حارس اللغة العربية في الهند
نوفمبر 19, 2023الرؤى الأدبية للشيخ الندوي من منظور إسلامي
نوفمبر 19, 2023الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي : قائداً حكيماً
الأستاذ محمد اصطفاء الحسن الكاندهلوي الندوي *
فقدنا في شهر رمضان الفضيل المنصرم شخصيةً كانت مترامية الأبعاد من العلم والفضل ، والورع والتقوى ، والزهد والصلاح ، والابتهال والتضرع ، والإفادة والتدريس ، والفكر والأدب ، والدعوة والإرشاد ، والإدارة والرئاسة ، والكفاح لأجل الدين الحنيف ، والذود عن الشريعة الغراء ، واتخاذ الخطوات الحثيثة في درء الفتن ، وتقديم حلول مجدية وعرض آراء سديدة في مواجهة القضايا العصرية والمشاكل الاجتماعية ، رحم الله – تعالى – سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ، وتقبل منه حسناته ، وغفر له سيئاته ، وجزاه على خدماته المتميزة وجهوده الجبارة التي كانت منه لأجل الأمة الإسلامية .
وإلى جانب هذه السمات المذكورة أعلاه ، التي قد يضاهيه فيها – بعضاً أو كلاً – عدة رجال الدين وعلماء المسلمين عبر العالم الإسلامي والمجتمعات الإسلامية في العصر الحاضر ، غير أن هناك سمة أخرى قد لا يضاهيه فيها أحد ولا يساويه ، فهي ميزته الكبرى ، وهي الشارة التي تتلألأ في زي شخصيته ، وهي الأسوة التي قدمها كأجمل أسوة في حياته ، ألا وهي سمة القيادة ، التي نفع بها الشعب المسلم في القارة الهندية ، ليس أعواماً ولكن عقوداً عديدةً .
لقد قام الشيخ – رحمه الله – بقيادة الشعب المسلم في شبه القارة الهندية في حالة حرجة من التوتر والفوضى والطائفية والعصبية ، بين مختلف أوساطه وجماعاته ، بالإضافة إلى خطورة الوضع السياسي الذي ترصد من خلاله الآليات والمنظمات الهندوسية المتطرفة المسلمين في البلاد ، فالمسلمون في الهند منذ عقود ، قد ضربهم الوضع الداخلي قبل أن يضربهم الوضع الخارجي ، وكل ضرب شديد ، ولولا القيادة الحكيمة والسياسة الخبيرة من بعض زعماء المسلمين في البلاد لقضي أمر المسلمين في القارة منذ زمان ، ولم يبق لهم ما تبقى لهم من نصيبهم في مجالات التعليم ، والاقتصاد ، والمجتمع ، والدين ، والحضارة .
وعلى رأس هؤلاء القادة والزعماء ، كان شيخنا الراحل – رحمه الله ، والذي كان يمتاز من بينهم بوسطيته ، وسعة نظره ، ورحابة صدره ، ونفوذ بصيرته ، بالإضافة إلى ما كان له من شيم العفو ، والصفح ، والصبر ، والتحمل ، والصمود ، والجلادة ، والرجولة ، والمثابرة ، ما اكتسبه من أسرته الكريمة العريقة في القدم ، ومن أستاذه ومربيه وخاله المفكر الإسلامي الجليل سماحة الشيخ محمد أبي الحسن علي الحسني الندوي – رحمه الله ، إضافةً إلى ما اكتسبه من دراسته الدقيقة العميقة للأصول والمبادئ الإسلامية وتاريخ وأيام المسلمين في البلاد وغيرها ، فكوّن كل ذلك من نفسه رجلاً حبيباً إلى القلوب ، أثيراً للنفوس ، موحياً للأذهان ، مصغية إليه الآذان .
وبهذه الميزة ، يغشاه الناس زرافات ووحداناً ، منتمين إلى كل طبقة من طبقات المجتمع الإسلامي ، وإلى كل مدرسة من المدارس الفكرية ، وإلى كل مذهب من المذاهب الفقهية ، ومن المثقفين والمتنورين ، والطلاب والباحثين من الجامعات العصرية والمدارس الإسلامية ، ومن المعسرين والموسرين ، كل يقصده في طلب رأي في أمره ، أو حل عقدة في ذهنه ، أو معرفة جواب لسؤاله ، أو طلب معونة مالية إذا حلت به رزية ، أو أصابته بلية ، أو لأجل حوار حول قضايا المسلمين السياسية والاقتصادية والفردية والجماعية والتعليمية والدينية ، فقد كان – رحمه الله – ملجأ الشعب المسلم بجميع أوساطه وطبقاته ، وفي جميع قضاياهم ومشاكلهم ، كل يألفه ويستأنسه ، في إجلال واحترام ، وهو – بدوره – يقابلهم بما يتوخون منه من تجاوب واعتناء ، واهتمام وإقبال ، ويجود لهم بما يريدون منه ويحتاجون إليه ، وهذه ميزة لم تحصل لأحد في الهند – خاصة – مثلما حصلت له بعد خاله سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي – رحمه الله .
كان – رحمه الله – رجلاً محنكاً ، حنكته الأيام والليالي ، حيث عاش ما يقرب قرناً كاملاً ، شاهد من خلاله صروف الدهر ونوائبه ، ومن أهمها : أيام الهنود مع الإنجليز الغاصبين ، وانقسام البلاد إلى باكستان وبنجلاديش ، وانهدام المسجد البابري ، والحملات المتتالية من الهندوس المتطرفين على مقدسات الدين وأحوال الشخصية الإسلامية ، ومن الاضطرابات الطائفية وأحداث العنف والاضطهاد ، ما أثاره أعداء الإسلام ضد المسلمين في جميع أقطار البلاد ، بعدد يناهز خمسين ألف حادث أو أكثر ، طبق الإحصائيات الرسمية ، وظروفاً جدّ قاسية واجهها المسلمون الهنود خلال هذه المدة المديدة من عمره ، فكل ذلك ملأه صبراً وأناةً ، وحكمةً ودهاءً ، ودقةً في النظر ، وعمقاً في التفكير ، وجعله يرى الأحداث قبل أن تحدث ، ويدرك المصائر قبل أن ينتهي إليها الأمر ، فيتحين الفرصة لأخذ رأي سديد ، وحلّ مناسب ، وخطة مدبرة ، وكان يتحرى الأمور فيختار أوساطها ، ويحلل البليتين – بما أوتي من الحكمة – فيتخذ أهونهما ، ويهتدي – بإذن ربه – إلى الطريق القويم كلما وقف في منعطف الطرق .
وبصفته تلك ، كان – رحمه الله – قد أصبح وهو مطمئن بالإيمان بما شرح الله له صدره من رأي أو قرار ، أو خطة أو عملية ، لا يلويه عن ذلك فزع الأصحاب ، وتشوش الأذهان ، واضطراب النفوس ، ووجل القلوب ، كان يُصدر قراره بكل طمأنينة واقتناع ، ثم يُقنع الآخرين بكلام فصيح ، وأسلوب حكيم ، وكلمة صارمة ، ولهجة هادئة ، وحجة بالغة ، إقناع الأب الحنون لأبنائه ، أو إقناع المعلم الشفوق لتلاميذه ، وكل يحترم رأيه بعد ما يعرفه ، وينبذ عن مخيلته ما كان له من قبل ، من رأي أو قرار .
وكان من صفته – رحمه الله – التحكم على اللسان ، في داخل البيت مع أهله ومحارمه ، وعندما يقابله الوفود في مقره برحاب ندوة العلماء ، وعلى المنصات الخطابية ، وخلال الحوارات الصحفية ، وفي قراراته السياسية ، وكتاباته الدعوية والإرشادية ، كان – وأيم الله – أكثر الناس تحكماً على اللسان ، وأحسن اختياراً للكلمة ، وأمكن قدرةً على إبداء ما يريده ، من دون إبهام أو إغماض ، لا يحاذيه في ذلك – فيما نعلم ، والله أعلم – أحد في الأمصار عبر الأقطار ، ولا ندري أكان الفضل في ذاك يرجع إلى تورعه وتقواه أكثر أم إلى تضلعه من الأدب وإتقانه باللغة ، على كل ، فكان لا يدخر وسعاً لأحد أن يواخذه في مقال ، أو ينتقد عليه في كلام ، أو يحمل حديثه على غير محمل ، فعل الصحفيين ومراسلي القنوات اليوم ، وما أكثر وأنكر ما كان منهم ذلك في عصرنا الحاضر .
رحم الله شيخنا محمد الرابع الحسني ، الذي كان بِهذِهِ الصفات والميزات ” ثاني اثنين ” لسماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي ، فقد كانا – رحمهما الله ، لا فارق بينهما في الوسطية والاقتصاد ، والسلوك والوجهة النظرية ، اللهم إلا شيئاً يسيراً لا يعبأ به ، ولا يرجع ذلك إلا إلى اختلاف الطبائع البشرية ، لا غير ، وقد حاز معظم ما حازه من السمات والشيم ، والفضائل والقيم ، حتى المناصب والوظائف التي كان الشيخ أبو الحسن يحتلها في البلاد وخارجها ، أتت إليه بعد وفاته كخير خلف لخير سلف ، من دون نزاع في الأمر أو خلاف في الرأي :
أتته الخلافة منقادة إلــيـــه تـــجــرر أذيالها
ولم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها
وقد فقدتْ – بفقد شيخنا – الأمة الإسلامية الهندية قائداً حبيباً ، وأباً حنوناً ، وأستاذاً شفوقاً ، ولا يسعنا حينما نريد أن نبدي مشاعرنا حول وفاته ، إلا أن نتمثل ببعض أبيات الحريري :
فما راقني من لاقني بعد بعده ولا شاقني من ساقني لوصاله ولا لاح لــي مـنذ ندّ ندٌّ لفضله ولا ذوخلال حـــاز مـثل خلاله
* محاضر كلية الشريعة ، دار العلوم لندوة العلماء – لكناؤ .