أضمن طريق إلى الفوز المبين والانتصار على الباطل

لبيك اللهم لبيك
يونيو 4, 2024
لبيك اللهم لبيك
يونيو 4, 2024

الافتتاحية : بسم الله الرحمن الرحيم
أضمن طريق إلى الفوز المبين والانتصار على الباطل
مع إطلالة شهر محرم الحرام تتجدد ذكريات ، سجلتها ذاكرة التاريخ الإنساني على مر العصور وكر الدهور ، وتتمثل أمام العيون صور مشرقة من معاني الهجرة بوجه أخص ، فلم يكن هذا الشهر عاطلاً من القدسية والعظمة في زمن من الأزمان ، ولم يطلع كشهر مجهول غير معروف على مسرح العالم ، بل كلما طلع هلال محرم الحرام أشرق العالم بأنواره الساطعة ، وإشراقاته النيرة ، وتجلت معنويته العظيمة ، واحترامه التليد منذ خلق الله السماوات والأرض ، فلم يكن هذا الشهر متفرداً بهذه الميزة ، بل شاركته شهور أمثال ذي القعدة وذي الحجة ورجب مضر ، فازادت أجور الأعمال أضعافاً مضاعفةً ، وارتفعت نسبة الذنوب والمعاصي خطورةً وفظاعةً ، فكل من تقرب إلى الله في هذه الشهور نال لطفاً وفضلاً من الله تعالى ، وكسب كلاءةً خاصةً ، وعنايةً فائقةً به ، فلم يكن عمله مهملاً ، ولا أمره ضائعاً ، بل نال القبول والرضا عند الله تعالى ، قال تعالى : ( ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ) [ التوبة : 36 ] .
ظل هذا الشهر محترماً لدى العرب الجاهليين الذين توارثوا بقايا ملة إبراهيم عليه السلام ، لكن دسوا فيه تحريفات وتعديلات ، شوَّهت صورة هذا الشهر ، وقد كان عمل النسيئ عندهم شائعاً على نطاق واسع ، فكانوا يقدِّمون شهراً ، ويؤخرون آخر ، نظراً إلى مصالحهم الشخصية ، ومنافعهم العاجلة ، وقد تغير نظام الحج والزيارة ، وترتيب السنة القمرية التي كانت تبتدئ من شهر محرم الحرام ، وتنتهي في شهر ذي الحجة ، لكن العام الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم استدار الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، فلم يكن بعد ذلك أثر لأي تحريف رغم كيد الكائدين ، وتزوير المزورين ، وقد نال شهر محرم الحرام عظمةً من الله تعالى يوم أغرق فرعون زمن موسى عليه السلام في اليوم العاشر من هذا الشهر ، وأصبح ذلك اليوم عيداً مشرفاً ، ويوم معرفاً لدى بني إسرائيل ، فكانوا يرحبون بهذا اليوم ، ويحتفلون به بتخصيصه بالصيام ، فقال صلى الله عليه وسلم : نحن أحق بموسى منهم ، فكان شهر محرم الحرام نقطةً لحياة جديدة ، وبدايةً لرحلة حديثة ، وتحولاً كبيراً في دنيا العقول والأفكار ، ومنطلقاً كبيراً للنشاطات المتنوعة على أوسع نطاق ، ومن ثم كان شهر محرم متصلاً من ثلاث جهات بالتاريخ الإسلامي : أولاً : شرعيته منذ خلق الله السماوات والأرض ، ثانياً : توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إياه وجهةً صحيحةً ، ثالثاً : نجاة بني إسرائيل من ظلم فرعون في هذا الشهر .
إن الهجرة النبوية التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كانت قد ابتدأت في آخر شهر صفر ، وانتهت في الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، لكن إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تعيين شهر المحرم أول شهر للسنة الهجرية خلَّد ذكرى الهجرة النبوية إلى يوم القيامة ، فلا تخلو مناسبة من المناسبات في هذا الشهر ، إلا ويأتي ذكر الهجرة النبوية على ألسنة العلماء وعامة الناس ومجالسهم وأنديتهم ، وهم يستقون منها دروساً وعبراً أودع الله فيها للمعتبرين ، وقبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة كانت هناك هجرة بعض الصحابة رضي الله عنهم إلى الحبشة ، وكانت هذه أولى الهجرات في الإسلام ، فهاجر عشرة رجال وأربع نساء ، وكان أميرهم عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ثم تتابع المسلمون ، حتى بلغ عددهم إلى بضعة وثمانين ، فلم تكن هذه الهجرة مجرد هجرة إلى أرض الحبشة ، للنجاة من اعتداءات قريش ، بل كانت مقترنةً بالدعوة الإسلامية ، فكل فرد من أفراد المهاجرين كان أسوةً ونموذجاً في الدعوة إلى الله تعالى ، بسيرته وسلوكه ، وتعامله مع الناس ، أما خطبة جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي فلا تكون خطبة أبلغ وأكثر تأثيراً في النفوس ، وأشمل لمعاني الإسلام من خطبة جعفر الطيار ، إنه صوَّر ما يعيشه أهل الجاهلية ، ثم كيف هداهم الله إلى الدين الحنيفي السمح ، كانت هذه الهجرة في السنة الخامسة بعد النبوة ، لكن أصبح جو الحبشة ملائماً ومستساغاً للمسلمين من بعد ، وبقي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه إلى السنة السابعة للهجرة في الحبشة ، وانتفع به خلق كثير ، واهتدوا به إلى الصراط المستقيم ، هكذا شأن الإسلام ، فهو النعمة المسداة ، والرحمة المهداة إذا خالطت بشاشتها القلوب ، فلن يتخلى عنها إنسان قيد شعرة ، وإن حُرق وقُتل .
هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مولاه زيد بن حارثة إلى الطائف ، وذلك في السنة العاشرة من الهجرة ، وكانت هجرته هذه لمصلحة الدعوة ونشرها على أرض الطائف ، وهي مدينة صنو لمكة ، وتبعد عن مكة على ثمانين كم ، وكانت أرضاً خصبةً زراعيةً ، ومصيفاً للمتنعمين ، وتسكن في الطائف قبيلة ثقيف ، وهي من أعظم القبائل ، ولها صنم باسم : اللات ، وكانت تبجل ثقيف اللات كثيراً ، فجعلت له حرماً ، تحترمه ، وتحج إليه ، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وعرض على سادتها ورؤسائها الإسلام ، فلم يرفضوا دعوته فقط ، بل أغروا به سفهاءهم وعبيدهم ، وهم يصوتون أمامه ويرمونه بالحجارة ، حتى أدموه ، فخرج من الطائف ، وذهب إلى بستان ، وجلس فيه يستريح ، وكان قلبه جريحاً مكلوماً ، ولسانه شاكياً إلى الله ضعف قوته ، وقله حيلته ، وهوانه على الناس ، ورغم هذا الجفاء القاسي تفاءل وقال : أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده ، لا يشرك به شيئاً ، هذه الهجرة وإن لم تنجح في ظاهر الأمر ، لكن بذرت للإسلام بذرةً ، خرجت براعمها ، وآتت أكلها ، وأثمرت عام الوفود حينما أسلمت قبائل مختلفة ، فأسلمت ثقيف ، ودخلت في حظيرة الإسلام ، وقيض الله في نهاية القرن الأول محمد بن القاسم الثقفي الذي جاء بالإسلام إلى السند وما جاورها من المدن ، وأنشأ هناك حكومةً عربيةً إسلاميةً ، فكانت غراساً للحكومات التالية بعدها .
رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف ، فلقيه عدد من سكان يثرب في البيعتين الأولى والثانية ، وطلبوا منه أن يهاجر إلى يثرب ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهاجر ، بل ينتظر إذناً من الله تعالى ، أما المسلمون فأمر لهم بالخروج إلى يثرب قائلاً : إن الله عز وجل قد جعل لكم إخواناً ، وداراً تأمنون بها ، فخرجوا زرافات ووحداناً إلى المدينة المنورة ، ثم أذن للنبي صلى الله عليه وسلم في الخروج والهجرة ، فرافقه سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ظهرت من بداية سفره روائع من الصيانة والحفظ الإلهي ، خرج من بيته ، وقد نام على فراشه علي بن أبي طالب ، خرج وهو ينثر التراب على رأس كل شاب أمام بيته ، وهو يقرأ سورة يس ، وبلغ إلى غار ثور ، وأحاط به الأعداء ، فتحركت جنود الله تعالى ، فنسجت العنكبوت على فم الغار ، وجاءت حمامتان وحشيتان ، وجلستا قرب الغار ، ولله جنود السماوات والأرض ، وكانت هذه المرحلة دقيقةً وحاسمةً ، وصل الباحثون إلى فم الغار ، وكادوا يطلعون على غايتهم ومنشودهم ، لكن الله خيب أمانيهم ، وردهم يائسين ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان قلب النبي صلى الله عليه وسلم عامراً بالثقة بالله وتحميده ، ولاهجاً بثنائه وحمده ، وكان يقول مخاطباً لأبي بكر : ما ظنك باثنين ، الله ثالثهما ، وقد بشر في هذه اللهجة الإيمانية سراقه بن مالك بن جعشم حينما تبعه وساخت قدما فرسه بقوله : كيف بك إذا لبست سواري كسرى ؟ ولقيا في مسيرهما إلى المدينة أم معبد ، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرع غنم من أغنام أم معبد ، وقد أعياه الجهد ، فدرَّ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين .
وقدر الله سبحانه بعد المحن الشداد والبلايا العظام أن يصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة مع صاحبه الوفي سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وبلغ ذلك أهل يثرب ، واستبشر المسلمون بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم ، وطفقوا يترقبون بصبر نافد ، حتى جاء موعد وصوله إلى مقره الجديد ، واستقبل المسلمون نبيهم الكريم ، وضيفهم العظيم صلى الله عليه وسلم ، ورحبوا به أحر ترحيب ، وعم الفرح والسرور في البيوت والقلوب ، وسادت الجو سحابة من الخير والعز والسعادة ، وبدأت الجواري يتغنين نشيد الاستقبال بشعور غامر من الحب والإخلاص والسعادة ، وتحققت الهجرة في سبيل الله تعالى ، وبدأ دور العز والسعادة والفتح والانتصار ، وطفق الناس يدخلون في دين الله أفواجاً بكل اقتناع ، وشهد التاريخ مثالاً نادراً للمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، ونالت الدعوة طريقها نحو البلاد والأمصار ، وتأسست دولة الإسلام يعيش الناس في ظلها سعداء ، ويطبقون أحكام الله على الحياة والمجتمع .
كانت الهجرة النبوية منطلقاً كبيراً إلى العز والسعادة ، وطريقاً مستقيماً نحو الازدهار والانتصار ، وكذلك الدعوة إلى الإسلام في كل عصر ومصر تحتاج بادئ ذي بدء إلى الصبر على الأذى وتحمل المحن ، ومواجهة الظروف القاسية ، والهجرة في سبيل الله تمثل هذه الصور بأروع معانيها وأفضل مفاهيمها ، وهي الطريق المضمون إلى النصر والفوز المبين ، والانتصار على الباطل ، وعلى العدو الظاهر والباطن ، كما أنها وسيلة ناجحة إلى تكوين مجتمع عادل ، وبالتالي إلى إقامة دولة الحق والصدق والعدل ، قال الله تعالى : ( إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلۤـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [ البقرة : 218 ] ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
سعيد الأعظمي الندوي
12/12/1445هـ
19/6/2024م