ملَك كريم في صورة إنسان

لا رُزْء أعظمُ في الأقوام نَعْلَمُه
نوفمبر 19, 2023
عليك تحية الرحمن تترى
نوفمبر 19, 2023
لا رُزْء أعظمُ في الأقوام نَعْلَمُه
نوفمبر 19, 2023
عليك تحية الرحمن تترى
نوفمبر 19, 2023

شخصية مثالية فقدناها :

ملَك كريم في صورة إنسان

بقلم : الأخ الأستاذ محمد سلمان الندوي البجنوري *

هل سمعتم بملَك يمشي على الأرض ويعيش بين الناس ؟ وهل تصدقون ذلك إذا أخبركم به أحدٌ ؟! أراكم تقولون – ولكم الحق – : ما سمعنا بهذا ، وذلك مستحيل ، لأن الملائكة هم خلق نوراني لطيف ، لا يمكننا أن نراهم بأعين رؤوسنا المادية ، والملك خلق في السماء ، أما على الأرض ، فذلك إنسان وهو يعيش فيها . ولكن تأخذكم الحيرة والعجب حينما أخبركم بإنسان يتحلى بصفات وخصائص الملائكة الذين يخضعون لله رب العالمين ، ويتسابقون للعمل بما أمرهم الله سبحانه وتعالى ، ولا يتغافلون عنه لطرفة عين ، ويفتخرون بأنهم خاضعون ، راكعون ، ساجدون أمام رب العالمين . وذلك لأن الإنسان إذا غلبته الصفات الملكوتية اللطيفة ، وامتزجت بلحمها ودمها صار ملكاً في قالب إنسانٍ ، وعاد كأنه أحدُ مخلوقات نورانية . لعلكم تستعجلون قائلين : من هو ذاك ؟ أخبِرنا به أيضاً ! نعم ! إنه الداعية الإسلامي الكبير والأديب الأريب والكاتب القدير والعالم الجليل الرباني ، العلامة السيد محمد الرابع الحسني الندوي بن رشيد أحمد بن خليل الدين رحمه الله رحمةً واسعةً .

وُلد الشيخ رحمه الله في شهر جمادى الأولى بقرية تكية ” الشاه علم الله ” بمديرية رائي بريلي التي تبعد عن لكناؤ ثمانين كيلو متراً بولاية أترابراديش ، ونشأ في أسرة حسنية عربية أصيلة علمية دينية ، لا تزال تحافظ على أنسابها ، وتمتاز بتمسكها بالشريعة الإسلامية والعقيدة الصحيحة الدينية وبذل الجهد الحثيث في نشر العلم وخدمة الإسلام والمسلمين ، ينتهي نسبه إلى محمد بن عبدالله الحسني المثنى بن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وأول من جاء إلى الهند من أجداد أسرته هو الأمير السيد قطب الدين محمد المدني ( ٥٨١ – ٦٧٧هـ ) عن طريق بغداد وغزنة في أيام فتنة المغول في أوائل القرن السابع الهجري مع جماعة من أصحابه .

وإن لهذه الأسرة أثراً كبيراً في شخصية الإنسان وبناء الإنسانية ، فالتربية الدينية والعلمية تساهم مساهمةً عظيمةً في تكوين شخصية عظيمة ، وإن للدكتور السيد عبد العلي الحسني وللشيخ العلامة السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي مساهمة كبيرة في تكوين شخصية شيخنا السيد محمد الرابع الحسني الندوي وحياة مرشدنا وعقليته وتوجيهه نحو الحياة الفاضلة المحمودة ، فهو أخذ عنهما ما أخذ ، وتأثر بهما حتى تكونت شخصيته الدينية وعقليته العلمية وحياته النموذجية ، فأصبح أحد العلماء العظام من الطراز الأول في الهند والعالم الإسلامي في العصر الحاضر ، وقد سار شيخنا رحمه الله على نفس نهج خاله العظيم العلامة السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله في جميع مجالات الحياة من العلم والفكر والدعوة والعمل ، ونهل من منهله العلمي الصافي وتمتع في كنفه بحكمته البالغة وفكره السليم ومعرفته الإلهية .

وقد زار شيخنا رحمه الله العلماء الكبار واستفاد منهم مثل الشيخ طبيب الأمة الروحاني أشرف علي التهانوي ، يقول عنه شيخنا : ” سافر الشيخ العلامة أشرف علي التهانوي إلى لكناؤ سنة ١٩٣٧م ، وأقام بها ، وانعقد مجلسه في مسجد ” خواص ” بأمين آباد ، ومن سعادة حظي أني حضرت في مجلسه مع خالي ” …. كما زار الداعيةَ الإسلامي ومؤسس حركة الدعوة والتبليغ الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي الذي كان جاء إلى دار العلوم ندوة العلماء وأقام بها عشرة أيام . وعنه يقول : استفدت منه خلال هذه المدة ، ومرةً سافرتُ إلى دهلي ومكثت في مركز الدعوة والتبليغ بحي نظام الدين ، فلازمته وصحبته خلال هذه المدة ” ( صفحات من سيرته الذاتية ص : ٣٩ لفقيد الأمة السيد محمد الرابع الحسني الندوي ) ، وكذلك قد استفاد من الشيخ العالم الرباني عبد القادر الرائيفوري والشيخ العالم الجليل والمحدث الكبير محمد زكريا الكاندهلوي ، والشيخ المجاهد الكبير السيد حسين أحمد المدني ، والشيخ المقرئ العالم الصالح محمد طيب القاسمي والمفتي محمود الحسن الكنكوهي رحمهم الله .

بدأ شيخنا رحمه الله تعلمه للقرآن الكريم منذ الصغر في منزله ، وأتم التعليم الابتدائي عند شيخ لأسرته السيد عزيز الرحمن الحسني في دائرة الشاه علم الله الحسني ، وأكمل المرحلة الثانوية في مسجد أمين آباد بلكناؤ تحت إشراف خاله الدكتور عبد العلي الحسني ، وكان في الكُتّاب له أستاذ خاص وهو المولوي سليم رحمه الله ، ثم التحق بدار العلوم لندوة العلماء في الصف الأول سنة ١٩٤١م ، ومن أساتذته الكبار المحدث الكبير الشاه محمد حليم عطاء السلوني ، والشيخ المفتي محمد سعيد الأعظمي ، والشيخ محمد ناظم الندوي ، والشيخ محمد إسحاق السنديلوي ، والشيخ السيد حميد الدين الفيض آبادي ، والشيخ نور الحسن ، والشيخ السيد عبد الغفار النغرامي ، والشيخ محمد عمران خان الندوي ، والشيخ محمد أويس النغرامي الندوي ، والشيخ المقرئ ودود الحي الندوي ، والشيخ محمد سميع الصديقي رحمهم الله . ( المصدر نفسه : ص : ٥٠ ) وتلمذ أيضاً على خاله الشيخ العلامة السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي ، وقد استفاد منه استفادةً خاصةً ، ولازمه في الحل والترحال ، وكان العلامة الندوي يشرف على جميع نشاطاته وإنجازاته وجهوده العلمية وأعماله الدعوية ، فاقتبس من علوم خاله العظيم العلامة الندوي وفنونه وأدبه ونهجه وفكره وفهمه وورعه وتقواه وخلقه وحسن سيرته وتواضعه وما إلى ذلك . ويقول شيخنا عن خاله العلامة الندوي :      ” قضيتُ طول حياتي في كنفه وظل شفقته من البداية إلى النهاية ، وكنت لا أفعل شيئاً إلا ما أشار إليه أو ما أمرني به ، ولا أخالف أمره أو ما كان يشاء في أي حال ” . ( المصدر نفسه : ص : ٣٨ ) .

وتخرج شيخنا رحمه الله في دار العلوم ندوة العلماء عام ١٩٤٨م ، وعين مدرساً لمادة اللغة العربية وآدابها في دار العلوم ، وقام بالمسؤولية عن الدرس والتدريس والتعليم والتربية بنشاط ورغبة وجهد متواصل ، ثم صار رئيس قسم الأدب العربي عام ١٩٥٥م ، وعميدَ كلية اللغة العربية وآدابها عام ١٩٧٠م ، ومديراً لدار العلوم ندوة العلماء عام ١٩٩٣م ، ونائب رئيس ندوة العلماء عام ١٩٩٨م ، ورئيساً عاماً لندوة العلماء بعد وفاة سماحة الشيخ العلامة السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي ، وفي عام ٢٠٠٣م تم اختياره رئيساً لهيئة قانون الأحوال الشخصية للمسلمين في الهند ، واشتغل أيضاً بعد التخريج في دار العلوم بالكتابة العربية والمقالات العربية حول موضوعات مختلفة ، وفي عام ١٩٥٩م أصدر الشيخ رحمه الله صحيفة ” الرائد ” وهي صحيفة عربية نصف شهرية من ندوة العلماء ، ولا تزال تصدر منها باستمرار وانتظام ، كما تستمر مجلة ” البعث الإسلامي ” التي أنشأها الشيخ الكاتب الموهوب محمد الحسني والشيخ الدكتور الكاتب القدير سعيد الأعظمي الندوي في عام ١٩٥٥م ، وقد أثرى الشيخ رحمه الله خلال مدة حياته الطويلة – التي تستغرق ستة وتسعين عاماً قام فيها بخدمة العلم والدين ونشر الإسلام في العالم – المكتبات الإسلامية بكتبه القيمة المفيدة النافعة ، وله مؤلفات ورسائل قد بلغت أكثر من ثلاثين ، وقد ترجم كثير منها إلى الأردية والإنجليزية ، ومن أهم مؤلفاته ” سراجاً منيراً سيرة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ” ” الهداية القرآنية سفينة نجاة للإنسانية ” ” الأدب العربي بين عرض ونقد ” ” منثورات من أدب العرب ” ” جزيرة العرب ” وغيرها .

أُحِبُّ الصالِحينَ وَلَستُ مِنهُم    لَعَل الله يرزقني صلاحاً

وكان من الرجال القلائل الذين جمعوا كثيراً من الفضائل والمزايا والخصائص التي تكفي منها واحدة لرفع مكانة صاحبها بين الناس ، ولا شك أنه كان إنساناً كاملاً في أسمى معانيه ، متواضعاً بمعنى الكلمة ، ولم يُر مثله في التواضع والخشوع وإظهار الحِشمة ، وكان لين الجانب ، سهل المراس ، صادقاً في القول والعمل ، ملتزماً بالإخلاص والصدق والأمانة ، متحلياً بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ، متأسياً بأسوة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته وسلوكه ، متلطفاً بأهله وذويه ومن ينتسب إليه ، طلق الوجه وباسم الثغر لكل من يحضره ، قريباً كان أو بعيداً ، وشفوقاً على من يتلمذ عليه من طلاب العلم والدين ، لا يُرى على وجهه شيئ من الغضب والعنف والشدة والخشونة ، إلا إذا ارتُكب خرقُ شعائر الإسلام وخولف الدين ، لطيفاً في الكلام ولم يكن عنده جفاء ولا نفور ، متبسماً في كل حين وآن ، تبدو على شفتيه ابتسامة وترقص على وجهه براءة الطفولة ، معتصماً بحبل الله المتين والصراط المستقيم ، متمسكاً بالشريعة الإسلامية ، متصلباً في الدين والعقيدة ، وقّافاً عند حدود الله تعالى ، محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك الحب ممتزج بلحمه ودمه ، راغباً في سنن النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بها ، ولا يقر له قرار إلا برطب لسانه بذكر الرسول صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه ، يتمتع قلبه وروحه بالعمل بالسنة النبوية صلى الله عليه وسلم ، زاهداً في حطام الدنيا ومباهجها وفيما عند الناس ، متفرغاً لله ولعبادته ولخدمة الدين ونشره ، تاركاً ملذات الدنيا وأمورها ، بسيطاً في المأكل والمشرب والملبس والمسكن رغم إقبال الدنيا عليه ، ممثلاً في ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ” كُن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ” ، جامعاً بين العلم والعمل والقول والفعل . وهذا هو الشيئ الذي يميزه عن معاصريه من العلماء والدعاة ، وكان لا يلحق بشخصٍ أذى ، ولا يجرح عواطف أحد وشعوره بقلمه ولسانه وفكره ورأيه ولم يغتب شخصاً ، لا في خلوته ولا في جلوته ، ولا في مجلسه ولا في درسه ، ولم يأت في ذهنه قط أن يُحدث شقاقاً بين المنظمات والجماعات من المسلمين أو غير المسلمين ، وكان يحرص على ترقية وسعادة إخوانه وغيرهم وتشجيع الناشئين ، ويعترف بأصحاب الفضل والكمال من المعاصرين ، ويبذل النصح والخير للجميع ، وكان يهتم بأمور المسلمين ويحترق قلبه على مصائبهم ودمائهم المهراقة اضطهاداً واستبداداً ، ومن كان يراه ويزوره يظن أنه ملك ، ولا يتمالك أن يقول : ما هذا بشراً ، إن هذا إلا ملك كريم . يقول فضيلة الشيخ المفتي محمد تقي العثماني حفظه الله في خطابه عن شخصية شيخنا رحمه الله : ” إنه كان قدوةً حسنةً ومثالاً عظيماً لنا ولجميع المسلمين ، وكلما زرته ولقيته فأحسست كأنه ملك من الملائكة ، ولا شك في أنه كان ملكاً في صورة إنسان برقة القلب وسماحة النفس ونعومة الصدر وطلاقة الوجه وقوله وعمله وسلوكه وسعة الأخلاق وتعامله مع الناس وسيرته الذكية ” ،( مقتبس من حديث الشيخ المفتي محمد تقي العثماني حفظه الله ورعاه عبر حفلة التأبين ) ، وكان المسلمون يحبون شيخنا رحمه الله ويفتخرون بوجود شخصيته في الهند ، وأفضل ما يميزه عن معاصريه من العلماء والدعاة والكتّاب هو التواضع والزهد في حطام الدنيا وفيما عند الناس والرغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى ، وهو لا يملك الدراهم والدنانير ، وليست عنده السيارات الفارهة ولا يحرص على هذه الماديات والمغريات ، بل يرفضها ويكرهها كل الكراهية ، وهذا هو الشيئ الذي أدى إلى الحب الصافي الصادق ينشأ في قلوب الناس أجمعهم .

وما إن أعلن عن وفاة شيخنا الراحل الكريم إلا وبدأت قوافل المحبين والمتعلقين من أهالي مدينة لكناؤ تتواصل إلى دار العلوم ندوة العلماء للصلاة على جنازته واكتظت ساحة دار العلوم وجامعها بالمسلمين واكتظت الشوارع والطرقات وأمَّ فضيلة الأستاذ الشيخ الدكتور سعيد الأعظمي الندوي المصلين صلاة الجنازة بعد صلاة العشاء في الساعة العاشرة والنصف ليلاً ، ثم نُقل جثمانه إلى دائرة الشاه علم الله رائي بريلي ودُفن هناك بجوار أفراد أسرته . رحمه الله رحمةً واسعةً وأسكنه فسيح جناته وألحقه بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً ، وإنا على فراقك لمحزونون يا شيخنا المبجل ويا أستاذنا الشفوق ، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا لله وإنا إليه راجعون ، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ، ربنا إنك رؤوف الرحيم .

علو في الــــحــياة وفي الـــــمــــمــات  لحقٌّ أنت إحدى المعجزات

كأن الناس حـــولك حـــين قاموا         وفـــودُ نَـداك أيام الصِّلات


* مدرس بكلية الدعوة والإعلام بجامعة ندوة العلماء .