” عمر يظهر في القدس ” لنجيب الكيلاني : دراسة موضوعية
مايو 4, 2024رحلة الأمير عبد الوهاب خان للحج ( 1331هـ ) : دراسة تحليلية
يونيو 4, 2024ا
دروس وعبر من قصة هدهد سليمان عليه السلام مع دراسة بلاغية
الدكتور الحافظ كليم الله يس
تتجلى آيات الله في مخلوقاته التي سخرها للإنسان لتلبي حاجاته ومتطلباته ولتكون له نصيراً على أعدائه ، فلو تأملنا اهتمام القرآن الكريم بالطيور وتطرقنا تحديداً إلى قصة الهدهد مع نبي الله سليمان عليه السلام ، لوجدنا إعجازاً واضحاً في استخدام هذا المخلوق في مجال الاتصالات السلمية لسرعته وذكائه وطريقته المذهلة في تنقلاته . ولقد بينت الدراسات الحديثة أن الهدهد أكفأ من الحمام في استخدامات النقل والاتصال ، فهو أسرع طيراناً ولا يحتاج للجماعة في طيرانه وقوة دفاعه عن نفسه أكفأ وتحمله للجوع والعطش أكثر فضلاً عن ذكائه . لذلك والله أعلم كان الاختيار الأفضل للهدهد من بين بقية الطيور فهو يحمل خصائص فريدة من نوعها .
أيها الأحبة . . إنَّ من يتأمَّل ويمعن النظر في قصة سليمان عليه السلام والهدهد وما جاء فيها من أخبار ودلائل سيجد حقاً كثيراً من الفوائد والعبر والتي لو استقصيناها لطال بنا المقال ، فحسبي منها هذه الشَّذرات التي سأذكرها ، لعلَّ الله عزَّ وجلَّ أن يبارك فيها وينفع بها .
(1) العبادة لله وحده ، حيث يجب أخذ الهدهد قدوة حيث لم يرضيه عبادة قوم سبأ للشمس من دون الله برغم أنه طائر ، يقول الله في كتابه الكريم : ( وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ والإنسَ إلا لِيَعبُدُون ) .
(2) يجب على المؤمن الالتزام في الحياة ، والتعامل مع الناس على أساس من الانضباط حيث إنه لولا قدم الهدهد مبرراً قوياً لعدم التزامه ، كان سيناله العقاب الشديد . العدل أساس الملك ، فقد كان سليمان – عليه السلام – عادلاً مع الهدهد بشكل كبير ، بالرغم من التهديد بذبحه ومعاقبته ، ولكنه تراجع عندما علم سبب غيابه ، وذلك في قوله تعالى : ( لأعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَولَأَذْبَحَنَّهُ أَولَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِين ) .
(3) التأكد من صحة الأخبار التي نسمعها ، حتى نتجنب الظلم لأي شخص .
(4) مكانة العلم الكبيرة في كتاب الله الحكيم ، وذلك في قوله تعالى : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُو الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) .
(5) متابعة أحوال الرعية ، ونرى ذلك في قصة سيدنا سليمان مع الهدهد حتى ولو كان من الطيور ، يقول الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام : ” كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ” .
(6) معاقبة المقصرين إذا ثبت تقصيره ، وضرورة التقصي والتحقق ، وجمع الدلائل ، وعدم التسرع قبل اتخاذ القرار . تواضع الحاكم وتحليه بسعة الصدر مع رعيته ، حيث نرى طريقة معاملة سيدنا سليمان للهدهد ، وكيف كان متسع الصدر معه ، ومتواضعاً بشكل كبير ، وهي من الصفات التي يجب أن تتوافر في أي حاكم منح الفرصة للرعية للدفاع عن أنفسهم لاتخاذ القرار المناسب حيث قام سليمان عليه السلام .
(7) إعطاء الفرصة للهدهد لتقديم الأسباب عن تأخيره ، وتفنيد دلائل غيابه ، وفي هذا درس لمن يرفع أمراً أو يدلي بشهادة بألا يأتيَ بخبر دون آخر ، أو يأتي بالتافه ويغفل عن الأساس ، ويقدم الهيِّن وينسى الأهم ، أو يذكر الجزء وينسى الكل ، إنما لا بد من وضع الأمر كما هو بتفاصيله وبفروعه وأجزائه ، كما قدم الهدهد أصل القضية ؛ فقال : ( وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) [ النمل : 24 ] ؛ غيرةٌ شديدة على دين الله ، حرقة كبيرة على هؤلاء البشر الذين ميزهم الله بالعقل فسجدوا لغيره .
أتدري من هو الذي أوصلهم إلى عبادة غير الله : ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ) [ النمل : 24 ] ؛ إنه الشيطان الذي أملى لهم ذلك ، إنه الشيطان الذي زين لهم ذلك ، إنه الشيطان الذي سوَّل لهم ذلك ، وهو السبب لكل ما يحدث اليوم في تزيينه لكثير من الناس سوء أعمالهم ، وهو الذي يزين اليوم للزاني أن يزنيَ ، وللسارق أن يسرق ، وللقاتل أن يقتل ، وللمرابي أن يرابي ، وللمرتشي أن يرتشي .
(9) قال المفسرون : ” أصدق كلمة قالها الهدهد هي : لا إله إلا الله ، لقد حفظ الهدهد الكلمة الخالدة التي لأجلها أرسل الله الرسل ، ولأجلها خلق الخلق ، ولأجلها أنزل الكتب ، ولأجلها مدَّ الصراط ، هي كلمة الإخلاص ، وشهادة الحق ، ودعوة الحق ، هي أصدق العبارات ، وأجمل الكلمات ، وأفضل الحديث ، وأفضل الحسنات .
(10) براعة تصوير الأحداث : فالمتأمل لهذه الآيات القرآنية التي تتحدث عن قصة هدهد سليمان يكتشف براعة في تصوير الأحداث ، وكأنه يرى الأحداث حية أمامه ، فنبي الله سليمان عليه السلام يبحث عن الهدهد في مشهد رائع ، والهدهد يأتي من سبأ بنبأ يقين في مشهد يشعر وكأن الأحداث تجري حية أمام عينه فهو يحس بانفعال الهدهد ، وحزنه على قوم سبأ الذين يسجدون للشمس من دون الله ، وهو أيضاً يحس نبي الله سليمان عليه السلام وهو يتفقد أحوال رعيته ويبحث عن الهدهد .
(11) الإيجاز : وهذه سمة مهمة في قصة هدهد سليمان عليه السلام توضح الإعجاز الإعلامي في القرآن الكريم الذي يتجلى لنا في استخدام أقل الكلمات للتعبير عن أكبر عدد من الأفكار ، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى : ( وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ) .
(12) انتقاء الأحداث : وتتجلى لنا سمة انتقاء الأحداث ، وهي إعجاز إعلامي رائع في قول الهدهد: ( وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) . قال سليمان : وما ذاك الخبر ؟ قال : إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ، فقد تم انتقاء الحدث ، فلم يذكر لنا سؤال سليمان وجيئ بجواب الهدهد مباشرةً ، ولعل تلك المميزات هي التي أهلته ليكون بتلك المنزلة والثقة التي أوليت له من قبل سيدنا سليمان عليه السلام ، على أن ذلك قد يوحي بأن ذلك الهدهد كان من نوع خاص وتم تربيته وتدريبه بعناية فائقة .
(13) من كلام الحكمة والعدل ، إنه الرد الرصين بلا اندفاع ولا حِدَّةٍ ، ( سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) [ النمل : 27 ] ، ما قال له : صدقت ، ولا قال له : كذبت ؛ لأنه كان عليه السلام يملك حكمةً ومقدرةً فائقةً على استنتاج الحكم الصحيح في القضايا المعروضة عليه ، وفي هذا درس مهم ورائع نستلهمه من هذا الموقف السليماني وهو درس في التأني والتمهل والتروي ، درس في عدم التسرع والعجلة في إصدار الأحكام جُزافاً ، وما أجمل وما أروع أن يأتيَك خبرٌ مفاجئ أو معلومة غريبة ، ويُطلب منك موقف منها فتقول : سأنظر في الأمر ، سأنظر في القضية ، سأتحقق من الموضوع ، سأتأكد من الخبر ، سأتحرى ، سأتبين ، سأتثبت ، سأرى . لا ينبغي على المسلم الحقيقي والوَرِعِ أن يصدِّق كل ما يُقال له .
(14) قوله تعالى : ( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ) قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه : إنما طلب الهدهد لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كم هو من وجه الأرض ، لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء ، وأن الهدهد كان يرى باطن الأرض وظاهرها ، فكان يخبر سليمان بموضع الماء .
(15) قوله تعالى : ( لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَولَأَذْبَحَنَّهُ ) دليل على أن الحد على قدر الذنب لا على قدر الجسد ، أما أنه يرفق بالمحدود في الزمان والصفة . روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أن تعذيبه للطير كان بأن ينتف ريشه .
(16) قوله تعالى : ( وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) أعلم سليمان ما لم يكن يعلمه ، ودفع عن نفسه ما توعده من العذاب والذبح . وقرأ الجمهور ” سَبَإٍ ” بالصرف . وابن كثير وأبو عمرو ” سبأ ” بفتح الهمزة وترك الصرف ، فالأول على أنه اسم رجل نسب إليه قوم .
(17) قوله تعالى : ( إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ) لما قال الهدهد : ( وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) قال سليمان : وما ذلك الخبر ؟ قال : ( إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ) يعنى بلقيس بنت شراحيل تملك أهل سبإ . ويقال : كيف وخفى على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة ، وهى من مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب ؟ والجواب أن الله تعالى أخفى ذلك عنه لمصلحة ، كما أخفى على يعقوب مكان يوسف .
(18) قوله تعالى : ( وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) مبالغة ، أي مما تحتاجه المملكة . وقيل : المعنى أوتيت من كل شيئ في زمانها شيئاً فحذف المفعول ، لأن الكلام دل عليه . ( وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ ) أي سرير ، ووصفه بالعظم في الهيئة ورتبة السلطان . قيل : كان من ذهب تجلس عليه . وقيل : العرش هنا الملك ، والأول أصح ، لقوله تعالى : ( أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها ) . قال ابن عباس : كان طول عرشها ثمانين ذراعاً ، وعرضه أربعين ذراعاً ، وارتفاعه في السماء ثلاثين ذراعاً ، مكلل بالدر والياقوت الأحمر ، والزبرجد الأخضر .
(19) قوله تعالى : ( اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ) قال الزجاج : فيها خمسة أوجه ( فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ) بإثبات الياء في اللفظ . وبحذف الياء وإثبات الكسرة دالة عليها ” فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ” . وبضم الهاء وإثبات الواو على الأصل ” فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ” . وبحذف الواو وإثبات الضمة ” فألقه إليهم ” . واللغة الخامسة قرأ بها حمزة بإسكان الهاء ” فألقه إليهم ” .
(20) في الآية دليل على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة ، ودعائهم إلى الإسلام . وقد كتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى كسرى وقيصر وإلى كل جبار ، وفي قوله تعالى : ( ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ) أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدب به مع الملوك . بمعنى : وكن قريباً حتى ترى مراجعتهم .
تضمنت الآيات الكريمة من قصة هدهد سليمان عليه السلام وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي :
1. أسلوب التعجب ( ما لي لا أرى الهدهد ) ؟ .
2. التأكيد المكرر ( لأعذبنه . . أو لأذبحنه . . أو ليأتيني ) لتأكيد الأمر .
3. طباق السلب ( أحطت بما لم تحط به ) وكذلك ( تهتدي . . لا يهتدون ) .
4. الجناس اللطيف ( وجئتك من سبأ بنبأ ) ويسمى ( الجناس الناقص ) لتبدل بعض الحروف في ( سبأ ) و ( نبأ ) ( قال صاحب الكشاف : وهذا من محاسن الكلام بشرط أن يجيئ مطبوعاً غير متكلف أو يصنعه عالم بجوهر الكلام ، ولقد حسن في الآية وبدع لفظاً ومعنىً ، ألا ترى أنه لو وضع مكان ” بنبأ ” لفظة ” بخبر ” لكان المعنى صحيحاً ، ولكن يفوت ما في النبأ من الزيادة التى معناها ( الخبر الهام ) والتي يطابقها وصف الحال ) .
5. الطباق في اللفظ ( تخفون . . وتعلنون ) وكذلك ( أأشكر أم أكفر ) .
6. الطباق في المعنى ( أصدقت أم كنت من الكاذبين ) . قال علماء البيان : والمطابقة هنا بالمعنى أبلغ من اللفظ لأنه عدول عن الفعل إلى الاسم فيفيد الثبات فلو قال : ” أصدقت أم كذبت ” لما أدى هذا المعنى لأنه قد يكذب في هذا الأمر ولا يكذب في غيره ، وأما قوله : ( أم كنت من الكاذبين ) فإنه يفيد أنه إذا كان معروفاً بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذباً لا محالة فلا يوثق به أبداً .
7. جناس الاشتقاق ( تقوم من مقامك ) وكذلك ( أسلمت مع سليمان ) .
8. التشبيه ( كأنه هو ) أي كأنه عرشي في الشكل والوصف ، ويسمى هذا التشبيه ” مرسلاً مجملاً ” .
9. الاستعارة البديعة ( قبل أن يرتد إليك طرفك ) شبه سرعة مجيئه بالعرش ، برجوع الطرف للإنسان ، وارتداد الطرف معناه التقاء الجفنين ، وهو أبلغ ما يمكن أن يوصف به في السرعة ، ومثله قوله تعالى ( وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب ) فاستعار للسرعة الفائقة ارتداد الطرف .
10. توافق الفواصل في كثير من الآيات ، ولها وقع في النفس رائع ، مثل ( أم كان من الغائبين ) ( أو ليأتيني بسلطان مبين ) ( وجئتك من سبأ بنبأ يقين ) إلى آخر ما هنالك .
هذا ما عندي ، والله أعلم بالصواب وصلى الله على نبينا محمد وبارك وسلم والحمد لله رب العالمين .