خدمات الشيخ السيد محمد الرابع الندوي في إثراء مكتبة  السيرة النبوية

دراسة لآراء الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي في الأدب الإسلامي
ديسمبر 11, 2023
الشيخ محمّد الرابع الحسني الندوي أديباً ألمعيّاً ، وكاتباً بارعاً
يناير 14, 2024
دراسة لآراء الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي في الأدب الإسلامي
ديسمبر 11, 2023
الشيخ محمّد الرابع الحسني الندوي أديباً ألمعيّاً ، وكاتباً بارعاً
يناير 14, 2024

رجال من التاريخ :

خدمات الشيخ السيد محمد الرابع الندوي

في إثراء مكتبة  السيرة النبوية

د . وسيم حسن راجا *

السيرة النبوية موضوع عظيم من النواحي المتعددة ، وعُني الأدباء والعلماء بها عنايةً خاصةً منذ حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ،السيرة النبوية الشريفة هي معدن الفضيلة ومنبع الخير ، فإن القارئ يجد فيها الهداية والقدوة خلال دراسة حياته المباركة صلى الله عليه وسلم ، ويحصل على توجيه رشيد عن مختلف جوانب الحياة ، كما تقربه دراسته إلى فهم الإسلام الصحيح وتعاليمه ، فقد قال الله تبارك وتعالى : ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً ) ( الأحزاب : 21 ) ، فإنه صلى الله عليه وسلم أسوة للعالمين وقدوة لهم في العقيدة والعبادة والأخلاق ، بالإضافة إلى ذلك تعتبر السيرة النبوية ميزاناً توزن في ضوئه الأعمال كما يوجد فيها النهج الصحيح للدعوة إلى الله عز وجل .

لا شك أن سماحة الشيخ محمد الرابع الندوي أحد الأعلام الدعاة للدين الإسلامي في العصر الحديث . والدليل على ذلك هو الإرث الكبير الذي تركه وراءه من الكتب والرسائل والمحاضرات ، التي نالت شهرةً واسعةً في الأوساط العلمية والدينية في الهند وخارجها؛ كما أن رحلاته العلمية التي قام بها وأنشطته المتنوعة في مختلف المؤسسات والمجالس تشهد على الدور الكبير الذي قام به خلال حياته في خدمة الإسلام . وُلد الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي في أسرة علمية عريقة في منطقة راي بريلي بولاية أوتارا براديش بشمال الهند ( 29 أكتوبر 1929م ) ، وكانت الهند آنذاك تحت الاحتلال البريطاني ، ودرس في دار العلوم ديوبند أيضاً ، وكان من أساتذته الشيخ حسين أحمد المدني ، والشيخ محمد زكريا الكاندهلوي ، وخاله الشيخ أبو الحسن الندوي الذي قرأ عليه كتب الأدب واللغة والعلوم الشرعية . التحق الشيخ بجامعة ندوة العلماء ، وتخرج فيها عام 1948م ، وفي عام 1949م بدأ الندوي عمله معلماً للغة العربية في دار العلوم ندوة العلماء ثم أستاذاً مساعداً للأدب العربي فيها ، وتدرج في المناصب حتى اختير رئيساً عاماً لندوة العلماء عام 2000م ، وفي عام 2003م عُيّن رئيساً لهيئة قانون الأحوال الشخصية الإسلامية لعموم الهند ، وإلى جانب التدريس تولى إدارة ندوة العلماء وصار رئيساً لها بعد وفاة خاله أبي الحسن الندوي عام 1999م .

ويعد محمد الرابع الندوي من أبرز مؤسسي رابطة الأدب الإسلامي العالمية ، ورئيساً لمكتب شبه القارة الهندية ، وعضواً في مجلس أمناء الرابطة ، وبعد وفاة رئيس الرابطة الدكتور عبد القدوس أبو صالح عام 2020م ، آلت إليه الرئاسة . وكان محمد الرابع الندوي عضواً في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة . ورئيساً لمجلس الأحوال الشخصية لمسلمي الهند . مع عضويته في عدد من المؤسسات العلمية والأكاديمية العالمية مثل مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية في بريطانيا . شارك محمد الرابع الندوي في المجال الصحفي الإسلامي والأدبي ، بالكتابة أو رئاسة التحرير ، فقد كان رئيساً لتحرير صحيفة الرائد النصف الشهرية الصادرة من نفس الدار ، وشارك بالكتابة والإدارة في مجلات إسلامية تصدر بالأردية ، وقد كرمته الدولة الهندية ، فحصل على جائزة رئيس الجمهورية في خدمة اللغة العربية عام 1981م ، توفي الشيخ في العشر الأواخر من شهر رمضان 2023م عن عمر ناهز 94 عاماً .

كان الشيخ محمد الرابع الندوي من أهم الدعاة للدين الإسلامي ، بفضل ما أعطاه الله من موهبة وملكة ومؤهلات مكنته من ذلك ، هذا بجانب أخلاقه التي اتسم بها منذ نعومة أظفاره ، وكان الشيخ محمد الرابع الندوي مثل الشيخ أبي الحسن الندوي يشعر على الدوام  بالقلق على حال المسلمين ، ويحزنه ما وصلوا إليه من ضعف وفساد وخنوع واستسلام وانحلال وتخلف ، لذا كان يحاول محاولةً أن يوقظ الوعي الديني في نفوس المسلمين من جديد . فقرأ الكثير من الكتب والمقالات والأبحاث ، وبدأ في التجول في مختلف أنحاء الهند .

ركز الشيخ محمد الرابع الندوي كل اهتمامه على السيرة النبوية الشريفة وسار على نهج خاله الشيخ أبي الحسن الندوي ، إنه بدأ بالقراءة في السيرة النبوية منذ نعومة أظفاره ، وقد تأثر الشيخ الندوي بأحداث السيرة النبوية كثيراً ، ودخل في أعماق شخصياتها ومواقفها وتجاوب معها ، ولم يقف على سرد أحداث السيرة ووقائعها التاريخية فقط ، بل كان يبين أن الحقيقة الإسلامية ككل متجسدة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن دراسة السيرة النبوية ليست سوى عمل تطبيقي لها ، وهناك كثير من المؤلفات التي كتبها الندوي والتي تحتوي على أجزاء كثيرة من السيرة النبوية ، وكذلك في محاضراته ومقالاته وخطاباته ، وفي جانب آخر قام بتأليف بعض الكتب المستقلة بذاتها عن السيرة النبوية فقط ؛ من بينها كتاب ” في ظلال السيرة ”  و ” سراجاً منيراً ” وغيرهما .

وكتاب ” في ظلال السيرة ” عبارة عن مجموعة من المقالات والبحوث عن السيرة النبوية ألفها الشيخ بمناسبة ربيع الأول من كل عام في صحيفة الرائد ، ثم جمعها ورتبها وراجعها الأستاذ محمد وثيق الندوي لتعم الفائدة .

وفي هذا الكتاب 18 مقالاً جمعت في قسمين : القسم الأول يشمل الكلمات التي دوَّنها المؤلف بمناسبة ربيع الأول من كل عام في صحيفة الرائد ، والقسم الآخر فيه أربع مقالات مثل ” السيرة النبوية لابن هشام المصدر الأول للسيرة ” ، ” المدائح النبوية دين وأدب ” ، ” لمحات شعورية ونفسية في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ” و ” الدعاء والمناجاة في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ” ، وهذه المقالات قدمت في الندوات العلمية . وعالج الشيخ الندوي في هذه المقالات الجوانب الخلقية لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تبقى عادةً مغلوباً عليها التركيز على جوانب القيادة والغزوات ، ولا شك أن مثل هذه المجموعات لها أهمية ، وهي جزء هام من السيرة ، ولكن الجوانب الإنسانية والأخلاقية والسلوك والرأفة والعفو والصفح والشعور الإنساني ومواقف الحلم والأناة والصبر تحتاج أيضاً إلى اهتمام الدارسين . وتناول فيها على جوانب حياة النبي صلى الله عليه وسلم الإنسانية والخلقية وسماته البارزة المشرقة ومعاملاته الحسنة وعفوه المثالي وصفحه وحلمه وأناته ، إذا طالع القارئ هذه المقالات تدفق خاطره بما فيها من الأخبار العطرة والأحاديث الطيبة ، وجاش فؤاده بما فيها من الحب والوداد والهيام ، ونسيت نفسه همومها ، لأنه الرمز للخصال الحميدة وذروة سنام للخلال الجميلة ، فجزى الله صاحب الكتاب الذي يقول عما أعد المجتمع الإنساني المثالي بأخلاقه وشمائله : ” لقد بذل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم سعيه المخلص النبيل نحواً من ربع قرن ، حتى استطاع أن يبني مجتمعاً من أخاير الناس وأحلاسنهم سيرةً وعقيدةً ونظراً إلى الحياة ، أصبح بعده هذا المجتمع الإنساني الفاضل حاملاً للصلاح والهداية ، وأصبح أفراده دعاةً لفضائل الإنسانية ، وبذلك أعاد الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وسلم الإنسانية إلى مكانتها من الشرف والكرامة وإلى السلامة والأمن ، وإلى الصفاء والطهر ، وإلى الجمال والكمال ، في السيرة والسلوك والأخلاق ” .

أما كتاب ” سراجاً منيراً سيرة خاتم النبيين ” ، فقد قام بتأليف هذا الكتاب في آخر عمره باللغة الأردية بأسلوب سهل وفي قالب علمي وأدبي ، ونقله إلى العربية البليغة مساعده العلمي الأستاذ محمد وثيق الندوي بجدارة وأحسن وأجاد فيه ، وتمكن من نقل هذا الكتاب بروحه وحرارته ، وحجمه ولونه ، وأريجه وعبيره ، فجاء الكتاب كالأصل . يقول الأستاذ جعفر مسعود الندوي في مقدمة هذا الكتاب : ” نال قبولاً واسعاً في الأوساط العلمية والدينية في شبه القارة الهندية ، ثم نقل هذا الكتاب إلى اللغة الهندية ، ليقف الناطقون بها ، ويبلغ عددهم أكثر من مليار ، على سيرة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوبل بترحيب حار لأسلوب مؤلفه السهل العذب المقنع ، وإبرازه لجوانب إنسانية وخلقية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وعرضه الرسول الأعظم كمنقذ للإنسانية التائهة في متاهات الضلالة والغواية ” . ( سراجاً منيراً ، ص : 3 ) .

وفي الباب الأول عرض موجز عن أبي البشر آدم عليه السلام أول إنسان على هذه الخريطة الكروية ، فذكر تكريم الله تعالى إياه بأمر الملائكة بالسجود له ، كما ذكر هبوطه وهبوط زوجته إلى الأرض ، ثم قدم نبذةً عن الأمم السابقة التي أرسل إليها الرسل كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم مدين ، هذا ما يمنح لب القاري جمالاً في بيان مع عذوبة لسان ، ليكون على علم عن الأمم وأنبيائها ورسلها حتى يستعد بكل رغبة وهيام لمعرفة سيرة سيد الرسل محمد صلى الله عليه وسلم . والباب الثاني مشتمل على ” وضع العالم في القرن السادس المسيحي ” ويقول :      ” وكانت هذه الفترة التي لم يبعث فيها نبي من الأنبياء ، من أشد الفترات التي مرَّت بها الإنسانية ظلاماً وانحطاطاً ، ومن أحط أدوار التاريخ ديناً وخلقاً ، كانت الإنسانية تعاني فوضى عامةً في سائر شؤون حياتها ” .

أما الباب الثالث فهو من أهم أبواب الكتاب ، ألقى المؤلف الضوء على أحوال العالم في القرن السادس المسيحي سياسياً وثقافياً وخلقياً ، وعلى أوضاع الدول المختلفة من الدولة الرومانية والدولة الإيرانية والدول الأوربية .

وفي الباب الرابع إلى الباب الثامن ، قدم الندوي باقةً رائعةً لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم من ولادته إلى وفاته ، ونزل بالقارئ في حدائق ذات بهجة من نصوص مشرقة من كتب السيرة النبوية الأساسية ، فلم يترك ما في حياته من جانب التربية والتعليم والإصلاح والتهذيب والتثقيف من أخلاقه النبيلة وشمائله العطرة ، وخصاله السامية وصفاته العالية ، ودعوته إلى الله ومنهجه فيها وصبره على الأذى وتحمله المشاق ، ومعاناته من اعتداء الكفار والمشركين ، وسلوكه في الحرب والسلم ، وإصلاحه ذات البين ، وإنشائه نظاماً اجتماعياً مثالياً قويماً في المدينة المنورة وغير ذلك من جوانبها إلا ذكره بصورة حية صادقة مشرقة تهزّ عواطف القاري وتستجذبه إلى الانخراط فيها ، والاصطباغ بصبغتها ، يجد القاري أمام عينيه حياة النبي صلى الله عليه وسلم متمثلةً من الطفولة إلى أوج القيادة وقمة الكمال ، يمتاز سماحة المؤلف في ذلك كله بوصفه أخلاقَ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وتعليمه الآخرين ومجلسه بين أصحابه ، هذا ما لايشاركه فيه إلا قليل من الآخرين . وذكر المؤلف بدقة عن المنهج النبوي في الإصلاح والدعوة .

ولم ينس ذكر الصحابة رضي الله عنهم في هذا الكتاب ، فزينه في الباب العاشر بذكر أولئك الرجال الذين طلعوا كالنجوم في الآفاق ، وانتشروا برسالة حبيبهم محمد صلى الله عليه وسلم في أرض الله الواحد القهار كالدم في جسد الإنسان ، وضحوا له بكل نفيس وغال ، والذين نسوا لهذا النبي المختار أنفسهم ، وقدموا أمثلةً رائعةً لصلاح الدين والدنيا أمام البشرية كلها ، كأن سماحة المؤلف يقول للقارئ : كن كأبي بكر في إيمانه ، وعمر في شجاعته وعثمان في حيائه وعلي في قضائه ، وخُذ من سلمان ومعاذ وأبي ذر إيمانهم ، وخذ من أبي عبيدة وعمرو بن العاص وخالدبن الوليد همتهم . وضَعْ نصب عينيك قصة بلال وصهيب وعمار وصبرهم ، حتى تكون من هذا الطراز الأول من أهل الإسلام السابقين .

ولشيخنا كتاب قيم بالأردية باسم ” سيرت محمدي صلى الله عليه وسلم انسانيت كے لئے اعلى نمونہ ” ( السيرة المحمدية نموذج للإنسانية ) في 44 صفحة ، أما مقدمته فقد قام بكتابتها الشيخ محمد واضح رشيد الندوي ، وهذا الكتيب فيه نواحي حياة النبي صلى الله عليه وسلم التي تجعله أسوةً كاملةً للإنسانية كلها ليس للمؤمنين به فقط ، ركز فيها على حياته التي قضاها في مكة بعسر وأذى ، لكنه قضاها بصبر وحلم وأناة حتى لم ينتقم من أحد لنفسه ، بل عامل مع الأعداء الذين كانوا يؤذونه صباح مساء معاملةً حسنةً ، وعفا عنهم وصفح . وفي الكتاب بعض المقالات التي كتبها الشيخ بمناسبة ربيع الأول .

هذه عصارة ما قدمه سماحة المؤلف من إنجازاته القيمة ومآثره النيرة في إبراز ملامح السيرة النبوية بالعربية والأردية في الأوساط العليمة والمجتمعات المثقفة . فنشكر الله لشيخنا ما قدم ونسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه في فسيح جناته .

المصادر والمراجع :

  1. سيرة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم : للشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ، تعريب : محمد وثيق الندوي ، دار الرشيد لكناؤ ، الهند .
  2. في ظلال السيرة على صاحبها ألف ألف تحية وسلام : للشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ، المجمع الإسلامي العلمي ، لكناؤ ، الهند ، 2011م .
  3. السيرة المحمدية نموذج للإنسانية : للشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ، مجلس تحقيقات ونشريات إسلام ، 2009م .
  4. رحمة للعالمين : صفاته وشمائله وخصاله : للشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ، شعبه دعوت وإرشاد ، لكناؤ 2010م .
  5. نقوش سيرت : للشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ، مجلس تحقيقات ونشريات إسلام ، لكناؤ 2010م .

* الأستاذ المساعد بالجامعة الإسلامية للعلوم والتكنولوجيا ، أونتي بورة ، كشمير .