إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً ، وَنَرَاهُ قَرِيباً

قهر الشعوب بالاتجاه المزدوج
يوليو 28, 2023
سجل إجرامي لليهود وفضائحهم
يناير 14, 2024
قهر الشعوب بالاتجاه المزدوج
يوليو 28, 2023
سجل إجرامي لليهود وفضائحهم
يناير 14, 2024

صور وأوضاع :

إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً ، وَنَرَاهُ قَرِيباً

محمد فرمان الندوي

تشهد أرض فلسطين منذ زمن بعيد ظلماً واضطهاداً خارقاً للعادة ، وهو يُبكي الإنسان الغيور دماً ، ويجعل الحليم حيراناً ، ويجعل الألسن خرساً ، والآذان صماً ، فضلاً عن المسلمين العرب الذين ينتمون إلى هذه الأرض وطنياً وعقدياً ، وقد احمرَّت هذه الأرض بدماء الشهداء الزكية ما بين أطفال رُضع ، ونساء عفيفات وشيوخ معمرين ، ومرضى أحلاس المستشفيات ، ما عدا السكان المواطنين الآمنين والمجاهدين البواسل منذ أكثر من سبعين سنة ، وقد استرعى هذا الموضوع انتباه العالم والإعلام العالمي حينما دافع أبطال حركة المقاومة الإسلامية عن بلدهم في السابع من أكتوبر 2023م ، بغارات وهجمات برية وبحرية وفضائية معاً ، حتى اخترقوا الحدود الإسرائلية ، وألحقوا العار والشنار بالعدو اللدود الذي كان ولا يزال غصةً في حلقومهم ، ودخلوا الأراضي المحتلة المغتصبة نحو أربعين كم في داخل إسرائيل ، الواقع الذي أثار ضجةً كبيرةً على الصعيد العالمي ، واعتبرت إسرائيل وحلفاؤها الأوربية والآسيوية هذا الهجوم الدفاعي هجوماً إرهابياً ، وقد أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية أساطيل بحريةً مزودةً بالأسلحة الحديثة دفاعاً عن العدو المحتل ، ولم ينته الأمر إلى هذا الحد ، بل زار وزير خارجيتها إسرائيل دعماً وتأييداً لها ، وحاول لإرضاء الدول المجاورة المحيطة بإسرائيل ، ثم زار الرئيس الأمريكي جوبايدن ، وذرَّ الرماد في عيون المظلومين المضطهدين بالإشادة بموقف إسرائيل ، وقد سمى أبطال فلسطين هذه المقاومة طوفان الأقصى ، فإن طوفان الأقصى قد نال في تاريخ مقاومة وتحرير فلسطين نجاحاً كبيراً ، ولا يزال هذا النجاح يبلغ منتهاه ويحصد النتائج السارة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين        على الحق ، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي وعد الله وهم على ذلك ( متفق عليه ) ، والمراد من وعد الله هو فتح هذه الأرض وإنقاذها من الأيدي الآثمة .

طوفان الأقصى تداعيات وأسباب :

اعتبرت بعض الجهات المغرضة طوفان الأقصى انتحاراً وقتلاً للأنفس والأرواح ، وقد أغارت ولا تزال تغير إسرائيل كرد فعل على هجوم طوفان الأقصى ما لا يخفى على ذوي البصر والبصيرة ، لكن إذا درسنا الموضوع في ضوء الحقائق والأرقام عرفنا أن طوفان الأقصى كان نداء الساعة وحاجة الوقت وجهاد اليوم ، وكيف لا يكون ذلك ؟ وله أسباب وتداعيات :

(1) وقد احتلت إسرائيل أرض الفلسطينين العرب ، بل أرض الإسلام والمسلمين ، ولا يزال يقذف بالصواريخ والرشقات كل يوم ترويعاً وتخويفاً للمواطنين الآمنين في فلسطين ، وهناك ملف كامل للمذابح الصهيونية ضد العرب الفلسطينين منذ عام 1948م ، يكفي هنا الإشارة إلى هذه المجازر والمذابح ، منها مجزرة قريتي الشيخ وحواسه ، ومجزرة قرية سعسع ، ومجزرة دير ياسين ، ومجزرة بيت لحم ، ومجزرة خان يونس ، ومجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982م ، ومجزرة الحرم الإبراهيمي ، ومجزرة قانا 1996م .

(2) اعتقلت إسرائيل في سجونها من الفلسطينين حوالي خمسة آلاف شاب ، و 170 طفلاً ، و 33 امرأةً ، وهؤلاء يعانون أنواعاً من التعذيب والتنكيل ، فكيف لا يستحقون أن ينقذوا إخوانهم وأخواتهم من معتقلات وسجون إسرائيل ، هذا ما لا يسمح به الشريعة والعقل الإنساني .

(3) كان هناك تسابق وتنافس في تطبيع العلاقات مع الحكومة الجاثمة على صدور المسلمين في أرض فلسطين ، من الدول العربية ، وقد طبعت بعض الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل ، وبعضها كانت مستعدةً وقائمةً في الطابور ، وإذا سمحت بوجود إسرائيل في أرض فلسطين عملياً ، انتهى الأمر وساد اليأس والقنوط على العالم الإسلامي بكامله ، وكُتب للمسلمين الذل والهوان والدون ، فلا بد من اتخاذ خطوات حاسمة نحو هذه المنافسات الغير الشرعية الجائرة ، وقد وضع طوفان الأقصى حداً قوياً من هذا الاتجاه .

مكانة القدس وتاريخيتها :

الخلق والأمر ابتداآ من أم القرى مكة المكرمة ، ومن تحتها دُحيت الأرض وفرشت ، والمنتهى والمحشر هو أرض الشام كلها قبل تقسميها إلى دويلات خمس : فلسطين وسوريا ولبنان والأردن وإسرائيل ، فأرض الشام هي الأرض المقدسة ، وهي الأرض المباركة ، وفيها المسجد الأقصى ، وإليها هجرة إبراهيم عليه السلام ، وإليها بعثة الأنبياء والرسل ، وهي مسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومنها معراجه ، وبها طائفة منصورة من أمته صلى الله عليه وسلم ، فليس في أرض الشام شبر إلا وقد صلى عليه نبي مرسل ، أو قام عليه ملك مقرب ، وقد دُفن فيها نحو عشرة آلاف نبي على أحد الأقوال ، وقد وصف الله هذه الأرض بالبركة ، وهي البركة الدنيوية والدينية ، فالبركة الدنيوية بطيب هوائها وعذوبة مائها ، وكثرة زروعها وأشجارها ، والبركة الدينية هي موطن الأنبياء والرسل ومدفنهم ، قال تعالى : ( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) [ الأنبياء : 71 ] ، وقد ارتبطت قدسية هذه الأرض بالعقيدة الإسلامية ، وهي القبلة الأولى للمسلمين ، وثالث الحرمين ، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم متجهاً إليه نحو سبعة عشر شهراً بعد هجرة إلى المدينة ، كما كان في مكة المكرمة يصلي بحيث تكون الكعبة والأقصى أمامه ، فتوثقت إسلاميتها ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا أي المسجد النبوي [ صحيح مسلم : 1397 ] .

استقر الساميون العرب في فلسطين قبل ميلاد المسيح بستة آلاف سنة ، ثم استوطنها الكنعانيون العرب واليبوسيون والجرجاشيون والعمالقة والفراعنة وبنو إسرائيل ، والبابليون واليونان والرومان والبيزنطيون ، وقد فتحها سيدنا عمر رضي الله عنه في السنة السادسة عشرة من الهجرة ، وفي القرن الخامس الهجري احتل الصليبيون عام أربع مأة وثلاثة وتسعين من الهجرة ، وظلوا على ذلك تسعين سنة ، فقام أسد من أسود الله السلطان صلاح الدين الأيوبي ، وحررها من أيدي الصليبيين ، ثم بقيت هذه الأرض في أيدي المسلمين إلى الاحتلال البريطاني بعد تبعثر الخلافة العثمانية ، ثم قامت حكومة إسرائيل على أراضي المسلمين العرب عام 1948م ، وفي الستينيات من القرن العشرين تم الاحتلال على المسجد الأقصى ، فما زال المسجد الأقصى وما جاوره من المناطق يئن ويصرخ ويستغيث ، فهل من ملب وهل من مجيب ؟

من هم أولى بالأرض المباركة ؟

لا يستحق اليهود أن يكونوا سكان هذه الأرض الأصلاء ، وقد سكنت قبل ذلك عشرة أقوام وشعوب ، وكانت فترة إقامة اليهود متخللةً وقليلةً ، لكن الساميين العرب أول الشعوب سكناً وأطولهم زمناً في هذه الأرض ، وآخرهم إقامةً فيها إن شاء الله المسلمون العرب ، كما جاءت الإشارات إلى ذلك في الحديث النبوي ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود ، فيقتلهم المسلمون ، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر ، فيقول الحجر والشجر : يا مسلم ! يا عبد الله ! هذا يهودي خلفي فاقتله ، إلا الغرقد ، فإنه من شجر اليهود ( صحيح مسلم ، كتاب الفتن وأشراط الساعة : 2922 عن أبي هريرة ) ، وهناك دليل لليهود نحو السيطرة على هذه الأرض أنهم ينسبون أنفسهم إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام ، وسليمان وداود وموسى من أنبيائهم ، وتقول التوارة أن الله أعطى هذه الأرض إبراهيم وذريته ، فلا شك أنهم من ذرية إبراهيم عليه السلام ، والعرب كذلك من ذرية إبراهيم عليه السلام ، فهم أهل لهذه الأرض ، ثم إن الشرف والعظمة لا يحصلان بسبب الذرية والنسب كما يدعي اليهود ، بل يحصلان بالصلاح والتقوى والإيمان والعمل الصالح ، وقد فنّد الله تعالى زعمهم هذا في قوله : ( وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ، قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ، قَالَ : وَمِن ذُرِّيَّتِى ، قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى ٱلظَّالِمِينَ ) [ البقرة : 124 ] ، فاليهود ظلوا ظالمين عبر التاريخ : إنهم كفروا بنعم الله تعالى ، وخالفوا يوم السبت ، وآذوا سيدنا موسى عليه السلام إيذاءً كثيراً ، وقالوا له : اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا هاهنا قاعدون ، إنهم قتلوا زكريا عليه السلام على أحد الأقوال ، إنهم وضعوا المنشار على رأس يحيى عليه السلام وشقوا جسمه في قطعتين ، إنهم صلبوا عيسى عليه السلام حسب زعمهم ، إنهم اتهموا السيدة مريم العذراء ، فلعنهم الله وغضب عليهم ، وأزاحهم من منصب الإمامة والخلافة على الأرض والوصاية على العالم ، قال الله تعالى : ( سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ ) [ الإسراء : 1 ] ، قال المفسرون : إن ذكر المسجد الحرام والمسجد الأقصى معاً في قصة الإسراء والمعراج وإمامة النبي صلى الله عليه وسلم لجميع الأنبياء عليهم السلام يدل دلالةً واضحةً على أن النبي صلى الله عليه وسلم جُعل نبي القبلتين ، فسُلبت الإمامة من اليهود ، وأُسندت إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

ألا إن نصر الله قريب :

فقضية فلسطين هي قضية إسلامية ، ليست هي قضيةً وطنيةً ولا قوميةً ، بل هي قضية إنسانية ، وكل من له نصيب من العقل والبصيرة يشهد بكل ما في الكلمة من معنى أن المسلمين العرب أولى بهذه المنطقة ، لأنهم أقاموا فيها قبل اليهود بفترة زمنية طويلة ، وأنهم أولى منهم بأنبيائهم ، وأن ما يفعل بهم الصهاينة من الاعتداءات يؤشر إلى أن موعدهم للهلاك قريب ، وهذه حقيقة أن الظلم كلما اشتد انتهى ، وأن الظلام إذا اسودّ أسفر الصبح الصادق ، وأشرق النور والضياء ، وإذا كان هناك إمهال من الله للظالمين ، فليس ذلك خيراً لهم ، بل إنما يملي لهم ليزدادوا إثماً ، وقد مر اليهود في تاريخهم بجرائمهم الوقحة مرتين بمراحل صعبة ، ولعل هذه المرحلة مرحلة ثالثة حسب التعبير القرآني ، فإذا جاء وعد الله تعالى افتضحت لهم ادعاءات شعب الله المختار ، والأسرة الإلهية المقدسة ، وفكرة نحن أبناء الله وأحباؤه ، قال الله تعالى بعد ذكر المرحلتين الأوليين في سورة الإسراء : ( عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً ) [ الإسراء :   8 ] ، لا شك أنهم يحلمون بأحلام معسولة نحو أرض فلسطين ، ويجهزون تجهيزات وإعدادات ضخمةً لتحقيق أمانيهم ، ويرون الحياة طويلةً ، لكن المسلمين يعتقدون أن نصر الله قريب ، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً . وَنَرَاهُ قَرِيباً .