلك إذا حصلت لنا منافع دنيوية أو نعم إلهية ظننا أنها من ذكائنا وفطانتنا ، وليس لأحد مشاركة فيها ، رغم أن عقل الإنسان وحكمته لا يكونان مؤثرين إلا إذا شاء الله تعالى ، وإلا يكون العقل متحيراً رغم جميع المساعي المبذولة ، وتكون التدابير ضائعةً .