قطرات من بحر العلم والمعرفة

علامة الأمة وأحد أعلام الأدب الإسلامي
نوفمبر 19, 2023
الربانيّة تخلق الرجال
نوفمبر 19, 2023
علامة الأمة وأحد أعلام الأدب الإسلامي
نوفمبر 19, 2023
الربانيّة تخلق الرجال
نوفمبر 19, 2023

قطرات من بحر العلم والمعرفة

بقلم : فضيلة الأستاذ محمد إقبال الغجراتي الندوي *

الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن حملَ لواء دعوته إلى يوم الدين وبعد .

فإن اليوم 21 رمضان المبارك ١٤٤٤هـ المصادف ١٣ أبريل ٢٠٢٣م كان يوم حزن وأسىً . . . يوم كارثة ونازلة . . . يوم حرمان وخسران للملة الإسلامية إذ فوجئت فيه بنبأ محزن غاية الحزن والأسى . . . فُجعت فيه بنعي قائدها العظيم ومربيها الجليل وعَلَم من أعلامها المرموقين ، ورائد من روّادها المعدودين وداعٍ عظيم من دُعاتها المخلصين . . . . ألا وهو شيخنا الفاضل ومربينا الكريم وقائدنا الفائق وأستاذنا العطوف الرحيم سماحة العلامة السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً ، وبرّد مضجعه وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً . . . . آمين يا رب العالمين !

كان الشيخ العلامة السيد محمد الرابع الحسني رحمه الله من أولئك القادة العظام الذين غيّروا مجرى التاريخ . . . وطبّق صيتهم في أرجاء المعمورة . . . ولعبوا دوراً مهماً في الدعوة والإرشاد . . . وشرقوا وغربوا في دعوة الخلق إلى الله وإلى الدين المتين . . . وبذلوا كل ما لديهم من قدراتهم العلمية ومواهبهم الفنية وطاقاتهم المالية والجسدية في نصرة الإسلام والمسلمين وإصلاح المجتمع الإسلامي وتربية أبناء الملة على الفضيلة والأخلاق ، وتحليتهم بحلية العلم والمعرفة ، وإرشادهم إلى سبيل الرقي والازدهار في جميع مجالات الحياة .

قدْ فقدت الملة الإسلامية بوفاة الشيخ رحمه الله رجلاً عظيماً ، رجلاً عبقرياً عصامياً ، رجلاً نابهاً نابغاً ، رجلاً مصلحاً مربياً ، رجلاً قائداً رائداً ، رجلاً داعياً إلى الله ، مجاهداً في سبيله ، رجلاً كبير النفس عالي الهمة ، رجلاً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، رجلاً عزيزاً في نفسه مكرّماً عند قومه ، رجلاً شهِد بفضله كل من عرفه وخالطه . . . رجلاً كرّس حياته من أجل قضاء الأمة الإسلامية . . . رجلاً قدّر الله تعالى أن يقود الملة الإسلامية ، وقد قادها خير القيادة . . . رجلاً جعله الله سبحانه داعياً ربانياً فدعا الناس إلى الله . . . رجلاً رَزقه الله تعالى قدرةَ الكتابة والتعبير فألّف وأثرى المكتبة الإسلامية بكتب نافعة ومفيدة جداً ، ينتفع بها طلبة العلم والمعرفة وشُداة الأدب والثقافة . . . . . حقاً إنّ الأمة الإسلامية بصفة عامة والهندية بصفة خاصة قد فقدت عظيمها وكبيرها . . . . .  فلم تهتز لوفاته أسرته الكريمة فحسب ؛ بل الكبار والصغار والطلاب والمعلمون والعلماء والدعاة والمشايخ والعامة من الناس وخاصتهم كل قد اهتز . . . . . واهتزت الملة الإسلامية الهندية على بكرة أبيها . . . .  وصدق الشاعر :

وما كان قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ  ولكنه بنيانُ قومٍ تَهَدَّما

رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً ، وجزاه عنا وعن جميع الملة الإسلامية خير الجزاء . . . آمين يا رب العالمين .

ولادته ونشأته :

وُلد العلامة رحمه الله تعالى في ٢٥ جمادى الآخرة ١٣٤٨هـ المصادف ٢٩ أكتوبر ١٩٢٩م في قريته ” تكية راي بريلي ” ، وقد وُلد في بيت عز وشرف ومجد وكرامة . . . في سلالة عريقة نجيبة . . . فأبواه من أسمى وأشرف عشيرة على وجه الأرض ، كانا ينتميان إلى آل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم . . . وتُدعى أفراد أسرته الكريمة بـ ” الحسنيّين ” انتماءً إلى ريحانة النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا حسن بن علي بن     أبي طالب رضي الله عنهما . . . وكان كبار هذه الأسرة من أولئك القادة البارزين الذين تصدّروا المواكب . . . وسجّلوا أسماءهم في تاريخ الكفاح والنضال ضد أعداء الدين والوطن . . . وتركوا مآثرهم وأمجادهم في حقل الدعوة والإرشاد . . . ولعبوا دوراً كبيراً في توعية المجتمع الإسلامي وتربية الأجيال المسلمة .

نشأ في جوّ علمي روحي دعوي وتربوي . . . وترعرع في بيئة طيبة مباركة يترعرع فيها الأطفال والعباقرة . . . وتربّى على الفضيلة في كنف أصحاب العزائم والهمم ، وقضى ريعان شبابه وباكورة عمره تحت رعاية ذوي العلم والمعرفة والدعوة والإرشاد . . . فنهل ما نهل منذ نعومة أظفاره . . . وورث ما ورث عن آبائه وأجداده من نبيل خصائلهم وجليل شمائلهم التي ميّز شخصيته بين أقرانه ومعاصريه . . . وبفضل التربية العائلية السامية والبيئة المنزلية الربانية ، أصبح شيخنا السيد محمد الرابع الحسني رحمه الله تعالى قائداً عظيماً ومربياً جليلاً وصاحب فكر ، وهم تجاه الملة الإسلامية وحامل لواء القيادة والريادة والهداية والإرشاد لجميع المسلمين – على اختلاف انتماءاتهم ومسالكهم ومذاهبهم – في شؤون حياتهم .

صور من حياته العلمية والدعوية :

وكان العلامة السيد رحمه الله تعالى منارةً شامخةً للعلم والمعرفة والهداية والرشاد . . . ومعهداً تربوياً يتربى فيه الكبير والصغير . . . وجامعةً علميةً شاملةً تترعرع فيها الأجيال . . . ورمزاً مرجعياً يرجع إليه العلماء والدعاة والطلاب والمعلمون ورجال الفكر والدعوة لينهلوا من علمه وفضله وإرشاده وتربيته . . . . وقد قضى أيامه ولياليه في تدريس العلوم الإسلامية والفنون الأدبية ، كما عاش حياته في مجال الدعوة إلى الله وتربية الملة الإسلامية . . . وقد ألّف مؤلفات علميةً وأدبيةً وتاريخيةً وثقافيةً وتربويةً ودعويةً كما كتب مئات من المقالات والكتابات حول عناوين شتى . . . كلما احتاجت الأمة الإسلامية إليها وأُشكل على فهمها شيئ كتب فيه العلامة السيد لتوجيهها وإرشادها وقادها بقلمه كما كان يقودها ويرشدها بلسانه . . . وأثرى المكتبة الإسلامية بكتبه القيمة الرائعة . . . وقد ترك وراءه مآثر وأمجاداً في مجال العلم والتحقيق وآثاراً طيبةً يقتدى بها في حقل الدعوة والإرشاد التعليم والتربية .

من مؤلفاته الشهيرة التي طُبعت مرات وكرات ، ونال قبولاً كبيراً لدى الأوساط العلمية والأدبية وقل مثيلها في فنها ، وترجمت بعضها إلى عدة لغات العالم ، وتم تعيينها في المقرر الدراسي في الجامعات والكليات والمدارس الإسلامية :

  • الهداية القرآنية ، سفينة نجاة للإنسانية ( بالعربية والأردية والهندية )
  • تأملات في سورة الكهف ( بالعربية والأردية )
  • في ظلال السيرة النبوية على صاحبها ألف ألف تحية وسلام ( بالعربية والأردية )
  • سراجاً منيراً ( سيرة خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم )        ( بالعربية والأردية والإنجليزية والهندية )
  • جزيرة العرب ( بالعربية والأردية )
  • أضواء على الأدب الإسلامي ( بالعربية والأردية )
  • الأدب الإسلامي وصلته بالحياة ( بالعربية )
  • تاريخ الأدب العربي ( العصر الإسلامي ) ( بالعربية )
  • الأدب العربي بين عرض ونقد ( بالعربية )
  • منثورات من أدب العرب ( بالعربية )
  • أدب الأطفال وأهميته وحاجته ( بالعربية والأردية )
  • الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله : شخصية صنعت التاريخ ( بالعربية والأردية )
  • ملامح بارزة في شخصية الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالى
  • أضواء على الفقه الإسلامي ( بالعربية والأردية )
  • حركة الإصلاح والدعوة وآثارها في شبه القارة الهندية والجزيرة العربية

وله سوى هذه المؤلفات كتب علمية وثقافية وفكرية وتاريخية ودعوية وتربوية بالعربية والأردية والإنجليزية والهندية ، كما أن له بحوثاً وكتابات ومقالات منشورة في المجلات العلمية والأدبية والصحف المحلية والدولية في مختلف اللغات العربية والأجنبية .

وقد قام بإصدار مجلة عربية حيّة ، علمية أدبية وتربوية عام ١٩٥٩ من الميلاد ، وسماها باسم ” الرائد ” لكونها رائدةً بمعنى الكلمة وصالحة للريادة والسيادة والقيادة للملة الإسلامية وأبنائها . . . فقام بخدمة علمية ودعوية عظيمة عن طريق هذه المجلة الغراء . . . وأرشد بها المسلمين من العرب والعجم . . . وربّى الأجيال . . . وأسدى المواعظ والنصائح إلى طلاب المدارس والجامعات الإسلامية في ضوء كتاباته العلمية والإصلاحية والفكرية والثقافية . . . . فكان رحمه الله تعالى لم يزل يكتب في هذه المجلة منذ تأسيسها حتى وافاه الأجل ، وانتقل إلى رحمة الله الواسعة .

ها أنا تلقيت العدد الجديد لهذه المجلة وهو العدد الأخير في حياة مؤسسها فظننت – قبل أن أفضها وأتصفح صفحاتها – أن الشيخ لعله لم يكتب في هذا العدد ؛ فإني رأيته قبل وفاته بأيام فوجدته ضعيفاً غاية الضعف في البدن يواجه الأمراض والأسقام . . . ولكن لما فتحت المجلة فإذا غلاف المجلة يتجلى بكلماته التوجيهية والإرشادية حول الشهر المقبل رمضان المبارك . . . أرشدنا بهذه الكلمات الغالية أننا كيف نقضي هذا الشهر العظيم . . . كيف نثمن لمحاته العطرة . . . كيف نتمتع ببركات أيامه ورحمات لياليه المباركة . . . وكيف نحظى برضوان الله تعالى وغفرانه . . . ؟ يا سبحان الله . . . ! حقاً إنه كان من قلائل القواد والزعماء الذين همهم الوحيد إصلاح الأمة وتوعية المجتمع إلى أن قضوا نحبهم .

وقد كتب في كثير من المجلات والصحف والجرائد ، غير أنه ركز عناياته الكريمة وكرّس قدراته الكتابية ومواهبه الفنية لثلاث مجلات بصحة خاصة ، وهي صحيفة ” الرائد” ومجلة ” البعث الإسلامي ” و ” تعمير حيات ” ( بناء الشخصية بالأردية ) فجعلها محطةً لفكره وحياته الكتابية ، وبها أعلن كلمة الحق وصدع بما أمر الله سبحانه وتعالى وبلّغ الرسالة القرآنية والنبوية ونصح بها الأمة الإسلامية وأظهر كلمة الإسلام على كل مَن حاد عن جادة الصواب ومال إلى الباطل مِن الملوك والسلاطين والزعماء والقواد . . . ولم يبال في ذلك بأي كان ، ولم يخف لومة لائم . . . كتب وكتب وأدى حق الكتابة بإذن الله سبحانه وتوفيقه .

فكل مَن له إلمام بشخصيته يعرف أن السيد العلامة ومن معه من زملائه الغيارى كانوا قد صمدوا كالجبال الراسيات ضد الفتنة القومية التي أشعل نارَها القوميون العرب ، وسعوا واجتهدوا أن يظهروا في الأرض فساداً ويفرّقوا بين المسلمين المخلصين ويمزّقوا جمعهم ويشتتوا شملهم . . . وحاولوا تخريبَ العقائد الإسلامية في قلوب سُذّج من المسلمين وإحياءَ الحضارة الفرعونية والتقليدَ الأعمى للغرب يداً بيد وذراعاً بذراع ، وقام بترويج الثقافة الغربية الحرة والأهواء النفسية . . . . . والتاريخ يشهد أن كباراً من الكتّاب العرب الخلّص حينئذ كانوا صماً بكماً عميا ، لم يجرؤ أحد منهم على كلمة الحق أمام السلطان الجائر . . . . ولكن هؤلاء الغيارى لم يهدأ لهم بال ، ولم يقر لهم القرار . . . ولم يهِنوا ولم يكفكفوا أقلامهم القوية ؛ بل عملوا بها عمل السيوف المهنّدة وجاهدوا وضربوا بها ضربةً عنيفةً على تيار فكرة القومية العربية وهاجموها في عُقر دارها بإرسال الرسائل الإيمانية ضد قوّادها والمقالات المؤثرة القوية الموجَّهة إلى كل من يحمل تلك الفكرة . . . كما قاموا بإرشاد المسلمين العرب المخلصين وتوجيههم ، ودعوهم إلى التمسك بالقرآن والسنة والتآخي بين المسلمين والمودة والرحمة فيما بينهم . . . وحذروهم من الوقوع في هذه الفتنة العمياء والجهالة الجهلاء . . . حتى تحيّر العباقرة من العرب والعجم واغتاظت الحكومات العربية ، وقامت بالحظر على هاتين المجلتين         ” الرائد والبعث الإسلامي ” وطُلِب هؤلاء الإخوة الأوفياء الغيارى من قِبَل الحكومة الهندية وقيل لهم أن لا يكتبوا ضد الناصريين ؛ ولكن هؤلاء العظماء أصحاب العزائم والهمم لم يزالوا يكتبون حتى بلّغوا رسالتهم الدعوية والإصلاحية . . . . وقد حفظ التاريخ مدى تأثير هذه المقالات القوية الصريحة المليئة بالغيرة الإيمانية والحماسة الإسلامية والشجاعة النادرة التي قلما يوجد لها في التاريخ مثيل . . . . !

فكان رحمه الله تعالى خير قدوة لنا في مجال العلم والتربية ، والدعوة والإرشاد ؛ كان همه الوحيد نشر العلم والمعرفة ، وتربية أبناء الإسلام ، وتغذيتهم على مكارم الأخلاق والقيم الإنسانية ، وتحليتهم بالخلق العظيم النبيل ، وبناء شخصياتهم ، وإعدادهم لخدمة الإسلام ونشرِ العلم والدعوة . . . . كما كان شغله شاغل الدعوة إلى الله وإلى الدين المتين ، ونصرة الإسلام والمسلمين ، وإرشاد العامة المسلمين في كل مجال من مجالات الحياة ، وهديهم إلى الصراط المستقيم ، وتوجيههم وإصلاحهم ودعاءِ البشرية إلى الشريعة الإسلامية السمحة بحكمة بالغة وموعظة حسنة كما أمر الله تعالى في محكم تنزيله : ( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) .

من تواضع لله رفعه الله :

ومن أكبر ميزاته وأنبل شمائله رحمه الله تعالى أنه كان جمّ التواضع . . . متواضع الأبعد الحدود . . . متباعداً غاية البعد عن الكبر والخيلاء . . . لا يعتريه كِبرٌ ولا بَطَرٌ . . . لا يكاد يُعْرَف له مثيلٌ بين أقرانه في هذه الخصلة . . . يتواضع للكبير والصَّغير والعالم والعامّي والقريب والغريب . . . يستمع إلى كل صغير وكبير . . . يراعي مشاعر الصغار وتلامذته ويخفض جناحه لهم ؛ فضلاً عن الكبار والمعاصرين والأقران . . . يقبل على الجميع ببشاشة وجه ، ولين عَرِيكة . . . يكرم كل من يحضره . . . يُدني البعيد ويؤنس الغريب . . . لا يشعر مَن لقيه أنه من سلالة نجيبة .

كان يحظى بنسب رفيع ، وأسرة علمية ودعوية . . . ينحدر من سلالة نجيبة في العلم والمعرفة والدعوة والإصلاح . . . ورث من آبائه العظمة والسمو والمكانة المرتفعة . . . وكان من أبناء الأعلام والعظماء كما كان هو أيضاً من النبغاء والعلماء . . . وبالإضافة إلى ذلك أنه كان يحتلّ مكانةً مرموقةً ، ومنزلةً رفيعة ، ورتبةً عاليةً ، وتفوقاً ونجاحاً في كل مجال خاضه ، وكان قائداً ناجحاً ورائداً عظيماً للملة الإسلامية . . . ومربياً جليلاً ومعلماً مكرما لملايين من طلبة العلم والمعرفة . . . وداعياً موفّقاً قد تجوّل للدعوة والإرشاد في مشارق الأرض ومغاربها . . . ورئيساً مطاعاً للمؤسسات الإسلامية المحلية والعالمية . . . والمعاهد التعليمية والدينية والمراكز الدعوية والإصلاحية .

مع ذلك كله كان الشيخ العلامة السيد رحمه الله تعالى على قمّةٍ في التواضع وخفض الجناح . . . . آيةً في الخُلُق الكريم والخصال النبيلة . . . وكان على علوِّ قَدرِه ورِفعَة منزلتِه لا يرى لنفسه فضلاً  ، ولا يرغب في المديح ، ولا يتعاظم على أحد . . . . حتى إنَّه كلما يلقاه أحد ، أحبّه وحرص هو على السعادة بمجالسته ، والاستماع إليه . . . فسبحان من جعله على قمّة التواضع وحلاه بأبرز الخصال التي لا نجد لها في الزمن الراهن عيناً ولا أثراً .

تواضع إذا ما نلت في الناس رفعة       فـــــإن رفـــــيـــــع الـــقـوم منه يتواضع

إذا شئت أن تــــزداد قـــدرًا ورفـعة     فلن وتواضع واترك الكبر والعجبا

اهتمامه بالصغار والتلاميذ وتشجيعهم :

ومن خصائصه المميزة أيضاً أنه رحمه الله تعالى كان يهتم بالصغار والتلاميذ ، يشجّع الناشئين وينشّط العاملين ، ويقدّمهم ويهيّأ لهم مجالات متنوعةً علميةً وأدبيةً ميادين مختلفة دعوية وتربوية للعمل والتقدم فيها . . . يَهديهم خطوةً بخطوة . . . يشيد بجهودهم . . . يُكرمهم على محاولاتهم المبذولة لتحقيق أهدافهم العلمية . . . ويحفّزهم بأسمى كلمات تشجيعية . . . ويظهر غاية الفرحة والسرور بتقدمهم ورقيهم ويشجع على أعمالهم العلمية والدعوية والتصنيفية والتأليفية ، ويبارك إنجازاتهم ويدعو لهم بالبركة والمزيد من التفوق والنجاح . . . وكان مع كبر سنه وضعف جسمه وقواه يقدّم لكتبهم ، ويكتب كلمة تقديم لمؤلفاتهم تشجيعاً لهم على مساعيهم ، ويثني عليهم بكلمات تقريظية غالية تزيد الكتب والمؤلفات رفعة ومنزلة .

كلما سعدتُ بلقاء الشيخ رحمه الله تعالى وقدّمت بين يديه جهودي المتواضعة شجَّعني كثيراً ودعا لي بالتوفيق والسداد . . . وكنت قبل وفاته بأيام تشرفت بلقائه وقدّمت تأليفي الجديد ” مجموعة أدبية عربية ، تشتمل على أعمال ثقافية متنوعة ” ففرح بذلك أشد الفرح وأظهر إعجابه به وأبدى البهجة والسرور وشجعني كثيراً كعادته الكريمة . . . وقال لي : ” من سعادة حظك هيّأ الله لك جامعة إسلامية أساسية مركزية في ولاية غجرات وتقبّلك للخدمة بها . . . وهذه المجموعة إنما هي جهود طيبة ، ستكون منارة علم وأدب لمن يشغف بتعليم وتعلّم اللغة العربية وآدابها في مجال مجال التدريب على الكتابة والتعبير بها ” .

والجدير بالذكر أن كاتب هذه السطور يدرّس ويشرح مقالات وكتابات للشيخ رحمه الله تعالى ولتلاميذه الكتّاب البارعين ، صادرة في جريدة ” الرائد والبعث الإسلامي ” ؛ حيث يختار مقالةً رائعةً . . . . ويوزّع كل مساء الخميس نسخاً عديدةً بين الطلاب ويقوم بإقرائها وشرحها كل ليلة الجمعة تحت عنوان ” درس الصحافة ” ، وهذه السلسلة تجري – بعون الله وتوفيقه – منذ ربع قرن ! والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات . . . فكلما ذكرت ذلك للشيخ رحمه الله تعالى شجّعني كثيراً ودعا لي بالبركة والخير وزوّدني بنصائحه الغالية وأدعيته الطيبة المستجابة . . . فكان رحمه الله تعالى أشد خلق الله تشجيعاً لصغاره وتلاميذه وتحفيزاً وتنشيطاً لهم . . . يحاول أن يرفع الجميع إلى المكانة المرموقة ويوصلهم إلى الرتبة الرفيعة وإلى درجة التفوّق وأعلى الرتب في جميع المجالات العلمية والدعوية ، والأدبية والفنية ، والتعليمية والتربوية ، والفكرية والثقافية . . . . . فكان قائداً عظيماً يعرف كيف يأخذ بيد قومه ويجعله متقدماً . . . ومربياً ناصحاً شفيقاً أميناً يستحق العيش تحت رعايته . . . وأباً عطوفاً يتربى في كنفه الأبناء ويبلغون مبلغ الرجال . . . وكأمّ حنون تترقى في حضنها الأولاد وتزدهر . . . فيا له من الحرمان بوفاته رحمه الله . . . ! صدق من قال :

ذَهَبَ الذينَ يُعَاشُ في أكْنَافِهِمْ             وَبَقِيتُ فـي خَلَفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ

في الختام :

وهذه بعض قطرات من بحر العلم والمعرفة . . . . بعض جوانب الحياة للأستاذ العبقري . . . وصورٌ مشرقة من حياته العلمية والدعوية النادرة . . . وقد وصفتها – بعون من الله وتوفيقه – ولا أدري كيف أصف حياته حق الوصف . . . كيف أصف من كانت حياته عامرةً بالأعمال الجليلة والخصائص الحميدة . . . . وكيف أصف من كان ممتازاً من بين أقرانه ومعاصريه بجليل خصائله ونبيل شمائله وعظيم خدماته . . . . ممتازاً بنبوغه وعبقريته ، ممتازاً بعبادته وسلوكه ، ممتازاً بقيادته وريادته ، ممتازاً بعلو همته وقوة عزمه وحزمه ، ممتازاً بعلمه الغزير وعمله العظيم ، ممتازاً بفكره الصائب ورأيه الحصيف ، ممتازاً بمواقفه الرائعة واتجاهاته النيّرة ، ممتازاً بمنهجه التعليمي وأسلوبه التربوي ، ممتازاً بصلابته في المعتقدات الدينية والتمسك بالكتاب والسنة النبوية ، ممتازاً بشخصيته المؤثرة الجذابة ومهاراته القيادية النادرة ، ممتازاً بمؤلفاته العلمية والأدبية وكتاباته الفكرية والتربوية وقدراته الفنية والكتابية . . . . وفي الحقيقة أن معلمنا العظيم ومربينا الجليل الشيخ العلامة السيد محمد الرابع الحسني رحمه الله تعالى كان شخصيةً عبقريةً نادرةً قلما يجُود الزمان بمثلها . . . ولله در القائل :

هَيهَاتَ لا يَأتي الزَّمانُ بمثلهِ     إن الزَّمَانَ بمثله لَبَخِيلُ

بارك الله تعالى في أعمال شيخنا ومولانا السيد محمد الرابع الحسني الندوي ، رحمه الله تعالى ، ورضي عنه ، وجعل في أعلى الفردوس مثواه ، وعدّ ما تركه من مآثر ومحامد في قائمة الصدقة الجارية له ، وأثابه عليها ، وأدام فيوضه وبركاته إلى يوم الدين . آمين يا رب العالمين .

وصلّى الله تعالى وسلّم على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين .


* أستاذ دار العلوم فلاح الدارين بتركيسر ، سورت ، غجرات ، الهند .