منهج حسن الحضري في دراسة التراث

أسباب انحطاط الأمة الإسلامية : دراسة مقارنة بين : ماذا خسر العالم ، ولماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم ؟
ديسمبر 11, 2023
نبوءة وجود سبع قارات في الأحاديث في ضوء القرآن والحديث والجغرافيا والجيولوجيا الحديثة ( الحلقة الأولى )
يناير 14, 2024
أسباب انحطاط الأمة الإسلامية : دراسة مقارنة بين : ماذا خسر العالم ، ولماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم ؟
ديسمبر 11, 2023
نبوءة وجود سبع قارات في الأحاديث في ضوء القرآن والحديث والجغرافيا والجيولوجيا الحديثة ( الحلقة الأولى )
يناير 14, 2024

دراسات وأبحاث :

منهج حسن الحضري في دراسة التراث

الأستاذة منى فرغلي

باحثة تربوية – مصر

تختلف مناهج الباحثين في دراسة وتحقيق التراث ، بحسب اختلاف قدراتهم العلمية ، وطبيعة رؤاهم وتوجُّهاتهم ، وتوافُر أدوات العمل البحثي ، بجانب القدرة على النقد والتحليل والوقوف على معايير مادة التحقيق وجوهرها ، وما قد يكون طرأ عليها من تغيرات من قِبَل الناسخ أو الشارح أو غيرهما .

ودراسة التراث أمانة علمية وأخلاقية ، وقليل مِن الباحثين والمحققين مَن يعرفون قدر هذه الأمانة ويقدرون خطورتها ويتعاملون معها بما يقتضيه الواجب ويمليه الضمير العلمي اليقظ .

وفي هذا المقال نتوقف مع أحد المناهج العلمية في دراسة التراث ، وهو منهج الباحث والمحقق حسن عبد الفتاح الحضري الشاعر والكاتب والناقد المصري ، وذلك من خلال بعض دراساته وأبحاثه ، ويمكن أن نتناول هذا الموضوع من خلال العناصر الآتية :

أولاً : الرؤية المنهجية عند حسن الحضري :

عبَّر حسن الحضري عن منهجه في البحث العلمي ، فقال : ” من أهم مقوِّمات البحث العلمي الصحيح : دقَّة المعلومة ، وصحَّتها ، وتوثيقها ؛ لأن ذلك يساعد الباحث على الاستقراء الناجح ، الذي يَنتُج عنه استنباطٌ صحيحٌ ، يؤدي إلى التعامل البنَّاء مع موضوع البحث ، فيخرج الباحث في النهاية بعمل جيد يمكن الإفادة منه في بناء نظريات صحيحة تنطلق بالمنظومة العلمية خطواتٍ في طريق التَّقدُّم ” [1] .

وهكذا يكشف الحضري ملامح منهجه الذي لا يمكن الاختلاف بشأنه ، لأنه ينبثق من قواعد العلم الصحيحة ويعتبر بمثابة مسلَّمات وأدوات ثابتة يجب توافرها فيمن يشتغل بهذا العلم ، وهي الأدوات التي قال عنها الحضري مؤكداً أهميتها : ” وحين تختلُّ هذه الأدوات لدى المحقق ، أو يفتقر إلى شيئ منها ؛ فإن ذلك ينعكس بصورة سيئة على منتَجِه في النهاية ، ومن أمثلة ذلك ما نراه في دواوين الشعر التي يقوم بتحقيقها أو شرحها من ليس لديهم علم بصناعة الشعر ، فإن من قواعد البحث والتحقيق قراءة النص قراءةً صحيحةً موافقةً لمقوِّمات الفن الذي يندرج تحته النص ؛ حتى يستطيع الباحث أو المحقق تكوين صورة صحيحة عن مادته ” [2] .

ثانياً : خصوصية التراث :

وفيما يتعلق بدراسة التراث تحديداً قال الحضري : ” وقراءة هذا التراث قراءة واعية ؛ تؤدي بالضرورة إلى فهم خباياه ، ومعرفة دقائقه ، والتمكن من التعامل مع أطروحاته بطريقة صحيحة ، من شأنها أن تؤدي إلى المزيد من البناء والتقدم والرقيِّ ” [3] .

وهذه قاعدة مهمة وفائدة كبيرة ، ومن الواضح أن كثيراً من الذين يشتغلون بالتراث يحتاجون إلى فهم هذه القاعدة وتطبيقها بصورة صحيحة حتى تخرج بحوثهم وتحقيقاتهم مؤديةً للتراث حقه من الفهم الصحيح الذي يترتب عليه التقدير الصحيح .

وقال أيضاً بعد أن ذكر منهجه العلمي في النقد والتحقيق بشكلٍ عامٍّ : ” وحين يكون النص تراثيّاً ؛ فلا بد – بالإضافة إلى ما سبق – من مراعاة عصر النص ، والعصر الذي نُسِخ فيه ، وطبيعة النَّسخ في ذلك العصر ، وهل نسَخَه الكاتب بخطِّه أم نسخَه غيره . . فذلك كله من عوامل الاستقراء التي يجب اتِّباعها وتطبيقها في عمليتي النقد     والتحقيق ” [4] .

يريد حسن الحضري من الباحث والمحقق ومن القارئ أيضاً أن يقرؤوا النص التراثي ، وكأنهم يتخيلون النص أمامهم كما قاله صاحبه وليس كما هو مكتوب أمامهم في مخطوطةٍ أو كتابٍ ، ومن المعلوم أن مراعاة تلك التنبيهات التي ذكرها الحضري تساهم بشكل كبير في تنقيح النص التراثي مما قد يكون طاله من تصحيف أو تحريف أو تفسير غير مناسب ، لكن ذلك يتطلب قدرات علمية عالية ، وذكاءً كبيراً وسرعة بديهة ، وحضوراً ذهنيّاً واسع الأفق ، وليس كل من يشتغلون في هذا الحقل تتوافر فيهم هذه القدرات ، لكن من المؤكد أن كثيراً منهم يمكنهم التمرس على ذلك بطريقة أو بأخرى .

ثالثاً : دور اللغة العربية :

يؤكد حسن الحضري على أهمية اللغة العربية ، التي تحتل المقام الأول في العلوم التي يجب توافرها في الباحث والمحقق حتى يتمكن من عمله بشكل صحيح ، وفي ذلك يقول الحضري : ” إن الله – عز وجل – أنزل القرآن الكريم على أهل اللغة ، ولم ينزله على أهل كتابَيْن كانوا مجاورِين لهم ؛ فلا بد لمن يعمل في هذا المجال أن يكون ملمّاً بلغتنا العربية إلماماً واسعاً ، يمتد إلى فروعها المتعددة ؛ إذْ لا يمكن لمن يجهل العربية أن يفهم النَّصَّ فهماً صحيحاً ، ومن لا يحسن الفهم فلن يحسن التفسير أو الاستنباط ” [5] .

وقد عبَّر حسن الحضري عن هذه المعاني شعراً في قصيدة له عنوانها ( لغة الضاد ) ، ومنها قوله [6] :

أبَتِ الضَّادُ أنْ يُــبَرَّزَ فـــيــــهـا غــــيــــرُ صَــــبٍّ متيَّمٍ بِهواها

ليس يعلو في الضَّاد إلا خَبِيرٌ منذُ عهدِ الصِّبا بها يتباهَى

ليس يعلو في الضَّاد إلا وَفِــيٌّ لِعطاياها مُقْتَفٍ لِـــخُــطاهـا

وكلام حسن الحضري عن العربية قد جاء نتيجةً عن قدراته اللغوية الكبيرة التي يمتاز بها ، والتي نلمسها بوضوح في أعماله ، فهو – قبل أن يكون باحثاً ومحققاً – شاعر من الطبقة الأولى ولغوي وعروضي لا يبارَى ، صدر له عدة دواوين ودراسات في الأدب والنقد واللغة والعروض ، ولعل هذه العوامل في مجموعها هي التي جعلته يحتل السَّنام الأعلى في حقل البحث العلمي والتحقيق .

رابعاً : أثر البيئة العلمية :

ويؤكد الحضري على أهمية البيئة العلمية كأحد العوامل المؤثرة في مسيرة ونجاح ذلك العمل ، فيقول : ” فالبيئة العلمية قبل ذلك الانفتاح الثقافي كانت قاصرةً على أهل العلم من علماء وتلاميذ ، يجري بينهم تداول الآراء وعرض النظريات والمقترحات بطريقة علمية صحيحة ، أما بعد ذلك الانفتاح الثقافي فقد نشأت أفكار غريبة لدى بعض العوامِّ ، الذين يعتقدون خطأ أن أيَّ علمٍ من العلوم هو مشاع للجميع ” [7] .

خامساً : نماذج تطبيقية :

وبعد هذا العرض السريع للجانب التنظيري في المنهج العلمي عند حسن الحضري ؛ نعرض لِنموذجٍ تطبيقي له من إحدى دراساته ، قال الحضري وهو يتناول بعض الأخطاء العلمية الواقعة في كتاب ” معجم الشعراء ” ، بعد أن نسَب بعض هذه الأخطاء إلى فريتس كرنكو [ ت : 1953م ] محقق الكتاب : ” والذي جعلني أعزو هذه الأخطاء إلى كرنكو ؛ أنَّ جميعها تقريباً غير موجودة في النُّسَخ الأخرى من الكتاب ، التي حققها آخرون ؛ بل مثبتة هناك بوجهٍ من وجوه الصواب ، وليس عليها تعليقات من قِبَل المحقق يوضح فيها أنه وجدها مصحَّفة أو محرَّفة ، وأنه أثبت الصواب ، مما يعني أنها ليست من قِبَل المؤلف ، ولا من قِبَل الشعراء أصحاب تلك الأبيات ، كما أن هذه الأخطاء التي وقعت في تحقيق كرنكو ؛ قد جاءت بصورة تناسب فهْمه غير الدقيق للعربية ” [8] .

وهكذا يتضح التطبيق الواعي للمنهج العلمي الذي وضعه حسن الحضري وانتهجه في دراساته ، وهو بهذا الشكل يُعد من أقوى وأفضل المناهج تنظيراً وتطبيقاً في دراسة وتحقيق التراث ، ذلك التراث الذي يحتاج إلى تكاتف جهود المؤسسات والعلماء وانتهاج هذا المنهج الذي استطاع من خلاله حسن الحضري أن يُزيل به ما لحِق بالتراث من شوائب تسربت إليه من قِبَلِ النساخ والشراح وغيرهم .

[1] أزمة البحث العلمي في عصر العولمة ، حسن الحضري ، جريدة منبر التحرير ، القاهرة ،  ع 469 ، 17 أغسطس 2021م .

[2] وقفات مع ديوان عروة بن الورد ، حسن الحضري ، مجلة الرافد الرقمي ، الشارقة ، نوفمبر 2020م .

[3] رؤى نقدية ، حسن الحضري ، طبعة : دار يسطرون ، القاهرة ، ط 1 ، 2019م ، ص 44 .

[4] من أخطاء محققي الشعر القديم ، حسن الحضري ، مجلة البيان العربي ، مجمع اللغة العربية ، الأردن ، 2022م ، ع 3 ، ص 31 .

[5] رؤى نقدية ، حسن الحضري ، ص 45 .

[6] ديوان بردة الأشواق ، حسن الحضري ، مكتبة الآداب ، القاهرة ، ط 1 ، 2018م ، القصيدة كاملة ص 111 – 114 .

[7] أثر الثقافة العامة على البيئة العلمية في الدول النامية ، حسن الحضري ، مجلة همس الحوار ، لندن ، ع 16 ، يناير 2022م .

[8] من أخطاء كرنكو في تحقيق معجم الشعراء ، حسن الحضري ، مجلة الرافد الرقمي ، ديسمبر 2021م .