حقوق النبي صلى اللّه عليه و سلم على أمته

إنّه عظيم … حياة النبي صلى الله عليه وسلم الاجتماعيّة
ديسمبر 11, 2023
الدعوة الإسلامية : ألم يعلم بأن الله يرى الدكتور أشرف شعبان أبو أحمد  ذات ليلة بينما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتفقد أحوال الرعية ليطمئن عليهم ، سمع سيدةً تقول لابنتها : يا بنية ! اخلطي اللبن بالماء . فقالت الابنة : يا أماه ! إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن خلط اللبن بالماء . فقالت الأم : إن أمير المؤمنين لا يرانا . فقالت الابنة : إذا كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) لا يرانا ، فإن رب عمر يرانا . ولم يكن عمر غائباً كما ظنت أمها ، بل كان حاضراً يسمع وينصت ، وسر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهذا الحديث ، وبعث ابنه عاصم في الصباح ليخطب هذه الابنة ، إن الفتاة لم ترض بغش اللبن بالرغم من علمها بأن عين أمير المؤمنين لن تراها ، وتعلم أن الله يراها ، فاستحيت من الله أن يراها على معصية ، فكانت أهلاً لتكون زوجةً لابن ثاني الخلفاء الراشدين ، وجدةً لخامس الخلفاء الراشدين ، فقد علمت بفطرتها وهي طفلة أن الله يراها في كل وقت في السر والعلن ، فصدقت القول بالعمل ، وأصبحت تراقب الله في كل أفعالها ، فأبت أن ترضي مخلوقاً في معصية الله ، حتى لو كانت أمها . إن كان عمر لا يرانا ، فإن رب عمر يرانا ، ضع مكان عمر من شئت من المسئولين ، وولاة الأمر ، وتفقد نفسك ، وحاسبها على هذا المبدأ ، وسيتبين لك أننا في كثير من أمورنا لا نتعامل إلا مع عمر ، ولا نقيم وزناً لرب عمر رضي الله عنه . وعن نافع قال : خرج ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له ، ووضعوا سفرةً لهم ، فمر بهم راعي غنم فسلم ، فقال ابن عمر : هلم يا راعي ، هلم فأصب من هذه السفرة . فقال الراعي له : إني صائم . فقال ابن عمر : أتصوم في هذا اليوم الحار الشديد سمومه ، وأنت في الجبال ترعى الغنم ؟ فقال : أي والله أبادر أيامي الخالية . فقال له ابن عمر ، وهو يريد أن يختبر ورعه : فهل لك أن تبيعنا شاةً من غنمك ، فنعطيك ثمنها ، ونعطيك من لحمها فتفطر عليه ؟ فقال الرعي : إنها ليست لي ، إنها غنم سيدي . فقال ابن عمر : فما عسى سيدك فاعلاً ، إذ تفقدها فقلت : أكلها الذئب ؟ فولى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول : فأين الله ؟ فهذا عبد من عباد الله ، يرعى الغنم في الجبال الموحشة الخالية ، لكنه يعرف كيف يتعامل العبد مع ربه ، فهو يراقب الله الذي يسمعه ويراه ، ولا تخفى عليه خافية ، ولذا فهو لا يحب أن يراه الله في موقف ريبة ، ومن أجل ذلك قال : فأين الله لما طلب منه ابن عمر ، على سبيل الاختبار ، بيع شاة ، ولما قدم ابن عمر إلى المدينة بعث إلى مولاه ، فاشترى منه الغنم والراعي ، فأعتق الراعي ووهب له الغنم ، مكافأةً له . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بمراقبة الله وخشيته ، فقال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما : ” اعبد الله كأنك تراه ” وحين سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان قال صلى الله عليه وسلم : ” أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ” ، في هذا الحديث حقيقة وعظة وعبرة ، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، فليتنا نفهم مراده ، ونعمل بمدلوله ، وهو يترجم بكل واقعية ، حقيقة إيمانية ، أن الله يرانا وهو على كل شيئ رقيب ، وبكل شيئ محيط ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، يعلم ما نخفي وما نعلن ، وما يخفى على الله من شيئ في الأرض ولا في السماء ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ، إنه بكل شيئ عليم . فيا من ترتكب معصية ، كبرت أم صغرت ، عظم شأنها أم قل ، وقد تكون في مشهد مقزز ، تشمئز منه النفوس ، وتنظره العيون شزراً ، ألا تستحي أن يراك الله ، بينما تستحي إن يراك أحد كائناً من كان ، في وضع مخز أو موقف محرج أو مظهر غير لائق ، أو تقع أمامه في خطأ ما يحسب عليك ، وقد يحاسبك عليه ، بل تحرص أشد الحرص ، على أن يراك فيما تحب أن يراك عليه ، ألا تستحي من الله أن يراك وأنت هكذا ، فلو عبدنا الله حق عبادته ،كأننا نراه ، فإن لم نكن نراه فهو يرانا ، واضعين نصب أعيننا ، قوله تعالى : ( أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ) [ البلد : 7 ] وقوله : ( أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ ) [ العلق : 14 ] ، وقوله : ( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ) [ الزخرف : 80 ] موقنين بأن علينا حفظة يحصون أعمالنا لنحاسب عليها ، كما في قوله : ( إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [ المائدة : 105 ] ، وقوله : ( لِيَجْزِىَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِىَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى ) [ النجم : 31 ] ، وقوله عز وجل : ( وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) [ الكهف : 49 ] ، فيا من توسوس له نفسه بمعصية ، فسألها : ألا يرانى الله ! ألا يعلم ما أرتكبه ! ألم يجازيني على ما أفعل ! فاستحى أن يراه الله هكذا ، وزجرته نفسه وعاد لرشده ، لتغير حالنا كثيراً عما هو عليه ، ولكن للأسف تلك الحقيقة يعلمها الكثير منا ولا ينتفعون بعلمهم ، فتجد من لا يقدر أن يفعل معصية أمام الناس ، ويفعلها في خلوته أمام الله ، كما لو كان الله سبحانه وتعالى أهون عليه من الناس ، ولتكون خشيته من الناس عنده ، أعظم من خشيته لله سبحانه وتعالى . ومن الأمثلة على هؤلاء : نوابنا في المجالس النيابية الذي يمثلون فيها رأي وصوت الشعب تحت قبة البرلمان ، وهم من وضع الناس فيهم الثقة ، وحملوا أحلامهم ليضعوها بين أيديهم ، راجين فيهم الأمل ، حالمين بتغير أحوالهم ، مصدقين وعودهم ، لكنهم في أول جلسة لهم على الكرسي ، انتهى دور الناخبين بالنسبة لهم ، بل وأصبحوا مصدر إزعاج وثرثرة لهم ، وقد فتنهم بريق السلطة وصولجانها ، وغرَّهم سلطان المال ورونقه ، فأخذوا على عاتقهم جمع أقصى ما يستطيعون جمعه قبل أن تنتهي المدة ، خشية ألا تتكرر الفرصة مرة أخرى ، ودخلوا في مزايدة على الشرف والضمير ، تخافت صوتهم الذي كان يصيح بحق الناس ، وعلا صوتهم بالضلال ، وأصبحوا ممن يكرسون القانون لخدمة الطغاة ، هؤلاء ألم يضعوا أنفسهم أمام الحقيقة الناصعة الوضوح ، وهي أن العليم الخبير الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض والسماء ، يراهم ويشهد ما يفعلون ، وسيجازيهم على فعلتهم عاجلاً أم أجلاً . قال تعالى : ( لَّهُمْ عَذَابٌ فِى ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ ) [ الرعد : 34 ] ، وقال : ( وَكَذٰلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ ) [ طه : 127 ] . ومنهم أيضاً من يصل بالمكر والخديعة والاحتيال إلى منصب ليس أهلاً له ، ومن تسلق السلم الوظيفي على أكتاف من يستحق الترقي ، وقد أخذ حقاً ليس له ، طامعاً في أن يزيد نفوذه وماله على حساب من يستحق ، ومن أسند له أمر ، وهو ليس أهلاً له ، وهناك من هو أحق به منه ، ألا يعلم أن الله يرى ؟ فمهما جلس يبرر لنفسه أو يدعي الكفاءة أو الاستحقاق ، فإنه يخدع نفسه ، وهذا الخداع لن يستمر طويلاً ، لأن الله سيريه دائماً الحقيقة أمامه تشير له بالجهل والعجز ، أمام مواقف بسيطة ، فيطارده الفشل والضيق ، وقتها سيتمنى راحة البال التي ينعم بها من سلب منه هذا الحق ، هؤلاء الذي قال فيهم عليه الصلاة والسلام ، عندما جاءه أعرابي قائلاً : متى الساعة ؟ فقال : ” فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ” ، قال : كيف إضاعتها ، قال : ” إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ” . ومنهم الغاش لأبناء بلده ولأسرته وللمقربين له ومن قبل ومن بعد لنفسه ، ألم يعلم من غش في صغيرة أو كبيرة من الأمور ، ولم يتب ، قال فيهم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : ” من غشنا ليس منا ” وقال : ” أيما راع غش رعيته فهو في النار ” ، وإن لم يره أحد أو غفلت عنه أعين المراقبين له أو زاغ هو عن مراقبتهم له ، فإن الله يرى وعينه لا تغفل ولا تسهو ، وقال عليه الصلاة والسلام : ” من استرعاه الله رعيةً ثم لم يحطها بنصحه ألا حرم الله عليه الجنة ” . ومنهم من يبخس الناس أشياءهم ولا يوف بالكيل والميزان ، أي ميزان ، ميزان الحق ، ميزان العدل ، ميزان الكيل ذاته أو غيرهم ، ألا يعلم أن الله يرى ؟ وأن هذه الجرامات التي يسلبها من حقوق الناس ، ويظن أنها تزيد أمواله أو أموال من نصره ظلماً ، هي حرام وإن اختلطت بالحلال ، وكيف يرضى لأنفسه ولأولاده أكل الحرام ، قال عليه الصلاة والسلام : ” كل لحم نبت من حرام ، فالنار أولى به ” ، وقال : ” من اقتطع حق امرئ مسلم فقد أوجب الله عليه النار وحرم عليه الجنة ” ، ما ذنب زوجته أن تدخل النار لأنه أطعمها من حرام ، وما ذنب ابنه أن يدخل النار لأن لحمه نبت من حرام ، إن ما يطعمهم به ، يقذف بهم إلى النار ، ويطعم لحمهم الذي نبت من حرام نار جهنم ، وليعلم أنه لن يفلت من عدالة الله ، فكما أخذ من حقوق الناس في الدنيا سيأخذون من حسناته أو يأخذ من سيئاتهم في الآخرة ، ولكن هل هذا سيكفي لوفاء حقوقهم ؟ عسى الله ألا يمهله إلى هذا اليوم ، ويلهمه التوبة قبل فوات أوانها ، قال تعالى : ( يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) [ التحريم : 6 ] . ومنهم من يخرج سعياً وراء شهوة الفرج ، وقد يكون الله قد كفلها له بالمتعة الحلال ، فقد يكون متزوجاً ، من زوجة صالحة ، لكن نفسه الدنيئة تدفعه وراء شهوة حيوانية ، فيفعل ما يفعل ، ويعود زاهياً بنفسه ، ماذا لو أراد الله ، أن يريه سوءة ما فعل ، فيجلسه مع نفسه ، فإذا به ينظر ليجد أمامه صورة واضحة ، يشهد فيها كل ما فعل في الخفاء ، بتفاصيله مجسداً أمام عينه ، لقد أصبح على نفسه شاهد عيان ، هل سأل نفسه ماذا لو انكشفت حقيقتي لزوجتي وأولادي ، هل أستطيع مواجهتهم وهم يفترضون في كل شيئ حسن ؟ هل وصلت لهذه الدرجة من الوضاعة بحيث أضعهم في هذا الموقف ؟ وإذا كان يخشى من رؤية زوجته وأولاده ، وهم لم يروه ، ألا يخشى الله وهو يراه ، بل والأبشع من ذلك أن تظن به الظنون ، أن يرى زوجته ، وقد حلت محله ، لتفعل ما يفعله ، فهل يحتمل هذا أي رجل مهما بلغ من سوء الخلق ؟ إلا إن كان ديوثاً ، ماذا يفعل والشكوك تساوره ، والظنون تكاد تقضي عليه ، وهو يحصي كل مرة ارتكب فيها هذا الجرم الذي يندى له الجبين ، وهل كانت زوجته تفعل ما يفعل في غفلة منه ، وهو يسعى مطمئناً يلهث لإشباع غريزته ؟ ومنهم من تمتد يده الآثمة إلى حقوق الناس ، ولا يلقي بالاً ، لأثر ما اقترفته يداه من المعصية ، بدأ ممن تمتد يده إلى حافظة موظف بسيط ، ظل يكدح ويشقى طوال الشهر ، منتظراً هذا اليوم الذي يأخذ فيه ثمار جهده ، ليدخل على أبنائه حاملاً إليهم الفرحة والسرور حتى لو بالقليل ، فتمتد يد هذا السارق لتنتزع ليس فقط أمواله ولكن فرحته هو وأسرته ، وتبدلها حزناً وشجوناً ، فيظل يفكر المسكين فيما يفعل حتى يخرج من محنته ، ربما يستدين ويضيق المعيشة على أبنائه ، وهذا اللص ينعم بالحرام ، لا يفكر في نتيجة جريمته ، ترى هل يفلت من الله وهو المطلع عليه ؟ ووصولاً إلى لصوص من نوع آخر لصوص يمتلكون مناصب مرموقة ، يستغلونها كي تنتهي بهم إلى ثروة ضخمة ، ومنهم رجال الأعمال الذين عز عليهم التعب والشقاء ، واستطالوا مشوار الكفاح فاستحلوا الحرام ، ومنهم باعة الوهم والأحلام الكاذبة ومستغلو الأزمات وفاقة الناس ليثروا عليها ، وتخيلوا بأنهم أفلتوا بما فعلوا بحيل قانونية أو بمغادرة البلاد ، ألا يعلموا أن الله يرى ؟ وهو مجازيهم على فعلتهم ، إنه القانون الإلهي الذي ليس فيه نقض أو استئناف ولا يخضع للمماطلة . ومنهم من يستأمنه أخ له على بيته وأبنائه وأمواله ، ويتركهم في رعايته ، فتسول له نفسه الضعيفة ، أن يستحل الحرام ويستبيح لنفسه ما ليس من حقه ، ويتملكه الطمع ، ويستجيب لهوى نفسه الأمارة بالسوء ، فتمتد يده إلى هذه الأمانة ، ألا يعلم أن الله يرى ؟ يراه وهو يحل نفسه من ضميره ، ويتخلى عن مروءته ، ليستبيح مال أخيه أو بيته ، وهو من ذهب مطمئناً واثقاً في أخ راجياً فيه حفظ غيبته ، مطمئناً على ولده ، تاركاً له أباً يعوضه ومربياً يأخذ بيده إلى الأمان ، فما هو سوى لص يلتهم حقه ويخون الأمانة . ومنهم من ينهى عبداً إذا صلى أو صام أو زكا أو حج بيت الله الحرام ، ومن ينهى عبداً عن إقامة شعائر الإسلام على نفسه وأسرته ووطنه . ومثله من يمنع الداعية من الدعوة ، والمجاهد في سبيل الله من الجهاد ، ومن ينهى عباد الله عن طاعة الله ، وصد عن سبيله ، أرأيت إن كان هذا الناهي على ضلالة ، وفي جهالة ، ألم يعلم أن الله يرى ما يفعل ، ويبصر ما يعمل ، ويحصي أقواله ، ويكتب أفعاله ، ويعلم أحواله ، أيحسب أن لم يره أحد . ومنهم من قتل مؤمناً لئلا يقول ربي الله ، ومحمد صلى الله عليه وسلم رسولي ، والإسلام ديني ، والقرآن دستوري ، ألم يعلم من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ، وقد حرم الله قتل النفس إلا بالحق ، وأين الحق في ذلك ؟ قال تعالى : ( وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ ) [ الإسراء : 33 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ” من أعان على قتل أدمي ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة وقد كتب على وجهه آيس من رحمة الله ” ، وقال : ” من نظر إلى امرئ نظرة يخيفه بها بغير حق أخافه الله يوم القيامة ” ، وقال : ” من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه وإن كان أخاه لأبيه وأمه ” ، وقال : ” من حمل علينا السلاح فليس منا ” ، فيا من لوثت أو لطخت يدك بدم بريئ قتلته تحت التعذيب أو تحت وطأة الإكراه للاعتراف على شيئ لم يفعله ، يا من لفقت تهمة لهذا أو ذاك من المواطنين الأبرياء ، يا من تقتل دون أن يهتز لك جفن ، وترجع فتضع رأسك على وسادتك ، وتذهب في نوم وأحلام ، ويا من تشعر باللذة في زيادة عدد ضحاياك كل يوم ، ولا تبالي بتوسلاتهم أو صراخهم ، يا من ترتكب مثل هذه الجرائم بوحشية ، يهون الموت بجانبها ، فيصبح رحمة لكرامة الرجال المذبوحة ، وأعراض النساء المنتهكة ، وهيبة الكهول الضائعة ، وبراءة الأطفال المشردة ، ألم يعلم هؤلاء القتلة ممن يرتوون من سفك دماء العباد ، أن الله يرى ؟ ماذا سيقولون لربهم يوم تسود وجوههم ؟ أفلا يعلمون أن أول ما يقضى فيه يوم القيامة الدماء لماذا سفكت ؟ فليتدبروا أمرهم يوم يرون سوءة ما فعلوا نصب أعينهم ، هذا إذا أمهلهم الله إلى هذا اليوم ، فربما جاء الحساب أسرع مما يتخيلون ، وربما استجاب الله لدعاء ضحاياهم ، التي تصرخ من ظلم العباد ، مستغيثة برب العباد ، مطالبةً بالثأر فيريهم يوما لم ينتظروه . ومنهم من يلعب القمار أو الميسر ، ويتلاعب بقوت أبنائه ، ويجارى أصدقاء السوء ، الذين يدفعونه إلى المعصية ، ألم يعلم بأن الله يراه وهو يحرم أبناءه من الضروريات ، ليقامر بما له من مال ، هل انعدمت من نفسه المروءة والرحمة؟ لتحل محلها الأنانية ، وحب الذات والقسوة ، وامتلكه الطمع إلى هذا الحد ؟ فلينظر إلى أين سيؤول به هذا ؟ هل سيكون مصيره السجن ؟ أم سيلقى به إلى طريق لا يرى له نهاية ؟ فلتخجل من نفسك يا رجل ، أفلا تستحي من الله ؟ فلتستجمع إرادتك ، وتجاهد نفسك ، ولتستعن بالله ، ربما كتب لك النجاة مما أنت فيه ، واستطعت التغلب على هوى نفسك ، فلا تقل أن الوقت فات كي تقلع عن هذا الإدمان ، فلم يفت الوقت ، دائماً يفتح الله باب التوبة والرحمة أمام العباد ، فلتقف ببابه مستغفراً عسى أن تكون فرصتك في حياة جديدة ، وثق أنك ستشعر فيها بلذة أكبر ، في بسمة أطفالك وإحساسك بإسعادهم واحترامهم لك ، وسيغمرك حبهم بالدفء والرضا ، وسيخرجك من إدمانك لهذه المعصية ، وقتها فقط ستجد اللذة الحقيقية . ومنهم من إذا حدث كذب بل ويحلف على الكذب ، وإذا اؤتمن خان ، وإذا وعد أخلف ، ومن أنيط به الحكم بين الناس بالعدل وإقامته بينهم ، فلم يقمه لهوى في نفسه أو لمطمع خاص به ، والراشي والمرتشي ، والمرابي ، والمرائي ، ومن يشتغل بالسحر ، ومن يؤذي جاره أو زميله أو غيرهما من المسلمين ، ويقطع رحماً وصله الله ، ومن يتتبع بنظره عورات الناس ، متفحصاً وممحصاً حرماتهم ، ولا يغض بصره عنهم ، ومنهم كل هماز لماز مشاء بنميمة وكل مغتاب ، وكل لعان وقاذف للمحصنات ، ومن يشهد بهتاناً وزرواً ليغتصب حق آخر لنفسه أو لغيره ، أو يزيف ويزور لاستقطاع ما يمتلكه الغير ، ومن يأكل مال اليتيم أو يظلم أرملة ، أو من هو عاق لوالديه ، أو يتحدث عن جهل ، ومن تكبر وطغى وبغى وبطش وسلب ونهب وفسق ، دون أن يخشى أو يتحرج ، ويفعل ما يفعل من سائر الموبقات والمعاصي ، كل هؤلاء ألم يعلموا أن الله يراهم جميعاً وأفراداً ، هل دعا كل منهم نفسه لوقفة تأمل قبل أن يرفع يده ليرتكب جريمةً . فإلى كل العاصين الغافلين ، عليكم وعلينا أن نعي هذه الحقيقة الواضحة أن الله يرى . يرانا في جميع أحوالنا ، يرى ما نفعله في السر والعلن ، فلا يأخذنا الغرور والكبر والحاجة أو تدفعنا أنفسنا إلى ارتكاب المعصية ، فلنجاهدها ولنراقب الله في أفعالنا ، ولنستعد ليوم سيؤتى فيه بشهود ، لن نستطيع تكذيبهم ، أو ترويضهم أو حملهم على ما نريد ، إنهم أعضاؤنا وكافة جوارحنا التي ستشهد علينا ، يوم لا تطاوعنا ألسنتنا أن ندعي فيه شيئاً ، وستشهد على قولنا السوء والإثم والزور والبهتان ، وستشهد أيدينا على أخذنا ما ليس لنا ، وبطوننا على أكلنا الحرام ، وأرجلنا على خطانا نحو المعصية ، قال تعالى : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) [ النور : 24 ] ، يوم لا يفكر أي منا إلا في النجاة بنفسه ، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، ولا ينفع أحدنا الآخر ، لا أب ولا ابن ولا زوجة ، ( يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ . لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) [ عبس : 34 – 37 ] ، قال عز وجل : ( وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) [ البقرة : 281 ] ، فإلى الله الرجعى ، قال تعالى : ( إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ ) [ العلق : 8 ] ، وإليه يرجع الصالح والطالح ، والطائع والعاصي ، والمحق والمبطل ، والخير والشر ، والغني والفقير ، ألا إلى الله تصير الأمور ، فلتستعدوا لهذا اليوم ، فما زالت الفرصة قائمةً أمامنا ، لننجو بأنفسنا ، عسى الله أن يتغمدنا بصفحه وغفرانه ، فلنقترب جميعاً منه ، خائفين عقابه ، مستغفرين ذنوبنا ، راجين رحمته ، أم على قلوب أقفالها ؟ أم لم يحن وقت طلب المغفرة والتوبة ؟ أم هو الأمن من عقاب الله ؟!
يناير 14, 2024
إنّه عظيم … حياة النبي صلى الله عليه وسلم الاجتماعيّة
ديسمبر 11, 2023
الدعوة الإسلامية : ألم يعلم بأن الله يرى الدكتور أشرف شعبان أبو أحمد  ذات ليلة بينما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتفقد أحوال الرعية ليطمئن عليهم ، سمع سيدةً تقول لابنتها : يا بنية ! اخلطي اللبن بالماء . فقالت الابنة : يا أماه ! إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن خلط اللبن بالماء . فقالت الأم : إن أمير المؤمنين لا يرانا . فقالت الابنة : إذا كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) لا يرانا ، فإن رب عمر يرانا . ولم يكن عمر غائباً كما ظنت أمها ، بل كان حاضراً يسمع وينصت ، وسر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهذا الحديث ، وبعث ابنه عاصم في الصباح ليخطب هذه الابنة ، إن الفتاة لم ترض بغش اللبن بالرغم من علمها بأن عين أمير المؤمنين لن تراها ، وتعلم أن الله يراها ، فاستحيت من الله أن يراها على معصية ، فكانت أهلاً لتكون زوجةً لابن ثاني الخلفاء الراشدين ، وجدةً لخامس الخلفاء الراشدين ، فقد علمت بفطرتها وهي طفلة أن الله يراها في كل وقت في السر والعلن ، فصدقت القول بالعمل ، وأصبحت تراقب الله في كل أفعالها ، فأبت أن ترضي مخلوقاً في معصية الله ، حتى لو كانت أمها . إن كان عمر لا يرانا ، فإن رب عمر يرانا ، ضع مكان عمر من شئت من المسئولين ، وولاة الأمر ، وتفقد نفسك ، وحاسبها على هذا المبدأ ، وسيتبين لك أننا في كثير من أمورنا لا نتعامل إلا مع عمر ، ولا نقيم وزناً لرب عمر رضي الله عنه . وعن نافع قال : خرج ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له ، ووضعوا سفرةً لهم ، فمر بهم راعي غنم فسلم ، فقال ابن عمر : هلم يا راعي ، هلم فأصب من هذه السفرة . فقال الراعي له : إني صائم . فقال ابن عمر : أتصوم في هذا اليوم الحار الشديد سمومه ، وأنت في الجبال ترعى الغنم ؟ فقال : أي والله أبادر أيامي الخالية . فقال له ابن عمر ، وهو يريد أن يختبر ورعه : فهل لك أن تبيعنا شاةً من غنمك ، فنعطيك ثمنها ، ونعطيك من لحمها فتفطر عليه ؟ فقال الرعي : إنها ليست لي ، إنها غنم سيدي . فقال ابن عمر : فما عسى سيدك فاعلاً ، إذ تفقدها فقلت : أكلها الذئب ؟ فولى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول : فأين الله ؟ فهذا عبد من عباد الله ، يرعى الغنم في الجبال الموحشة الخالية ، لكنه يعرف كيف يتعامل العبد مع ربه ، فهو يراقب الله الذي يسمعه ويراه ، ولا تخفى عليه خافية ، ولذا فهو لا يحب أن يراه الله في موقف ريبة ، ومن أجل ذلك قال : فأين الله لما طلب منه ابن عمر ، على سبيل الاختبار ، بيع شاة ، ولما قدم ابن عمر إلى المدينة بعث إلى مولاه ، فاشترى منه الغنم والراعي ، فأعتق الراعي ووهب له الغنم ، مكافأةً له . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بمراقبة الله وخشيته ، فقال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما : ” اعبد الله كأنك تراه ” وحين سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان قال صلى الله عليه وسلم : ” أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ” ، في هذا الحديث حقيقة وعظة وعبرة ، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، فليتنا نفهم مراده ، ونعمل بمدلوله ، وهو يترجم بكل واقعية ، حقيقة إيمانية ، أن الله يرانا وهو على كل شيئ رقيب ، وبكل شيئ محيط ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، يعلم ما نخفي وما نعلن ، وما يخفى على الله من شيئ في الأرض ولا في السماء ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ، إنه بكل شيئ عليم . فيا من ترتكب معصية ، كبرت أم صغرت ، عظم شأنها أم قل ، وقد تكون في مشهد مقزز ، تشمئز منه النفوس ، وتنظره العيون شزراً ، ألا تستحي أن يراك الله ، بينما تستحي إن يراك أحد كائناً من كان ، في وضع مخز أو موقف محرج أو مظهر غير لائق ، أو تقع أمامه في خطأ ما يحسب عليك ، وقد يحاسبك عليه ، بل تحرص أشد الحرص ، على أن يراك فيما تحب أن يراك عليه ، ألا تستحي من الله أن يراك وأنت هكذا ، فلو عبدنا الله حق عبادته ،كأننا نراه ، فإن لم نكن نراه فهو يرانا ، واضعين نصب أعيننا ، قوله تعالى : ( أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ) [ البلد : 7 ] وقوله : ( أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ ) [ العلق : 14 ] ، وقوله : ( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ) [ الزخرف : 80 ] موقنين بأن علينا حفظة يحصون أعمالنا لنحاسب عليها ، كما في قوله : ( إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [ المائدة : 105 ] ، وقوله : ( لِيَجْزِىَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِىَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى ) [ النجم : 31 ] ، وقوله عز وجل : ( وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) [ الكهف : 49 ] ، فيا من توسوس له نفسه بمعصية ، فسألها : ألا يرانى الله ! ألا يعلم ما أرتكبه ! ألم يجازيني على ما أفعل ! فاستحى أن يراه الله هكذا ، وزجرته نفسه وعاد لرشده ، لتغير حالنا كثيراً عما هو عليه ، ولكن للأسف تلك الحقيقة يعلمها الكثير منا ولا ينتفعون بعلمهم ، فتجد من لا يقدر أن يفعل معصية أمام الناس ، ويفعلها في خلوته أمام الله ، كما لو كان الله سبحانه وتعالى أهون عليه من الناس ، ولتكون خشيته من الناس عنده ، أعظم من خشيته لله سبحانه وتعالى . ومن الأمثلة على هؤلاء : نوابنا في المجالس النيابية الذي يمثلون فيها رأي وصوت الشعب تحت قبة البرلمان ، وهم من وضع الناس فيهم الثقة ، وحملوا أحلامهم ليضعوها بين أيديهم ، راجين فيهم الأمل ، حالمين بتغير أحوالهم ، مصدقين وعودهم ، لكنهم في أول جلسة لهم على الكرسي ، انتهى دور الناخبين بالنسبة لهم ، بل وأصبحوا مصدر إزعاج وثرثرة لهم ، وقد فتنهم بريق السلطة وصولجانها ، وغرَّهم سلطان المال ورونقه ، فأخذوا على عاتقهم جمع أقصى ما يستطيعون جمعه قبل أن تنتهي المدة ، خشية ألا تتكرر الفرصة مرة أخرى ، ودخلوا في مزايدة على الشرف والضمير ، تخافت صوتهم الذي كان يصيح بحق الناس ، وعلا صوتهم بالضلال ، وأصبحوا ممن يكرسون القانون لخدمة الطغاة ، هؤلاء ألم يضعوا أنفسهم أمام الحقيقة الناصعة الوضوح ، وهي أن العليم الخبير الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض والسماء ، يراهم ويشهد ما يفعلون ، وسيجازيهم على فعلتهم عاجلاً أم أجلاً . قال تعالى : ( لَّهُمْ عَذَابٌ فِى ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ ) [ الرعد : 34 ] ، وقال : ( وَكَذٰلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ ) [ طه : 127 ] . ومنهم أيضاً من يصل بالمكر والخديعة والاحتيال إلى منصب ليس أهلاً له ، ومن تسلق السلم الوظيفي على أكتاف من يستحق الترقي ، وقد أخذ حقاً ليس له ، طامعاً في أن يزيد نفوذه وماله على حساب من يستحق ، ومن أسند له أمر ، وهو ليس أهلاً له ، وهناك من هو أحق به منه ، ألا يعلم أن الله يرى ؟ فمهما جلس يبرر لنفسه أو يدعي الكفاءة أو الاستحقاق ، فإنه يخدع نفسه ، وهذا الخداع لن يستمر طويلاً ، لأن الله سيريه دائماً الحقيقة أمامه تشير له بالجهل والعجز ، أمام مواقف بسيطة ، فيطارده الفشل والضيق ، وقتها سيتمنى راحة البال التي ينعم بها من سلب منه هذا الحق ، هؤلاء الذي قال فيهم عليه الصلاة والسلام ، عندما جاءه أعرابي قائلاً : متى الساعة ؟ فقال : ” فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ” ، قال : كيف إضاعتها ، قال : ” إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ” . ومنهم الغاش لأبناء بلده ولأسرته وللمقربين له ومن قبل ومن بعد لنفسه ، ألم يعلم من غش في صغيرة أو كبيرة من الأمور ، ولم يتب ، قال فيهم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : ” من غشنا ليس منا ” وقال : ” أيما راع غش رعيته فهو في النار ” ، وإن لم يره أحد أو غفلت عنه أعين المراقبين له أو زاغ هو عن مراقبتهم له ، فإن الله يرى وعينه لا تغفل ولا تسهو ، وقال عليه الصلاة والسلام : ” من استرعاه الله رعيةً ثم لم يحطها بنصحه ألا حرم الله عليه الجنة ” . ومنهم من يبخس الناس أشياءهم ولا يوف بالكيل والميزان ، أي ميزان ، ميزان الحق ، ميزان العدل ، ميزان الكيل ذاته أو غيرهم ، ألا يعلم أن الله يرى ؟ وأن هذه الجرامات التي يسلبها من حقوق الناس ، ويظن أنها تزيد أمواله أو أموال من نصره ظلماً ، هي حرام وإن اختلطت بالحلال ، وكيف يرضى لأنفسه ولأولاده أكل الحرام ، قال عليه الصلاة والسلام : ” كل لحم نبت من حرام ، فالنار أولى به ” ، وقال : ” من اقتطع حق امرئ مسلم فقد أوجب الله عليه النار وحرم عليه الجنة ” ، ما ذنب زوجته أن تدخل النار لأنه أطعمها من حرام ، وما ذنب ابنه أن يدخل النار لأن لحمه نبت من حرام ، إن ما يطعمهم به ، يقذف بهم إلى النار ، ويطعم لحمهم الذي نبت من حرام نار جهنم ، وليعلم أنه لن يفلت من عدالة الله ، فكما أخذ من حقوق الناس في الدنيا سيأخذون من حسناته أو يأخذ من سيئاتهم في الآخرة ، ولكن هل هذا سيكفي لوفاء حقوقهم ؟ عسى الله ألا يمهله إلى هذا اليوم ، ويلهمه التوبة قبل فوات أوانها ، قال تعالى : ( يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) [ التحريم : 6 ] . ومنهم من يخرج سعياً وراء شهوة الفرج ، وقد يكون الله قد كفلها له بالمتعة الحلال ، فقد يكون متزوجاً ، من زوجة صالحة ، لكن نفسه الدنيئة تدفعه وراء شهوة حيوانية ، فيفعل ما يفعل ، ويعود زاهياً بنفسه ، ماذا لو أراد الله ، أن يريه سوءة ما فعل ، فيجلسه مع نفسه ، فإذا به ينظر ليجد أمامه صورة واضحة ، يشهد فيها كل ما فعل في الخفاء ، بتفاصيله مجسداً أمام عينه ، لقد أصبح على نفسه شاهد عيان ، هل سأل نفسه ماذا لو انكشفت حقيقتي لزوجتي وأولادي ، هل أستطيع مواجهتهم وهم يفترضون في كل شيئ حسن ؟ هل وصلت لهذه الدرجة من الوضاعة بحيث أضعهم في هذا الموقف ؟ وإذا كان يخشى من رؤية زوجته وأولاده ، وهم لم يروه ، ألا يخشى الله وهو يراه ، بل والأبشع من ذلك أن تظن به الظنون ، أن يرى زوجته ، وقد حلت محله ، لتفعل ما يفعله ، فهل يحتمل هذا أي رجل مهما بلغ من سوء الخلق ؟ إلا إن كان ديوثاً ، ماذا يفعل والشكوك تساوره ، والظنون تكاد تقضي عليه ، وهو يحصي كل مرة ارتكب فيها هذا الجرم الذي يندى له الجبين ، وهل كانت زوجته تفعل ما يفعل في غفلة منه ، وهو يسعى مطمئناً يلهث لإشباع غريزته ؟ ومنهم من تمتد يده الآثمة إلى حقوق الناس ، ولا يلقي بالاً ، لأثر ما اقترفته يداه من المعصية ، بدأ ممن تمتد يده إلى حافظة موظف بسيط ، ظل يكدح ويشقى طوال الشهر ، منتظراً هذا اليوم الذي يأخذ فيه ثمار جهده ، ليدخل على أبنائه حاملاً إليهم الفرحة والسرور حتى لو بالقليل ، فتمتد يد هذا السارق لتنتزع ليس فقط أمواله ولكن فرحته هو وأسرته ، وتبدلها حزناً وشجوناً ، فيظل يفكر المسكين فيما يفعل حتى يخرج من محنته ، ربما يستدين ويضيق المعيشة على أبنائه ، وهذا اللص ينعم بالحرام ، لا يفكر في نتيجة جريمته ، ترى هل يفلت من الله وهو المطلع عليه ؟ ووصولاً إلى لصوص من نوع آخر لصوص يمتلكون مناصب مرموقة ، يستغلونها كي تنتهي بهم إلى ثروة ضخمة ، ومنهم رجال الأعمال الذين عز عليهم التعب والشقاء ، واستطالوا مشوار الكفاح فاستحلوا الحرام ، ومنهم باعة الوهم والأحلام الكاذبة ومستغلو الأزمات وفاقة الناس ليثروا عليها ، وتخيلوا بأنهم أفلتوا بما فعلوا بحيل قانونية أو بمغادرة البلاد ، ألا يعلموا أن الله يرى ؟ وهو مجازيهم على فعلتهم ، إنه القانون الإلهي الذي ليس فيه نقض أو استئناف ولا يخضع للمماطلة . ومنهم من يستأمنه أخ له على بيته وأبنائه وأمواله ، ويتركهم في رعايته ، فتسول له نفسه الضعيفة ، أن يستحل الحرام ويستبيح لنفسه ما ليس من حقه ، ويتملكه الطمع ، ويستجيب لهوى نفسه الأمارة بالسوء ، فتمتد يده إلى هذه الأمانة ، ألا يعلم أن الله يرى ؟ يراه وهو يحل نفسه من ضميره ، ويتخلى عن مروءته ، ليستبيح مال أخيه أو بيته ، وهو من ذهب مطمئناً واثقاً في أخ راجياً فيه حفظ غيبته ، مطمئناً على ولده ، تاركاً له أباً يعوضه ومربياً يأخذ بيده إلى الأمان ، فما هو سوى لص يلتهم حقه ويخون الأمانة . ومنهم من ينهى عبداً إذا صلى أو صام أو زكا أو حج بيت الله الحرام ، ومن ينهى عبداً عن إقامة شعائر الإسلام على نفسه وأسرته ووطنه . ومثله من يمنع الداعية من الدعوة ، والمجاهد في سبيل الله من الجهاد ، ومن ينهى عباد الله عن طاعة الله ، وصد عن سبيله ، أرأيت إن كان هذا الناهي على ضلالة ، وفي جهالة ، ألم يعلم أن الله يرى ما يفعل ، ويبصر ما يعمل ، ويحصي أقواله ، ويكتب أفعاله ، ويعلم أحواله ، أيحسب أن لم يره أحد . ومنهم من قتل مؤمناً لئلا يقول ربي الله ، ومحمد صلى الله عليه وسلم رسولي ، والإسلام ديني ، والقرآن دستوري ، ألم يعلم من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ، وقد حرم الله قتل النفس إلا بالحق ، وأين الحق في ذلك ؟ قال تعالى : ( وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ ) [ الإسراء : 33 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ” من أعان على قتل أدمي ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة وقد كتب على وجهه آيس من رحمة الله ” ، وقال : ” من نظر إلى امرئ نظرة يخيفه بها بغير حق أخافه الله يوم القيامة ” ، وقال : ” من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه وإن كان أخاه لأبيه وأمه ” ، وقال : ” من حمل علينا السلاح فليس منا ” ، فيا من لوثت أو لطخت يدك بدم بريئ قتلته تحت التعذيب أو تحت وطأة الإكراه للاعتراف على شيئ لم يفعله ، يا من لفقت تهمة لهذا أو ذاك من المواطنين الأبرياء ، يا من تقتل دون أن يهتز لك جفن ، وترجع فتضع رأسك على وسادتك ، وتذهب في نوم وأحلام ، ويا من تشعر باللذة في زيادة عدد ضحاياك كل يوم ، ولا تبالي بتوسلاتهم أو صراخهم ، يا من ترتكب مثل هذه الجرائم بوحشية ، يهون الموت بجانبها ، فيصبح رحمة لكرامة الرجال المذبوحة ، وأعراض النساء المنتهكة ، وهيبة الكهول الضائعة ، وبراءة الأطفال المشردة ، ألم يعلم هؤلاء القتلة ممن يرتوون من سفك دماء العباد ، أن الله يرى ؟ ماذا سيقولون لربهم يوم تسود وجوههم ؟ أفلا يعلمون أن أول ما يقضى فيه يوم القيامة الدماء لماذا سفكت ؟ فليتدبروا أمرهم يوم يرون سوءة ما فعلوا نصب أعينهم ، هذا إذا أمهلهم الله إلى هذا اليوم ، فربما جاء الحساب أسرع مما يتخيلون ، وربما استجاب الله لدعاء ضحاياهم ، التي تصرخ من ظلم العباد ، مستغيثة برب العباد ، مطالبةً بالثأر فيريهم يوما لم ينتظروه . ومنهم من يلعب القمار أو الميسر ، ويتلاعب بقوت أبنائه ، ويجارى أصدقاء السوء ، الذين يدفعونه إلى المعصية ، ألم يعلم بأن الله يراه وهو يحرم أبناءه من الضروريات ، ليقامر بما له من مال ، هل انعدمت من نفسه المروءة والرحمة؟ لتحل محلها الأنانية ، وحب الذات والقسوة ، وامتلكه الطمع إلى هذا الحد ؟ فلينظر إلى أين سيؤول به هذا ؟ هل سيكون مصيره السجن ؟ أم سيلقى به إلى طريق لا يرى له نهاية ؟ فلتخجل من نفسك يا رجل ، أفلا تستحي من الله ؟ فلتستجمع إرادتك ، وتجاهد نفسك ، ولتستعن بالله ، ربما كتب لك النجاة مما أنت فيه ، واستطعت التغلب على هوى نفسك ، فلا تقل أن الوقت فات كي تقلع عن هذا الإدمان ، فلم يفت الوقت ، دائماً يفتح الله باب التوبة والرحمة أمام العباد ، فلتقف ببابه مستغفراً عسى أن تكون فرصتك في حياة جديدة ، وثق أنك ستشعر فيها بلذة أكبر ، في بسمة أطفالك وإحساسك بإسعادهم واحترامهم لك ، وسيغمرك حبهم بالدفء والرضا ، وسيخرجك من إدمانك لهذه المعصية ، وقتها فقط ستجد اللذة الحقيقية . ومنهم من إذا حدث كذب بل ويحلف على الكذب ، وإذا اؤتمن خان ، وإذا وعد أخلف ، ومن أنيط به الحكم بين الناس بالعدل وإقامته بينهم ، فلم يقمه لهوى في نفسه أو لمطمع خاص به ، والراشي والمرتشي ، والمرابي ، والمرائي ، ومن يشتغل بالسحر ، ومن يؤذي جاره أو زميله أو غيرهما من المسلمين ، ويقطع رحماً وصله الله ، ومن يتتبع بنظره عورات الناس ، متفحصاً وممحصاً حرماتهم ، ولا يغض بصره عنهم ، ومنهم كل هماز لماز مشاء بنميمة وكل مغتاب ، وكل لعان وقاذف للمحصنات ، ومن يشهد بهتاناً وزرواً ليغتصب حق آخر لنفسه أو لغيره ، أو يزيف ويزور لاستقطاع ما يمتلكه الغير ، ومن يأكل مال اليتيم أو يظلم أرملة ، أو من هو عاق لوالديه ، أو يتحدث عن جهل ، ومن تكبر وطغى وبغى وبطش وسلب ونهب وفسق ، دون أن يخشى أو يتحرج ، ويفعل ما يفعل من سائر الموبقات والمعاصي ، كل هؤلاء ألم يعلموا أن الله يراهم جميعاً وأفراداً ، هل دعا كل منهم نفسه لوقفة تأمل قبل أن يرفع يده ليرتكب جريمةً . فإلى كل العاصين الغافلين ، عليكم وعلينا أن نعي هذه الحقيقة الواضحة أن الله يرى . يرانا في جميع أحوالنا ، يرى ما نفعله في السر والعلن ، فلا يأخذنا الغرور والكبر والحاجة أو تدفعنا أنفسنا إلى ارتكاب المعصية ، فلنجاهدها ولنراقب الله في أفعالنا ، ولنستعد ليوم سيؤتى فيه بشهود ، لن نستطيع تكذيبهم ، أو ترويضهم أو حملهم على ما نريد ، إنهم أعضاؤنا وكافة جوارحنا التي ستشهد علينا ، يوم لا تطاوعنا ألسنتنا أن ندعي فيه شيئاً ، وستشهد على قولنا السوء والإثم والزور والبهتان ، وستشهد أيدينا على أخذنا ما ليس لنا ، وبطوننا على أكلنا الحرام ، وأرجلنا على خطانا نحو المعصية ، قال تعالى : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) [ النور : 24 ] ، يوم لا يفكر أي منا إلا في النجاة بنفسه ، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، ولا ينفع أحدنا الآخر ، لا أب ولا ابن ولا زوجة ، ( يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ . لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) [ عبس : 34 – 37 ] ، قال عز وجل : ( وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) [ البقرة : 281 ] ، فإلى الله الرجعى ، قال تعالى : ( إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ ) [ العلق : 8 ] ، وإليه يرجع الصالح والطالح ، والطائع والعاصي ، والمحق والمبطل ، والخير والشر ، والغني والفقير ، ألا إلى الله تصير الأمور ، فلتستعدوا لهذا اليوم ، فما زالت الفرصة قائمةً أمامنا ، لننجو بأنفسنا ، عسى الله أن يتغمدنا بصفحه وغفرانه ، فلنقترب جميعاً منه ، خائفين عقابه ، مستغفرين ذنوبنا ، راجين رحمته ، أم على قلوب أقفالها ؟ أم لم يحن وقت طلب المغفرة والتوبة ؟ أم هو الأمن من عقاب الله ؟!
يناير 14, 2024

الدعوة الإسلامية :

حقوق النبي صلى اللّه عليه و سلم على أمته

بقلم : الشيخ السيد بلال عبد الحي الحسني الندوي

تعريب : الأخ نعمت الله قاسم الندوي

لقد كانت البعثة المحمدية – على صاحبها ألف ألف تحية وسلام – ولادةً جديدةً للبشرية ، وصبحاً مشرقاً للعالم ، فقد قام سيد المرسلين محمد صلى اللّه عليه وسلم بإسعاد البشرية جمعاء بمنح عظيمة وعطايا جسيمة ، وأعلن لها بالمجد والعز والشرف والسعادة ، بعدما أصيبت بالذل والهوان والشقاء والحرمان . وإن فضله – عليه الصلاة والسلام – لا يقتصر على طبقة من طبقات البشرية أو على أمة من أمم العالم ، أو على العرب دون العجم أو على المسلمين دون غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى ، بل تعم منته ومنحته وفضله ورحمته كل نوع من أنواع البشرية ، بل كل فرد من أفرادها .

فمن فضله – عليه الصلاة والسلام – على البشرية أنه بيَّن معنى عظمة الإنسان وكرامته ، فتلا عليها قول اللّه عز وجل الذي نزل عليه     ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) [ سورة الإسراء : 70 ] . هذه الآية إعلان صارخ عن الكرامة البشرية ، وذلك أعظم نعمة وأكبر فضل سعد به البشر منذ وجوده ، ويُعد ذلك من مآثر محمد صلى اللّه عليه وسلم الكبرى وعطاياه العظمى لجميع الأنواع البشرية التي تنتشر على وجه الأرض ، ولم يشهد التاريخ الإنساني أكبر وأجل من هذا العطاء .

ومن فضله عليه الصلاة والسلام على البشرية أنه لقن الإنسان التائه الضال دروس التوحيد ، ليخرجه من عبادة بني جلدته الذين يشبهونه في الاحتياج إلى المأكل والمشرب ، وإلى غير ذلك من مرافق الحياة ، وليخرجه من عبادة الأشجار والأحجار الصماء البكماء ، وعبادة أشياء يخاف ضرها ويرجو نفعها ، إلى عبادة اللّه الواحد الأحد ، الذي يخلق و يرزق ، يحيي ويميت ، يقول اللّه عز وجل : ( أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ ) [ سورة الأعراف : 54 ] . ويقول : ( شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ ) [ سورة آل عمران : 18 ] .

ومن فضله عليه الصلاة والسلام أنه أعلن بعد فترة من الزمن عاشها النوع البشري موزعاً بين قوميات وجنسيات ، وأمم وقبائل وطبقات ، أن الإنسان أخو الإنسان حسب التعاليم الأساسية لهذا الدين السماوي الخالد الأخير ، وأن جميع البشر واحد كما أن إلههم واحد ، وأن هذا الدين الذي جاء به إلى البشرية – التي عاشت منذ أمد بعيد مفرقةً ومقسمةً بين المالك والمملوك والسلطان والصعلوك والقوي والضعيف والغني والفقير ، وكانت في حاجة أكيدة إلى نظام يمنحها فكرة الوحدة الإنسانية ، ويقوم هذا الدين على دعامتين قويمتين ؛ هما وحدة الربوبية ووحدة البشرية ، فقام بالإعلان التاريخي العظيم أمام الجمع الحاشد من الطبقات البشرية ؛ متعددة الألوان والأجناس ، متنوعة المدن والبلاد ، متباينة الأسر والبيوتات : أيها الناس ! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ، إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم . ( رواه البيهقي في شعب الإيمان 5137 ) .

وبهذا الإعلان التاريخي سما بالبشرية إلى درجة عظيمة من العز والشرف والسعادة التي لم تعرفها من قبل .

ومن فضله عليه الصلاة والسلام على البشرية أنه ردَّ إلى النساء اعتبارهن وكرامتهن ومنحههن من الحقوق ما حرمن ، كما أخرج الناس من ظلمات اليأس والتشاؤم المتراكمة إلى نور الأمل والتفاؤل اللامع ، وكانت حينذاك نظرية الفصل بين الدين والدنيا فقضى عليها ، وأزال ما كان بينهما من بون شاسع وبعد كبير . وجمع جمعاً متوازناً بين الدين والعلم ، وربط مصير أحدهما بالآخر ، يقول اللّه سبحانه وتعالى : ( هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ ) [ سورة الجمعة : 2 ] ، ويقول : ( ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ )         [ سورة العلق : 1 ] .

ومن فضله عليه الصلاة والسلام أنه فجَّر ينابيع العلم الجافة ، وأعلى منزلة القلم ورفع من قيمته ، ووجَّه العالم إلى علم هادف نافع ، وأهاب الإنسان بأهمية استخدام العقل وأكَّد على الانتفاع به ، ودعا إلى اتخاذه كوسيلة للتدبر في آيات اللّه تعالى ، وحثَّ على النظر في الأنفس والآفاق .

ومن فضله عليه الصلاة والسلام أيضاً أنه جعل هذه الأمة الإسلامية كأمة ألقيت على كواهلها مسؤولية الوصاية على العالم والحسبة على سيره واتجاهاته وأخلاقه ، وأعلن أنها لم تُبعث لتندفع مع تطورات العالم سريعاً أو بطيئاً ، وتواكبه حيث اتجه وسار ، بل بُعثت لتوجيه العالم وقلب تيار المجتمع البشري ، يقول اللّه تبارك وتعالى :         ( وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ ) [ سورة البقرة : 143 ] وليس إلا ليقوم الاتزان بين سكان الأرض ، وتبقى معايير المثل والقيم والأخلاق التي تميز البشرعن غيره من المخلوقات .

هكذا أنشأ محمد عليه الصلاة والسلام حضارةً عالميةً بُنيت على مبدأ الوحدة البشرية التي تفتقر إليها البشرية أشد افتقار ، وبها يستطيع العالم أن يتخلص من كل مأزق .

وسنَّ للحياة الإنسانية دستوراً ، ليس نبراس هدى للحياة الفردية فحسب ، بل للحياة الجماعية أيضاً ، وبالجملة فقد غيَّر اتجاه عجلة الحياة التي كانت منحدرةً نحو حضيض الهلاك ، ووجَّهها إلى سبيل الأمن والسلام وأسعدها بالنجاة الدائمة .

والحق أن ما أسداه النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم من فضل عميم وخير جسيم إلى البشرية وما منحها من منن ومنح لن يستطيع أحد أن يجزيه عنها ، إلا أنه تعود على البشرية عامةً وعلى الأمة المسلمة خاصةً حقوق وواجبات تجاه محمد صلى اللّه عليه وسلم الذي بعث رحمة للعالمين .

ومن أول وأهم الحقوق الواجبة علينا تجاه نبينا أن يكون إيماننا به صادقاً ، وأن نقوم باستعراض هذا الإيمان دائماً ، لأنه إذا سرى فيه شيئ من الضعف والنقص ، انهدم بنيانه بأكمله .

والحق الثاني : أن تكون عظمته متمكنةً من قلوبنا ومتغلغلةً في أحشائنا . ونعتقد أنه أفضل وأعظم الخلق من دون مراء .

والحق الثالث : حبه صلى اللّه عليه وسلم حباً يتمكن من العقل والقلب ويفوق كل شيئ .

والحق الرابع : طاعته واتباعه ، فمن واجبات كل فرد من أفراد هذه الأمة أن يتبعه في كل مرحلة من مراحل الحياة وفي كل شأن من شؤونها .

والحق الخامس : الاطلاع على سيرته والإلمام بحياته إجمالاً وتفصيلاً ، فمعرفة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وفهمها السديد الصحيح من أهم مسؤوليات هذه الأمة .

والحق السادس : نصره ونصر دينه وشريعته ، وتعزير مهمته ودعوته .

ومن حقه العظيم أيضاً الإكثار من الصلاة عليه والاهتمام بها ليل نهار ، صباح مساء .

فنذكر فيما يلي نبذةً من الحقوق التي وردت في القرآن المجيد ، وبينها النبي عليه الصلاة والسلام بأقواله .   ( وللحديث بقية )