الغرب في ضوء التحليل النفسي

قصة صاحب الجنتين ومآل الجهود الإنسانية
ديسمبر 11, 2023
إنّه عظيم … حياة النبي صلى الله عليه وسلم الاجتماعيّة
ديسمبر 11, 2023
قصة صاحب الجنتين ومآل الجهود الإنسانية
ديسمبر 11, 2023
إنّه عظيم … حياة النبي صلى الله عليه وسلم الاجتماعيّة
ديسمبر 11, 2023

الدعوة الإسلامية :

الغرب في ضوء التحليل النفسي

بقلم : فقيد الدعوة الإسلامية الأستاذ السيد محمد الحسني رحمه الله

( منشئ مجلة البعث الإسلامي )

إن دراسة الحياة الغربية بما فيها من متع وزخارف ، وآلام ومخاوف وتحليلها تحليلاً نفسياً توصلنا إلى نتائج مهمة ، لها صلة كبيرة بالوضع الإنساني الحاضر والعالم المعاصر ، كما أن فيها دروساً عظيمةً للعالم الإسلامي الذي يتهيأ اليوم للوثوب والانطلاق للتعويض عما فاته عبر القرون الماضية المتلاحقة ، وأخذ يبصر نهاره الساطع وراء السحب الداكنة والدخان المتصاعد من الفتن والثورات والتطورات وإن لم تتبين معالمه وتباشيره بوضوح .

إن الحياة الغربية ليست وليدة المصادفة ، ولا مفقودة النسب ، بل إنها قامت على تقاليد وأصول ومبادئ وتاريخ ، وانتمت إلى الحضارة الرومية وورثتها خلقياً وفكرياً ، ولها مقوِّمات ونظريات خاصة ، لا يمكن إهمالها والإعراض عنها ، ونحن في موقف الدراسة النزيهة ، والتحليل النفسي الخالص .

إن الصراع الطويل بين العلم والدين ، وبين الكنيسة والبلاط دفع أوربا دفعاً قوياً إلى الأخذ بالأساليب المادية في حياتها بل التفاني فيها ، وظلت هذه النزعة تقوى على مر الأيام ، حتى آل بها الأمر إلى ما نراها عليه الآن ، وكان كل ذلك طبيعياً وواقعاً لا محالة ، ولكنها كانت النكبة الأولى والمأساة الأولى ، والنكبة الثانية بدأت الآن – بعد أن بلغت أوربا أوج قوتها المادية – وتجلت معالم هذه النكبة بوضوح في الحياة الأوربية اليوم .

كانت النكبة الأولى نكبةً لذيذةً إذا صح هذا التعبير ، نكبة شاب فج متهور لا يبالي بالأخطار ، لقد كان فيها الحرارة والنشاط ، والتحمس والاندفاع ، والآمال والأحلام ، كان فيها شوق رجل يريد أن يرتقي إلى قمة عالية من الجبل ، وهو يتوهم أن فيها معين الحياة الخالدة التي طالما تغنى بها الشعراء في الشرق والغرب ، فهو في حنين دائم مستمر لا يعرف للسهر والتعب معنىً ، ولا يحسب لهما حساباً ، ويندفع إليها اندفاع الهائم أو المفتون ، وهذه كانت حالة أوربا تماماً طوال هذه الحقبة من الدهر .

ولكنها الآن – وقد بلغت هذه القمة ، وجدتها خراباً بلقعاً – تواجه أزمةً عاطفيةً حادةً ، لا تستطيع أن تعرف كنهها ، ولا تقدر على التخفيف منها ، إنه الشعور بالفراغ الروحي ، إنه الملل النفسي أو السآمة النفسية التي اعترتها وطغت على سائر بيئاتها ، فلم تخل منها مدرسة ولا بيت ، وكان كل ذلك طبيعياً وواقعاً ، فإن الإنسان مفطور على الحنين والتطلع إلى الهدف أياً ما كان ذلك الهدف ، وهو يحب أن يكون له هدف يجري نحوه جرياً ، ويتلذذ بهذا الجري المتواصل ، وإذا نال هذا الهدف أحب أن يكون له هدف آخر يستهلك قواه ومواهبه وطاقاته وأشواقه .

إن الحياة الغربية اليوم حياة مريحة ” مكيفة ” ، والإنسان الغربي نال كل ما تمنى من قوة مادية ، وعزة قومية ، ومع ذلك فإن هنالك آلاماً وأوجاعاً ، تعانيها كل أسرة وكل بيت في الغرب سواءً في أميركا أو في إنجلترا ، أو في أي قطر من الأقطار الأوربية .

إنهم يُبدون لك كأنهم فقدوا شيئاً ، ولا يعلمون ما هذا الشيئ ؟ ولكنه شيئ خطير ، أعقب كل ذلك الخلل والاضطراب ، والقلق والإرهاق ، والملل والسآمة ، والفراغ الروحي الرهيب المبيد في الحياة الغربية ، وملأتها مخاوف وهواجس من مصيرها ، ولكن هل هي تعرف مصيرها ، كلا ! إنها إذاً حيرة ، حيرة صامتة ، استبدت بالحياة الأوربية ، أو مست كل فرد من أفرادها ، من غير أن يعرف من أمرها شيئاً .

فما هي آثار هذه الحيرة وتلك السآمة في حياتها ؟

لئن كانت آثار هذه الحيرة والسآمة غامضةً نوعاً ما قبل أعوام ، فإنها أصبحت الآن واضحةً جليةً ، في جميع مرافق الحياة الأوربية ، نلمسها في كل شارع ، وفي كل بيت ، ونقرأ أخبارها كل يوم في الصحف ، والجرائد وإن نمر بها مراً سريعاً ، من غير أن نفهم دلالتها ومغزاها العميق .

أفادت الأنباء منذ أيام ” أن رجلاً في ” إستراليا ” ابتلع ثمانية فيران ، نظير ١٧ فلساً تقريباً ، فقبض عليه البوليس بتهمتين : تهمة محاولة الانتحار ، وتهمة القسوة بالحيوان ، وأجريت عملية جراحية في بطنه ، فخرجت منه الفيران الميتة ” .

لئن كان ذلك حادثاً واحداً ما استرعى اهتمامنا ، ولم نقف عنده موقف المتأمل الباحث ، ولكن توالي هذه الحوادث وتتابعها بصورة عامة دائمة ، حتى أصبحت ظاهرةً قويةً من الحياة الأوربية ، وجزءها الذي لا ينفك عنها ، دفعنا على أن نحاول فهم دلالتها المعنوية والوصول إلى كنه الحياة الأوربية التي تعاني آلامها ، وأمراضاً اجتماعيةً وخلقيةً كثيرةً من غير ظاهر .

وإليك مثالاً آخر قد يكون أكثر دلالةً وأكثر وضوحاً ، قام أساتذة جامعة أوربية وعلماؤها بتجربة مثيرة ، فقد خرجت جماعة مؤلفة من كبار أساتذة الجامعة ، ودخلوا في حديقة وانطلقوا يأكلون الأعشاب والبقول على هيئة الدواب والأنعام ، وقال العلماء : إنهم وجدوا لذةً كثيرةً في هذه الطريقة الجديدة .

وقرأنا في الجرائد منذ زمن أن رجالاً قاموا بمباراة الكلام الفارغ فأخذوا يتكلمون ثلاثة أيام ليلاً ونهاراً بدون انقطاع حتى تورمت ألسنتهم ، وأشرفوا على الهلاك ، وآخرون قاموا بمسابقة المشي ، فربطوا بأرجلهم دواليب تنزلق بهم ، فلم يقفوا للحظة واحدة مدة يومين أو ثلاثة ، وذلك رجل دعا الصحفيين إلى حجرته في إحدى المطاعم الأوربية الفاخرة ، لمشاهدة حادث انتحاره ، وقال : إنه دعاهم ليشاهدوه منتحراً ، ثم يسجلوا هذا الحادث الفظيع في صحفهم بعناوين بارزة .

وهذا يقفز من الطائرة ويقتل نفسه ، ليجرب هذا النوع الفريد من الانتحار الذي لم يوفق إليه أحد من الناس حتى الآن ، وذلك ثري يقف كل ثروته وممتلكاته لكلبه الحبيب الوفي بعد وفاته ، وهذا أرستقراطي كبير ذو مكانة مرموقة في المجتمع يبني بنايةً شامخةً مكيفةً لكلابه المدللة .

إن مثل هذه الظواهر والحوادث تجلت في كل ناحية من نواحي الحياة الأوربية ، وتسربت في أجزائها ، ولو استقصينا ما وقع بالأمس القريب ، ويقع اليوم ، وما يجري في هوليوود ومن مهازل لرجعنا بحكايات مضحكة طريفة ، قد لا تصدق ، ولكنه واقع لا ينكر ، وهو طابع الحياة الأوربية الأصيل في الوقت الحاضر .

إذا درسنا تلك الحوادث والظواهر التي ذكرناها آنفاً ، وحللناها رجعنا منها بنتيجة واحدة ، وهي :

إن جميع هذه الحوادث تدل على قلق نفسي شديد وفراغ روحي رهيب ، أغلق على الغربي منافذ فكره ، وأظلم دروب حياته فظل يروح نفسه بأشياء تافهة ، عساها تجد فيها نعتها ، أو يبلغ بغيتها ، أو يروي غلتها ، أصحاب هذه الظواهر يبدون في الظاهر أنهم أثرياء مترفون متنعمون ، ولكنهم في الحقيقة أشقياء غير مسرورين ، مصابون بآلام وأسقام وأوجاع نفسية وعصبية وروحية ، جعلت حياتهم جحيماً لا يُطاق .

إنهم جعلوا المجد والشهرة والقوة السياسية والمادية نصب أعينهم ، فبلغوها وجنوا ثمراتها ، وهنالك بدأ ذلك الصراع النفسي ، فماذا بعد هذه الحرية العامة والانطلاق التام من قيود الخلق والروح ، إلا الحيرة والجنون والضلال .

ونسوق إليك مثالاً آخر ، وهو يؤيد قولنا أنه لم يبق جزء من الحياة الأوربية ، إلا وقد تأثر بهذه الظاهرة ، واصطبغ بلونها ، وإن هذه الحوادث ليست حوادث فجائيةً ، أتت عفواً ، ومن غير قصد ، بل إنها نتيجة تطور داخلي هائل وداء أصيل كامن في النفس ، له جذور عميقة ، في قرارة الحياة الغربية .

خذ مسألة الطعام ، إن طريقة المآدب الأوربية المفضلة اليوم أن يأكل فيها الناس قياماً ، فعليهم أن يتجولوا في صالة الطعام ويأخذوا لقمةً من هنا ولقمةً من هناك ، مشياً على الأقدام .

كل ما في الأمر أن هذا شيئ جديد ، وإن خالف العقل والصواب ، وإن خالف مصلحة الإنسان ، ومنفعته أيضاً .

إن الدوافع الأساسية على مثل هذه الأعمال والظواهر دوافع متشابهة . فالذي ابتلع الفيران لم يكن في حاجة إلى هذه الفلوس القليلة ، بل إنما قام بهذا العمل العجيب الكريه ليواجه – ولو من غير نتيجة – ذلك الفراغ الذي حطَّم كيانه ، ولما أنه لم يكن يملك أعصاباً قويةً تدفعه على عمل مثل الانتحار ، رضي لنفسه بمثل هذه التفاهة والعبث الفارغ .

والذين قلَّدوا الدواب والأنعام في أكل الأعشاب والبقول لم يقوموا بها بدافع الفضول أو على سبيل النكتة والسخرية ، إنهم أرادوا عزاً علمياً ومكانةً اجتماعيةً ، فنالوها وأرادوا الدنيا فتهالكت عليهم ، فاستمتعوا بها ، ولكنهم أحسوا سريعاً أنها أخفقت في إعطائهم طمأنينتهم المفقودة ، وسر حياتهم الضائع ، ولما لم يكن أمامهم طريق غير هذا الطريق المادي ، ولا هدف غير هذا الهدف المادي ، أرادوا أن يجربوا حياة الدواب ويعيشوا في هذا الجو حيناً من الدهر ، علهم يجدون ما يبتغون .

إنها سآمة ولا شيئ ، سآمة خفية كامنة في الدم ، غارقة في اللحم والعظم ، سآمة في كل حركة ونشاط ، وفي كل ما يقومون به من أعمال .

الحياة الغربية حياة ربطت ناصيتها بالآلة الصماء ، فإنها – مهما ابتُليت بها على يديها وذاقت منها ألواناً من العذاب – مربوطة بها بالسوق والأعناق ، لا ترى إلى المناص سبيلاً ، ولا تجد إلى الخلاص حيلةً ، إذا أخفقت في نوع جربت نوعاً آخر من نفس الشيئ إلى ثالث ورابع وخامس ، دوران لا ينتهي ولا أمل في انتهائه ما دامت لا تعدو أرضاً واحدةً ، هي أرض المادة والقوة القومية .