الوعي الإسلامي ومدى ارتباطه بقضية فلسطين

أسلوب الدعوة إلى الله وعاقبة المؤمنين والكافرين
يوليو 28, 2023
اصطفاء الله لبعض عباده وإكرامه لهم
ديسمبر 11, 2023
أسلوب الدعوة إلى الله وعاقبة المؤمنين والكافرين
يوليو 28, 2023
اصطفاء الله لبعض عباده وإكرامه لهم
ديسمبر 11, 2023

التوجيه الإسلامي :

الوعي الإسلامي ومدى ارتباطه بقضية فلسطين

الإمام الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي

لا يستطيع أحد أن يقلِّل من قيمة العقل ، وأن ينكر فضله ، وأن يعارض الرويَّة والأناة في قضايا الأفراد ، فضلاً عن الأمم ، ولكن مع كل احترامي للعقل ، واعترافي بما له من فضل ؛ أتجاسَرُ وأقول : لا بدَّ لكلِّ أمة من مغامرات ومخاطرات في بعض الأحيان ، وأن لا تعتمد على العقل وحده ، فإنَّ العقل – ومعذرتي إلى العقلاء – عُرف من قديم الزمان بالتثبيط والتخويف والتأجيل ، فكم ثبَّط أقواماً عن المعالي ، وكم فعل فعل المكبرة في تضخيم الأخطار ، وكم أجّل الفتح والظفر ، وكم ضيَّع الفرص ، وفوَّت المغانم ؟

إنَّ القلب له أن يستشير العقل ويستعين به ، ولكن يحسن في بعض الأحيان أن يستبد بالأمر ، ويتملّكَ الزمام ، فلا خير في قـلب لا يثور أبداً ولا يستبد ، وقديماً قال الشاعر [1] :

إِنَّمَا العَاجِزُ مَنْ لا يَسْتَبِدْ

إذا نظرنا في تاريخ العالم رأينا أنَّ أكثر الفتوح والوقائع العظيمة التي لا تزال موضع العجب ، يرجع الفضل فيها إلى العاطفة وروح المغامرة ، وأن جلال هذا التاريخ الذي يملأ قلوبنا إيماناً وحماسةً وبهاءً من هذه المغامرات ، لو تجرد تاريخنا عنها لكان بكتاب رياضي أشبه منه بكتاب تاريخ .

إن العاطفة التي تستمد قوتها من الإيمان تبتدئ حيث ينتهي العقل ، وتفعل ما يعجز عنه العقل . وإنَّ العقل يتهمها بالجنون والجهل والتهور ، ولكنها خدمت العقل مراراً ، وأحسنت إلى العالم والحضارة أحياناً كثيرةً ، فكم أغاثت العقل وهو ملهوف ! وكم حررته وهو أسير ! وكم انتصرت له وهو مظلوم ! وكم أقامت دولة العلم ! وكم حمتِ الحضارة وأنقذتها من براثن الوحوش والهمج !

إن صاحب الإيمان القوي يمضي ويغامر وينفذ إرادته ، ويقوم العقل القاصر معوِّقاً منذراً بسوء العاقبة ، فإذا نجح المؤمنُ في مغامرته ، وعاد منها ظافراً منتصراً ، عاد العقل فبرَّر فعله ، وأقام ألف دليل على صحته !

إنكم لا تنسون العهد الإسلامي الأول ، انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة ، وعَظُمَ الخَطْبُ ، واشتدَّ الحال ، ونجم النفاق بالمدينة ، وارتدَّ من ارتدَّ من أحياء العرب حول المدينة ، وامتنع آخرون من أداء الزكاة إلى الصديق ، ولم يبقَ للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة [2] ، وأصبح المسلمون كما يقول عروة بن الزبير رضي الله عنه : كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلّتهم ، وكثرة عدوهم .

وأراد أبو بكر رضي الله عنه – والحال هذه – أن يبعث جيش أسامة رضي الله عنه إلى الشام ، تنفيذاً لرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصيته . هنالك قام العقل معارضاً ، وقال : لا ! ليس من الرأي إقصاء هذا الجيش المنظم الوحيد ، وعاصمة الإسلام بارزة للعدو ، عرضة للغزو والنهب .

وقام أهل الرأي يقولون : إنَّ هؤلاء جلُّ المسلمين ، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك ، وليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين .

وأبى أبو بكر إلا أن يجهز الجيش وقال : والذي نفس أبي بكر بيده ! لو ظننتُ أنَّ السباع تخطفني لأنفذتُ بعث أسامة كما أمر به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته .

وكان ما أراد أبو بكر ، وخرج أسامة بجيشه ، والعقل مقطِّب جبينه ، عاضٌّ بنانه . فلما رجع أسامة ظافراً منتصراً – وكان لخروجه أحسنُ الوقع – غيّر العقل موقفه ، وها هو ذا يقول الآن في التاريخ :         ” كان خروج أسامة رضي الله عنه في ذلك الوقت من أكبر المصالح والحالة تلك ، فساروا لا يمرون بحي من أحياء العرب إلا أرعبوا منهم ، وقالوا : ما خرج هؤلاء من قوم إلا وبهم منعة شديدة ، فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه ” [3] .

إن تاريخ العرب – أيها السادة – حافل بالمغامرات ، ولعل العرب أكثر الأمم مغامرةً ، وإن هذه المغامرة لها فضل في بناء هذه الحضارة التي نعم في ظلها العقل والعلم والإنسانية .

ومن أعظم هذه المغامرات وأشدها خطراً في تاريخ الحروب سفر خالد بن الوليد رضي الله عنه بجيش كبير من العراق إلى الشام ، وقطعه هذه المسافة الشاسعة المخوفة في خمسة أيام ، قال المؤرخون : ” كتب الصديق قبل اليرموك إلى خالد بن الوليد أن يستنيب على العراق ، وأن يقفل بمن معه إلى الشام ، فسار مسرعاً في تسعة آلاف وخمس مأة ، ودليله رافع بن عميرة الطائي ، وسلك به أراضٍ لم يسلكها قبله أحد ، واجتاب البراري والقفار ، وقطع الأودية ، وتصعَّد على الجبال ، وسار في غير مهيع [4] ، وفي مفاوز [5] معطشة ، فلما فقدوا الماء نحروا النوق ، فشربوا ما في أجوافها من الماء ، وسقاه الخيل ، ووصل في خمسة أيام ” [6] .

ولا يزالُ اقتحام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بالجيش الإسلامي في دجلة من أعظم المغامرات في تاريخ العالم . قال المؤرخون :     ” وقف سعد أمام المدائن [7] ، ولم يجد شيئاً من السفن ، وتعذر عليه تحصيل شيئ منها بالكلية ، وقد زادت دجلة زيادةً عظيمةً ، واسودَّ ماؤها ، ورمت بالزبد من كثرة الماء بها . فخطب سعد الناس على الشاطئ ، وقال : ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم .

فقالوا جميعاً : عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل .

ثم اقتحم بفرسه دجلة ، واقتحم الناس ، لم يتخلف عنه أحد ، فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض ، حتى ملأوا ما بين الجانبين ، فلا يرى وجه الماء من الفرسان ، وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض ، فلما رآهم الفرس يطفون على وجه الماء قالوا : ( ديوانه ديوانه ) يعنون : مجانين ، مجانين .

ثم قالوا : والله ما تقاتلون إنساً ، بل تقاتلون جناً ” [8] .

ومن هذه المغامرات العظيمة ما فعله طارق بن زياد فاتح الأندلس ، قال المؤرخون : لما نزل طارق الجزيرة الخضراء ، أمر بالسفن فأحرقت ، فجاءه رجال من الجيش ، ولاموه على ما فعله ، وقالوا له : لقد قطعت بنا الحبال ، فكيف نرجع إلى بلادنا ؟ إنَّ عملك لا يقره العقل ، ولا يتفق مع الحكمة .

قالوا : فضحك طارق ووضع يده على السيف ، وقال : إنما يحافظ على السفن ووسائل النقل والسلامة من يفكر في الرجوع ، أما أنا فقد عزمت على البقاء في هذا البلد ، والقتال إلى أن يكون لنا وطناً أو يكون لنا مدفناً !

وكانت مغامرته هذه من أكبر أسباب الظفر ، فقد استطاع بعد إحراق السفن أن يقول : ” أيها الناس ! أين المفر ؟ البحرُ من ورائكم ، والعدو أمامكم ، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر ” . فأثار ذلك فيهم روح الجهاد والاستماتة ، وكان النصر .

وعلى أساس هذه المغامرة التي نظر إليها العقلُ شزراً قامت دولة العقل والعلم ، وقامت تلك المدنية الزاهرة التي كانت مفخرة العرب ومدرسة الغرب .

هذا ومغامرة عبد الرحمن الداخل صقر قريش في الدخول في الأندلس ، ومغامرات الرشيد في الصائفات ، وسفره الشهير من بغداد إلى هرقلة في أشدّ أيام البرد وتأديبه نقفور ، وغزوات المعتصم في بلاد الروم معروفة في التاريخ ، و” ما يوم حليمة بسر ” [9] .

هذه هي روح المغامرة التي امتاز بها العرب في عهدهم الأول عن الأمم التي فقدتها ، وقعد بها الإسراف في التفكير ، والحذر من المخاوف ، فجبنت وذلت ، وفقدت ملكها وشرفها ، واكتسحتها الفتوح العربية ، وعصفت بها ، فأصبحت أثراً بعد عين .

وعاد العرب في العهد الأخير فتسلّط عليهم العقل المثبِّط ، والعلم المعوِّق ، وأحجموا عن الإقدام والاقتحام ، وبالعكس تعلم غيرهم كيف يخاطرون بحياتهم ، وكيف ينتهزون الفرص . وتاريخ الحروب الأخيرة في أوروبا ، وتاريخ الاحتلال الأوروبي في الشرق في القرن التاسع عشر حافل بالمغامرات والخطوات الجريئة والإقدامات السريعة .

ولا يغير هذه الأوضاع القائمة في الشرق العربي إلا أن يربي العرب فيهم – مع الحكمة التي لا بد منها – روح المغامرة الأولى ، وسرعة التنفيذ ، وجرأة الإقدام ، ويعملوا بقول شاعرهم [10] الذي يقول :

إذا همَّ ألقى بين عينيه عَزْمَهُ ونكب عـن ذكـر الـعـواقــب جـانـبـاً

إن قضية فلسطين سهلة هينة ، وانتصارُ العرب مضمون إذا كانوا أحراراً في تصرفهم ، مالكين لزمامهم ، مدبرين لسياستهم ، مغامرين بأرواحهم وجنودهم ، محكِّمين لسيوفهم وأسنتهم ، واثقين بنصر الله ، معتمدين على سواعدهم فقط ، متمردين على المادة والشهوات ، مصممين على الكفاح والجهاد .

[1] هو عمر بن أبي ربيعة المخزومي .

[2] وأقيمت الجمعة أيضاً في الطائف ، وجواثى ، وهي قرية في البحرين .

[3] البداية والنهاية ؛ والكامل لابن الأثير .

[4] المهيع : الطريق الواسع .

[5] المفاوز : الصحارى .

[6] البداية والنهاية ؛ والكامل لابن الأثير .

[7] عاصمة الدولة الساسانية ، وتسمى أيضاً طيسفون .

[8] البداية والنهاية : 7/64 بتصرف . وكانت تلك المغامرة في صفر سنة 16هـ .

[9] هو يوم من أشهر أيام العرب في الجاهلية ، وهذا المثل يُضرب في كل أمر متعالم مشهور .

[10] هو سعد بن ناشب ، والبيت من قصيدة ذكرها في الحماسة : 1/70 ، والشعر والشعراء ، ص 697 ، والعقد : 2/429 .