قصة صاحب الجنتين ومآل الجهود الإنسانية ( الحلقة الثانية الأخيرة )
يناير 14, 2024الأمانة والتكاليف
مارس 3, 2024التوجيه الإسلامي :
المسلمون في رباط دائم
الإمام الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي ( رحمه الله )
[ ألقى العلامة الندوي هذه المحاضرة في جامع المظفر باليمن في 15/ شعبان 1404هـ ، الموافق 16/ مايو 1984م بعد صلاة المغرب في جمع حاشد ، فيه كبار العلماء وأعيان البلد ]
سادتي وإخواني! قد قدر الله لي تجولاً في صفحات التاريخ ، وتجولاً في البلاد الإسلامية ، وهكذا وفقني الله تبارك وتعالى ، لأن أجمع بين الجولتين : جولة في التاريخ عن طريق الدراسة والمطالعة وجولة في الأرض الإسلامية بالرحلات العديدة ، والزيارات المتكررة ، فعلي حق أن أتحدث إليكم بشيئ من تجاربي وانطباعاتي ، وأن أقدم إليكم بعض ملاحظاتي وتوصياتي ، وقديماً قالت العرب : ” الرائد لا يكذب أهله ” فإن لم أكن شيئاً فإني رائدكم ، أنا رائد العالم الإسلامي كله على أساس العقيدة والإيمان ، والحمد لله ، ورائد العالم العربي ؛ لأني ألتقي معه ، وأتصل به عن طريق النسب ، واللغة ، والثقافة ، وأقل واجب على الرائد ألا يخفي شيئاً من الحقائق عن الذين وضعوا فيه ثقتهم ، وقلدوه هذه الأمانة ، وهذه المسؤولية .
أيها الإخوة الكرام ! إنّي أبدأ حديثي هذا بكلمة سجلها التاريخ ، كلمة حكيمة بليغة على مدى الأعصار والأمصار ، وعلى مدار التاريخ ، كلمة قالها الصحابي الجليل والفاتح العظيم عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه ، فاتح مصر ، إنَّه لما شرفه الله بإخضاع مصر ، وبالأصح إدخالها في حظيرة الإسلام ونقلها إلى ظل الإسلام الوارف ، إنَّه لما استطاع أن يفتح هذه البلاد التي استعصت على كثير من الفاتحين ، ولها تاريخ طويل في تقدم المدنية ، والحضارة ، والعلوم ، وقامت على أرضها حكومات من أقوى الحكومات ، وملكها ملوك خلَّد القرآن بالذكر منهم فرعون ، لما فتح سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه ، ومعه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم عدد كبير ومن تبعهم من المسلمين ، كان له كل الحق في أن يطمئن إلى الوضع السياسي ، وإلى الوضع الاستراتيجي ، وإلى الوضع الجغرافي لما دانت له مصر بأرضها ، وخصبها ، وغلاتها ، وخيراتها ، حتى وثقافتها ، وحضارتها ، ولغتها ، تعلمون جميعاً أن مصر من البلاد السعيدة التي قبلت اللغة العربية كلغتها ، والخط العربي والحضارة العربية الإسلامية ، وكانت كل القرائن ، وكلُّ الشهادات تدل على أن مصر ستظل جزءاً من أجزاء الإمبراطورية الإسلامية ، وكان لا شيئ يهدد بالخطر ويشكك في مصير مصر ، فلو كان أحد مكانه من الفاتحين الكبار الذين حدث عنهم التاريخ ، لأثنى على جيشه وشهد له بالفروسية ، والعبقرية ، هنأه على هذا الفتح العظيم ، وطمأنه إلى آخر الدهر ، وقال لهم : كونوا على ثقة بأن مصر قد دانت لنا ، وخضعت ، ولا خطر ولا خوف ، انعموا في ظلالها ، واشربوا من ماء النيل ، وسيحوا في الأرض كما شئتم وابنوا فيها قصوراً مشيدةً ، واسكنوا فيها كأبناء البلاد ، وسادة البلاد ، وحكامها .
ولكنكم تعلمون ماذا قال هذا الفاتح العظيم ؛ الذي شرّفه الله بصحبة النبي الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ، وألهمه الحكمة والفراسة المؤمنة الصادقة التي حدث عنها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : ” اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ” ، ماذا قال سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه ؟ قال : ” إنكم في رباط دائم لكثرة الأعداء حولكم ، وتصرف قلوبهم إليكم ” . إنه قال لهم : لا تخلدوا إلى الراحة ، ولا تضعوا السلاح ، ولا تعتبروا نفوسكم قد نفضتم غبار الغزو ، فلكم الآن كل حق في أن تعيشوا عيشة الفاتحين الحكام ، لا ! إنكم في رباط دائم ، أنتم محاطون بالأعداء كاللسان في الأسنان ، أنتم حفنة بشرية ، ونقطة مغمورة في هذا البحر الطامي من الأجناس والديانات والحضارات في قارة إفريقية التي تكاد تكون عالماً بمفرده ، فلا مساغ لكم في أن تخلدوا إلى الراحة ، وأن تناموا نوم الفاتحين على أسرة الملوك الباذخين .
هذه وصية وصّى بها سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه ، يجب أن يحفظها المسلمون ، ويجعلونها نبراساً لهم ، ودستوراً لهم في الحياة ، إنَّ محنة الشعوب الفاتحة والأسر الحاكمة أنها تبدأ حياتها بالتقشف ، والفروسية ، والمغامرات ، وتنتهي بها – في فترة قد تطول أحياناً ، وتقصر أحيانا – إلى حياة النعومة والفسولة [1] ، وفاكهة وشراب ، وعزف ، وقصف ، كما قال الشاعر العظيم الدكتور محمد إقبال : ” أنا أحكي لك قصة الفتوح ، وقصة الحكومات ورجالها في لفظ وجيز : إنهم يبدؤون بالسيف والسلاح وينتهون إلى المزمار والغناء ، تلك بدايتهم ، وهذه نهايتهم ، هذه قصة جميع الحكومات التي قامت على أكتاف هؤلاء الشبان المتقشفين ، الزهاد ، المغامرين بالنفس والنفيس ، وإلى أي شيئ انتهت هذه الحكومات ؟ انتهت هذه الحكومات إلى ملوك مرفَّهين باذخين ، قد استحوذ عليهم الشيطان واستهوتهم المادة والشهوات ، وجنَّ جنونهم ، وتفننوا في الألعاب ، والأغاني ، وفي المطاعم ، والمشارب ، وأبعدوا النجعة ، إنَّ القائد الحكيم سيدنا عمرو بن العاص نصح العرب الفاتحين لمصر بأن لا يشتغلوا بالدواب الفارهة ، والقصور الباذخة ، وبالمطاعم اللذيذة الخيالية ، كأنه قال لهم : لا تعيشوا عيشة ” ألف ليلة وليلة ” ، عيشوا عيشة جدٍّ وصرامة ، عيشة فروسية ورباط ، عيشة مجاهدين مناضلين .
اقرؤوا يا إخواني ! تاريخ الحكومة المغولية في الهند التي كانت أكبر الإمبراطوريات في القرن العاشر الهجري على وجه الأرض ، وكانت تلي الدولة العثمانية فقط ، كانت بداية هذا الأمر من ” ظهير الدين بابر ” ، وكان من الشدة والقوة أنه كان يحمل رجلاً على كتفه اليمنى ، ورجلاً على كتفه اليسرى ، ويمشي على السور العالي ، بعد ذلك ، انتقلت الحكومة إلى ابنه نصير الدين ” همايون ” استمر على شيئ من الفروسية مع شيئ من تنعم الملوك ، ثم انتقلت الحكومة إلى نجله ” جلال الدين أكبر ” فكان كذلك ، وكان يقود الجيوش الجرارة ، ثم انتقلت إلى ابنه ” نور الدين جهانكير ” فتنعم ورقّ أكثر ، حتى وصل الأمر بعد الإمبراطور شاهجهان الذي بنى ” التاج محل ” في آكره إلى ابنة الملك الصالح السلطان محيي الدين أورنك زيب عالمكير ، وكان فارساً ، وقائداً محنكاً ، وزاهداً اعتبره بعض المؤرخين سادس الخلفاء الراشدين ، ثم دب الوهن في هذه الأسرة ، فكانوا مثالاً في الترف ، والبذخ ، وحكاياتهم تشبه الخيال ، فلا يصدِّق الإنسان أن الإنسان يبلغ إلى هذا التفنن الخيالي وإلى هذا الغرام بالملاذ والأغاني ؟ فخسروا الدولة ، وضيعوا الملك .
وأنتم يا إخواني العرب ! تعيشون في قطعة من الأرض تتجه إليها الأنظار لأسباب لا أستطيع أن أشرحها الآن ، ويعرفها المتبصرون الدارسون ، أنتم تعيشون في قطعة قد ركز الأعداء كل جهودهم ، وكل ذكائهم وكل مخططاتهم على إزالتها عن رسالتها وعن شخصيتها الإسلامية العربية ، وعن قيادتها للعالم الإسلامي ، هذه مؤامرة من أخطر المؤامرات التي عرفت في التاريخ ، إنَّ الشعوب على الرغم مما عندها من نظريات مختلفة قد تكون متناقضةً تلتقي على نقطة واحدة ، وهي : القضاء على مكانة الجزيرة العربية ، وقطع صلتها عن الإسلام ، هذا أقوله لكم كرائد لا يكذب أهله ، كرجل زار أوربا وأمريكا ، واطلع على كتب المستشرقين ، وهو متتبع لما يقال وينشر ، ويكتب هنالك ، ثم أقول لكم في ضوء معلوماتي وفي ضوء مشاهداتي : إنه ليس للعالم الخارجي والشعوب والحكومات البعيدة عن هذه الجزيرة هي التي تشكل الخطر على كيان هذا الجزء من الجزيرة العربية وشخصيته ، بل إنكم محاطون بدعوات مناهضة للإسلام ، ومعسكرات تقوم على فلسفات تتناقض مع الإسلام ومع مقومات شخصيتكم ، وجوهر رسالتكم ، ومركزكم في العالم ، فأنتم لا يسوغ لكم أبداً أن تخلدوا إلى الراحة ، وأن تعيشوا عيشة المنعمين المترفين ، أقول لكم بصراحة : الترف هو العامل الأكبر لهدم الحكومات ، وانقراض المدنيات ، وسقوط المجتمعات ، وهو الذي ذمه القرآن ، فيقول : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) [ الإسراء : 16 ] و ” المترفون ” كلمة قرآنية تتكرر وتتردد في القرآن ، وهو يقول : ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاَكِنُهُمْ لَمْ تُسكن مِّنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ) [ القصص : 58 ] ، الترف والبطر من أقوى العوامل الحضارية ، والنفسية ، والخلقية التي قد قضت على الحكومات المسنة ، الطويلة ، وعلى المدنيات المزدهرة بالزوال ، فلا بد أن ترجعوا إلى حياة البساطة ، وشيئ من التقشف ، لا أقول لكم عيشة البدو ، والأعراب الأولين ، وكلوا لحوم الإبل ، واشربوا ألبان الإبل ، ولا تتمتعوا بشيئ مما أنعم الله به عليكم ، لا ! أنا لا أدعو إلى الرهبانية ، فلا رهبانية في الإسلام ، وأنا لا أدعو إلى تقشف غير طبيعي ، ولكن إلى شيئ من التقشف ، إلى شيئ من البساطة ، تحرروا من عاداتكم التي لا تتصورون الحياة واللذة بغيرها ، إنني لا أسمي هذه العادات ، وهذه الهوايات ، ولا أحددها ، فأقلل من قيمة حديثي المبدئي العام ، إنما أتركه إلى ذكائكم ، ومعرفتكم بالمجتمع ، وارتباط قلوبكم به ، لا تستأسركم هذه العادات ، والهوايات ، والأعراف والتقاليد حتى تتحكم فيكم ، وتستعبدكم . إن الأمم التي تقوم بدور بناء إيجابي وبدور يذكر في التاريخ لا تكون أسيرةً لعاداتها ، ولا تكون مترفةً مترفهةً إلى آخر الحدود ، وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أبو الأمة ومربيها ، كان يقول للمسلمين : ” تمعددوا ، واخشوشنوا ، واخلولقوا ، وانزوا على ظهور الخيل نزواً ” ، يجب عليكم أن تحمدوا الله على نعمه الكثيرة ، وتشكروها وتقدروها قدرها ، ولكن لا تلينوا الحياة ، ولا ترققوها إلى حد لا يمكنكم أن تواجهوا فيه أي محنة وأي شدَّة . إنه يا إخواني ! ليس عصر ” ألف ليلة ولية ” ، ليس عصر الأغاني ؛ الذي ألفه أبو الفرج الأصفهاني ، ولا عصراً خيالياً ، إنما هو عصر صراع الطاقات الكبيرة ، والمعسكرات العظيمة المقررة للمصير ، أنتم بين فكي الأسد ، أنتم بين طبقتي الرحى ، لسان بين الأسنان ، وأنتم لا بد لكم أن تحسبوا لهذا الزمان ، ولهذا المكان ، ولهذه الأحوال ، ولهذا الوضع القاسي ، ولهذا الواقع المر حسابه .
هذا الذي أريد أن أقول لكم ، كان في إمكاني والحمد لله أن أزيد ثقةً إلى ثقتكم ، وأن ترجعوا من هنا مرتاحين فرحين تقولون بشرنا فضيلة الشيخ بشّرنا بكذا وكذا ، وحكى لنا حكايات مثيرةً ، حكايات شائقةً ، لا ! هذا ليس من الأمانة ، إنَّ الإكرام الذي لقيته منكم يُملي علي أن أكون صريحاً ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قرون وقرون : ” ويل للعرب من شر قد اقترب ” فكيف بهذا الزمان الذي هو عصر المحن ، والفتن ، وعصر العداء للإسلام ، وعصر المادية الرعناء ، والردة الفكرية ، والعقائدية ، أنتم هنا حملة أمانة كبيرة ، وورثة جيل عظيم ، ورثة العلماء الربانيين والأولياء الصالحين ، ورثة الحكام العادلين إلى قرون عديدة ، فيجب لكم أن تسهروا على هذه الأمانة ، وأن تحسبوا لها كل حساب ، وأن تنظروا إلى الواقع المحيط بكم ، تستعرضوا الوضع السياسي ، الوضع المبدئي ، الوضع الدعوي الذي تعيشونه ، ويعيشه اليمن ، وتعيشه الجزيرة العربية كلها ، وإني أهنئكم بأن الله اختار لكم هذه الأرض الطيبة ، فاحمدوا نعمة الله ، واشكروا الله تبارك وتعالى على هذه النعمة ، ولكن كونوا أكفاء هذه الوراثة ، أكفاء هذه الأمانة ، أكفاء هذه المسؤولية .
[1] فسل فسلاً وفسولةً أي : ضعيفاً ، لا مروءة له ، ولا جلد .