أستاذ شفوق ، قائد حكيم
نوفمبر 19, 2023علامة الأمة وأحد أعلام الأدب الإسلامي
نوفمبر 19, 2023سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي :
صورة صادقة للأسوة المحمدية
الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي *
كان سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله من أبرز رجال الأمة الإسلامية في هذا العصر علماً وحلماً ، وحكمةً وقيادةً ، وتعليماً وتوجيهاً ، وخلقاً وكرماً ، فقد أدى دوراً مثالياً وقيادياً في مختلف مجالات الحياة من التعليم والتربية ، والدعوة والإصلاح ، والتزكية ، والإدارة والقيادة ، والتوجيه والإرشاد ، والبحث والكتابة ، والتصنيف والتأليف ، وكان هذا الرجل الذي تعلمنا منه الخير الكثير ، يُعرف بإيمانه الراسخ ، وعقيدته الصحيحة ، وعمله الصالح ، كان يُعرف بحبِّه الغامر للنبي صلى الله عليه وسلم ، وحبِّه لأهل بيته الأطهار ، وحبه لأصحابه البررة ، كان يُعرف بحلمه ، وصبره ، وتحمُّله ، كان يُعرف بزهده ، وورعه ، وتواضعه ، كان يُعرف بحكمته ، وبصيرته وفراسته ، كان يُعرف برأفته وحنانه وعطفه ، كان يُعرف بثقته بالله ، وتوكُّله عليه ، وإنابته إليه ، كان يُعرف برقة قلبه ، ولين طبعه ، وحلاوة حديثه ، كان يُعرف بسلامة فكره ، وسداد رأيه ، وصحة موقفه ، كان يُعرف بنصحه للآخر ، وإيثاره له ، وتعامله معه معاملةً تليق بشأنه ، كان يُعرف بعزيمته واستقامته وصلابته في اتخاذ القرار إذا كان الأمر يتعلق بالدين والشريعة ، ومرونته إذا كان الأمر يتعلق بالفروع والآلات .
كان هذا الرجل من خيرة الرجال ، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم حين سئل عن خير الناس فأجاب : ” خير الناس من طال عمره وحسن عمله ” ( رواه الترمذي ) ، فقد مدَّ الله في عمر هذا الرجل ، وبارك له في صحته ، وحفظ له سمعه وبصره ، وذاكرته ، ووفقه للقيام بأعمال جليلة تجلب له رحمته ، وينال به حبه ورضاه ، ويزداد به أجره ومثوبته ، ويرتفع به شأنه ومنزلته في هذه الحياة وبعد الممات ، فعاش ؛ لا لنفسه ولا لعائلته ولا لأسرته ؛ وإنما عاش لأمته مُهتَمّاً بشؤنها ، معالجاً لقضاياها ، مقدِّماً حلولها ، محاولاً لاستعادة مجدها وكرامتها ، وعزها وشرفها .
كان يتألم بما يراه من أحوال المسلمين السيئة ، ويحترق لما يشاهده من ابتعادهم عن الدين وانحرافهم عن الجادة ووقوعهم في المعاصي والآثام ، وانغماسهم في الشهوات والملذات ، وانقسامهم بين فئات متحاربة ، وتغافلهم عن الدسائس والمؤامرات التي تحاك ضدهم بغاية من الدقة والتخطيط ، ولذلك نجده حين ندخل عليه مهموماً لما يجري ويحدث في العالم الإسلامي ولا سيما في العالم العربي من تغيرات وتطورات تتعارض مع الدين والشريعة ، ويبدي قلقه على ما تتخذ من خطوات وإجراءات باسم التقدم والترفيه في الدول التي ينظر اليها المسلمون بغاية من الاحترام والتقدير ، بينما كان يبدو نشيطاً ومتحمساً للغاية للقيام بكل ما يعود إلى المسلمين بالنفع والخير .
وكان قد واجه هذا الراحل في حياته كثيراً من المحن ، وتعرض لكثير من البلايا ، ومرَّ بمراحل كثيرة امتحن فيها صبره وحلمه ، وكيف لا ! فقد قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : ” أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ” ، فكل من تقرب الى الله وحبب إليه لابدَّ له من مواجهة هذه المحن والبلايا ، وهي سنة من السنن الإلهية في الكون .
وكان ابن اخت سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي ، فتربى عليه ونهل من منهله واستنار بفكره ، وسار على منهجه ، وصبغ نفسه بصبغته ، وتحلى بخلقه فخلفه من بعده ، وأدى دوره وملأ الفراغ الذي تركه بانتقاله إلى جهة ربه ، فترأس المنظمات وأشرف على الحركات ، وتولى رياسة الجمعيات بدون أي طلب ، وبدون أي رغبة في الحصول عليها .
فكان هذا الرجل الوحيد الذي كان يجمع عليه المسلمون لما كانوا يرون فيه من الصدق ، والأمانة ، والنزاهة والعفة ، والحكمة ، والحلم والأناة ، والصبر والتحمل ، واللينة والمرونة ، والزهد والاستغناء ، والتقشف ، وصفاء القلب ، ورحابة الصدر ، والتعامل مع الآخر باللطف والكرم ، وإعطاء كل ذي حق حقه وتأدية الأمانة إلى أهلها .
وأكبر ما يوصف به هذا الرجل التقي النقي الطاهر الذی كان موضع ثقة وحب وتقدير لدى جميع طوائف الأمة في الهند ، هو التواضع والمسكنة ، وخفض الجناح ، وهذا ما دعاه نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم لنفسه قائلاً : ” اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً ، واحشرني مع زمرة المساكين يوم القيامة ” ( ابن ماجه ) .
فعاش هذا الرجل مسكيناً ، ومات مسكيناً ، ويُحشر يوم القيامة مع زمرة المساكين ، كما دعا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لنفسه .
كان حب الرسول صلى الله عليه وسلم سمته الغالبة ، فكان صورةً صادقةً للأسوة المحمدية ، وأثبت ذلك بعمله وسلوكه وخلقه ، وكتاباته ، كما تدل على ذلك بحوثه ومقالاته التي نشرت في مجلات عالمية مختلفة ، أو قدمت في المؤتمرات والندوات العلمية التي عقدت حول السيرة النبوية ، وكتبه التي ألفها حول السيرة النبوية العطرة ، ومنها كتاب ” في ظلال السيرة النبوية ” ، وكتاب ” سراجاً منيراً سيرة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ” ، وهذا الكتاب الأخير قد نال قبولاً واسعاً في الأوساط العلمية والدينية في الهند وخارجها ، وقوبل بترحيب حار لأسلوب مؤلفه السهل العذب المقنع ، وإبرازه لجوانب إنسانية وخلقية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وعرضه الرسول الأعظم كمنقذ للإنسانية التائهة في متاهات الضلالة والغواية ، وكمعيد للإنسان الخائف المذعور المثخن بالجروح ، أمنه المفقود ، وتقديمه لنماذج رائعة من تعامله صلى الله عليه وسلم مع الأسرى ، وتوجيهاته – صلى الله عليه وسلم – لجنوده بشأن جثث القتلى ، وأوامره – صلى الله عليه وسلم – لقواته برعاية الأرامل والأيتام ، وعدم التعرٌُّض للشيوخ والنساء والأطفال ، وعدم إحراق الأشجار والزروع ، وعدم استهداف المدنيين الأبرياء العزل خلال اندلاع نيران الحرب ، فأحلَّه كثير من المثقفين الهندوس المحل الأرفع في قائمة الكتب التي تناولت شخصية الرسول الأعظم بالبحث والدراسة ، وأقبلوا عليه ، وأبدوا إعجابهم به ، واعترفوا بأن هذا الكتاب يزيل سوء التفاهم الذي يغشى المجتمع الهندوكي عن رسول المسلمين صلى الله عليه وسلم .
ففي هذا العصر الذي يشبه العصر الجاهلي في تدنِّى الإنسانية وتدلِّيها ، يحتاج كل منا إلى مثل هذا الكتاب الذي يقدم أعظم شخصية على الإطلاق ، وأرفع قمة من الأخلاق ، بعث رحمة للعالمين ، وسراجاً منيراً للتائهين ، كالنموذج الوحيد الفريد للبشر في جميع جوانب الحياة ، وفي كل مرحلة من مراحل العمر ، وفي كل حالة من السلم والحرب والصلح ، يقول المؤلف رحمه الله :
” إن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحمل صورتين : صورةً إنسانيةً ، وصورةً نبويةً ، أما صورته الإنسانية فهي صورة فطر الله عليها الإنسان ، فيتيسر بذلك للإنسان أن يجد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أحوالاً للفطرة الإنسانية التي طبع الله عليها الإنسان ، وأما صورته النبوية فإنه يجد فيها هدايةً دينيةً وتهذيباً وتحسيناً للأحوال الإنسانية ؛ ليصبح الإنسان بتوجيهاته الطيبة النبوية متبعاً لما يرضى به الله تعالى وهو خالق الإنسان ومالكه وربُّه ، فإن الإنسان المؤمن يستفيد من سيرة الرسول توجيهاً لما يجعل حياته حياةً صالحةً مهديةً من ربه تعالى عن طريق رسوله وخاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم ” .
ويقول : ” وإن هذه السيرة النبوية المباركة تشتمل على أحوال مختلفة ، ومرَّ صاحبها بمراحل مختلفة ، وظروف مختلفة ، ومنها مواجهة الأعداء الذين كانوا أكبر بكثير من المسلمين في العدد ، والعدة ، والعتاد ، والقوة الحربية ، وهم الذين بدأوا الحرب ، ولم يقصروا في القضاء على هذه الجماعة المؤمنة الوليدة القليلة العدد والعتاد ، برجلهم وخيلهم ، وكانت الحروب من قبلهم مفروضةً على المسلمين ، وكانت الأخطار تهدد كيانهم كل وقت ، فاضطر المسلمون إلى مواجهتهم بنفس القوة ، واستخدموا ما وجدوه من سيوف وأسلحة أخرى لم يحصلوا عليها إلا قليلاً ، في مقاومة الأعداء ، ثم استغل المؤرخون الحاقدون المعاندون الذين لم يرضوا بالإسلام ، هذه الحروب والمواجهات المسلحة التي قام بها النبيُّ وأصحابُه للدفاع عنهم ، أسوأ استغلال ، واتهموه بالظلم وسفك الدماء ، مع أنه لم يكن أيُّ إجراء من إجراءاته الحربية لفرض السيطرة ، ونيل الغلبة والحكم في البلاد ، بل كانت كلها لنشر الخصال الحميدة ، وتبليغ أحكام رب العالمين إلى الناس الضالين عن الحق ، فاضطر إلى ردِّ كيد الأعداء ، أو قمع الشر ، أو منع حملات الأعداء على المسلمين ، أو إذا أحس بخطر وقوع هجوم من جهة على المدينة أو المسلمين في مكان آخر ، وكلما انتصر في حرب أو غزوة عفا وصفح عن الأسرى من الأعداء ، وعاملهم معاملة الرحمة والشفقة حتى مع ألد أعدائه ” .
وكان شيخنا محمد الرابع الحسني الندوي دائماً يفكر في المشاكل التي تعاني منها الأمة الإسلامية في كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي ، وكيفية إنقاذها من هذه المشاكل والقضايا كما يتجلى مما كتبه في إحدى افتتاحياته للرائد ، فيقول :
” فعلى المسلمين أن يفهموا وضعهم في العالم فهماً صحيحاً ، ويعملوا وفقاً لروحه وأحواله ولا يتقوا بعد الله إلا بأنفسهم ، ولا يأملوا في الوصول إلى النصر بعد الله إلا بسعيهم ، فإن من أشد أسباب ضياع العز من المسلمين هو اعتمادهم على الطاقات الأجنبية التي لم تضمن لأبناء الإسلام أبداً إلا كل خداع وعداء .
إن اعتماد شعوب الإسلام على الدول الأجنبية الكافرة في حروبها وسلامها مهما كانت الشعوب الإسلامية ضعيفةً ومحتاجةً في وسائل قوتها ومعداتها ومهما كانت الشعوب الأجنبية قويةً في إمكانياتها و وسائلها ، ليس من المعقول إلا إذا كان على مستوى مبادلة متساوية بحيث تكون عند هذه الشعوب يد معطية أيضاً حتى يتعادل بينهما الأمر ، ويكون الأخذ إذن تبادلاً لا منحةً ورحمةً من القوى يسيئ إلى كرامة هذه الشعوب ، وقد يضطرها إلى أداء ضريبة هذا الإحسان في صور مخزية غير كريمة ، وإذا لم تستطع هذه الشعوب الإعطاء أو التبادل المتساوي فجدير بها أن تقتنع بما لديها من إمكانيات حتى يحتفظ بذلك بكرامتها وعزتها ، وإن في إمكانها إذن أن تنمى ثرواتها ووسائلها حتى تبلغ إلى مستوى مسئولياتها في الحياة الدولية ، أما الثروة المعنوية الإنسانية الكريمة فإنما تملك هذه الشعوب الإسلامية منها الشيئ الكثير ، وهي تستطيع أن تمنح غيرها شيئاً كثيراً من هذه الثروة العظيمة ، والعالم اليوم أفقر شيئ إلى هذه الثروة ، فليست شعوبنا الإسلامية قامت بحمل هذه الثروة الإنسانية العظيمة ومنح غيرها شيئاً منها ، وقد قام أسلافنـا العظماء بهذا المنح والإعطاء أكثر من إعطاء أي شيئ آخر ، وفيه كان سر نجاحهم وعظمتهم التاريخية التي لا تزال تذكر وتشكر ” .
* الأمين العام لندوة العلماء ، ورئيس تحرير صحيفة الرائد – لكناؤ .