الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي :

الشيخ محمد الرابع الندوي . . . مآثر لا تُنسى
نوفمبر 19, 2023
ستظل ذكراك خالدةً في قلوبنا
نوفمبر 19, 2023
الشيخ محمد الرابع الندوي . . . مآثر لا تُنسى
نوفمبر 19, 2023
ستظل ذكراك خالدةً في قلوبنا
نوفمبر 19, 2023

ذكريات وعبر

الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي :

ذكريات وعبر

بقلم : أ . د . حسن الأمراني الحسني *

رجل كان يمشي على الأرض هوناً .

هادئ في حديثه ، لا صخّاب ولا هيّاب ، يبلغ فكرته في حكمة بالغة .

زاهد لا يتطلع إلى الظهور ، ولكنه يصدع بالحق في لين . يظنّ من لا يعرفه أن ليس وراء هذا الزهد همة عالية ، فإذا خبره علم أن له همةً تناطح النجوم .

عرفته منذ أربعة عقود . بقي كما عهدته أول مرة ، بهمة عالية ، وعزم راسخ ، وإن كان ازداد حنكةً وحكمةً .

رأيته أول مرة في شهر ديسمبر من عام 1985م . كنت قادماً من باريس ، مدينة الأنوار في الغرب ” كما تسمى ” ، إلى لكناؤ ، في الشرق . كنت يومها مقيماً في باريس لإعداد شهادة دكتوراه الدولة . بحثت عن الطيران المتوجه إلى الهند ، فوافق بحثي رحلة أسبوعية ، ذهاباً وإياباً ، عبر الخطوط السورية ، من باريس إلى دلهي ، عبر دمشق ، والشارقة ، تستغرق أسبوعين . ولم أتردد في الحجز .

أرسلت ندوة العلماء لاستقبالي في مطار دلهي شاباً من ماليزيا ، اسمه فهمي زمزم الندوي ( رحمه الله ) ، لكن لم يقدر لنا في تلك اللحظة أن نلتقي ، لأنني بقيت داخل المطار ، ولم أخرج كسائر المسافرين ، وذلك بحثاً عن حقيبتي التي ضاعت بين حقائب المسافرين . ولما خرجت كان فهمي قد يئس من وصولي فغادر . سُقِط في يدي . لم يبق غير أن أسافر إلى لكناؤ بمفردي . ركبت القطار ، وأنا لا أعلم أنه سيستغرق كل ذلك الوقت الطويل . كان لا يمر بمحطة ، ولو صغيرة ، إلا وقف ما شاء الله له أن يقف . رأيت مشاهد تذكرني ببعض الأفلام السينمائية المصورة لأوضاع قطاع فقير من أبناء الهند ، مما شاهدت في زمن الشباب الأول ، صليت الظهر والعصر جمعاً في القطار ، ثم المغرب والعشاء ، لأصل صباح اليوم التالي . نزلت في المحطة ، واتصلت بندوة العلماء ، فأرسلوا إلي شيخاً وقوراً ، ولكنه في همة الشباب ، اسمه       ( شمس الحق الندوي ) . قال لي : انتظرني . قلت له : ولكن كيف يعرف بعضنا بعضاً ؟ قال في ثقة : أنا أعرفك . لا أعرف كم مضى علي من الوقت ، ولكن أظن أن صاحبي لم يطل انتظاري حتى تقدم مني مسلِّماً .

نزلنا ضيوفاً على ندوة العلماء ، وهناك التقى جمع الأدباء القادمين من آسيا ، وأوروبا ، وإفريقيا . أذكر من بينهم شاعراً من الحبشة ، اسمه محمد كامل الأنّي . كان يؤثر أن يقال عنه : إنه من   دار الهجرة الأولى ، بدلاً من الحبشة . وكان قادماً من المغرب الشاعر السوري الكبير عمر بهاء الدين الأميري ، وكان قد استقر بالمغرب ، أستاذاً للفقه الحضاري ، بدار الحديث الحسنية . وأذكر أيضاً شاعراً من اليمن .

منذ ذلك التاريخ عرفت الشيخ العلامة محمد الرابع ، وتتابعت لقاءاتنا ، حيث كنت عضواً بمجلس الأمناء ، وتوليت أمانة السر فترةً ، وكان هو ملازماً لسماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ، ومعه محمد اجتباء الندوي ، ومحمد واضح رشيد الندوي ، رحمهم الله جميعاً .

كانت لقاءاتنا في عدد من المدن ، منها إستانبول ، والقاهرة ، وعمان ، ووجدة ، وفاس . إلا أن أكثر ما كنا نلتقي في المدينة المنورة ، في بيت الدكتور عبد الباسط بدر ، رحمه الله تعالى ، وأولها كان في 29 – 30 صفر 1408هـ ، الموافق لـ 22 – 23 أكتوبر 1987م ، ثم في 15 – 16 /4/1409هـ الموافق لـ 23 – 24/11/1988م .

كل تلك اللقاءات بالشيخ محمد الرابع رحمه الله ، كانت تزيدني به معرفةً ، وتؤكد ما آنسته منه منذ اللقاء الأول في لكناؤ . وكان من خلقه التواضع ، والزهد ، وعدم الحرص على الشهرة والظهور . لقد تربى في مدرسة العلامة الشيخ أبي الحسن الندوي وعلى يده ، فقبس من علمه ، ومن خلقه ما صار له طبعاً . كان زهده من زهد شيخنا      أبي الحسن ، فإذا نزلنا فندقاً ، نزل معنا ليحضر اجتماعات الرابطة ، إلا أنه بعد ذلك ، يأخذ طريقه إلى بيت بعض البسطاء من الهند . وفي المدينة المنورة ، كان – خارج الاجتماعات – يختلف إلى فندق ” نور ولي ” حيث يلتقي بالبسطاء مرةً أخرى .

وقد أخذ الشيخ محمد الرابع شيئاً من أخلاق خاله أبي الحسن .

وأذكر حادثة واحدة تكشف زهده .

فبعد وفاة رئيس الرابطة ومؤسسها الشيخ أبي الحسن علي الحسني ، اجتمع مجلس الأمناء لاختيار خلف له ، وذلك في الدورة الحادية عشرة لمجلس أمناء الرابطة في المدينة المنورة في المدة 17 – 22 /5/1421هـ ، الموافق 17 – 22 /8/ 2000م ، وهي أول دورة بعد وفاة الشيخ أبي الحسن الندوي – رحمه الله ، رئيس الرابطة ومؤسسها .

وكان النظر ينقلب ما بين الدكتور عبد القدوس أبي صالح ، والشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ، ليكون أحدهما خلفاً للشيخ    أبي الحسن رحمه الله . وكنتُ ممن أقترح الشيخ محمد الرابع لمنصب الرئيس ، لتبقى الرئاسة في الهند ، والنيابة في البلاد العربية . ولما رأى أن هنالك من يرشحه لهذا المنصب ، طلب في أدب جم مهلةً لصلاة الاستخارة . وانفض المجلس . وبعد معاودة الاجتماع اعتذر ، معلناً أن الله لم يشرح صدره لقبول منصب الرئيس ، وعندها اختير الدكتور عبد القدوس     أبو صالح رحمه الله تعالى ، رئيساً للرابطة بالإجماع .

وبعد وفاة الدكتور عبد القدوس ، بدأ التشاور في من يخلفه ، ولم يكن هناك من هو أجدر من الشيخ محمد الرابع ، قانوناً وواقعاً . ومع ذلك لم يترك المشورة . وقد اتصل بي مراراً للتشاور ، قبل انتخابه ، وبعد انتخابه ، وسألني عن بعض أعضاء مجلس الأمناء . وعندما وقع اختياره علي لأكون نائبه الأول ، رحبتُ باختياره . وكان في تلك الفترة القصيرة التي قضاها رئيساً للرابطة ، يستشيرني إما كتابةً ، وإما عبر الاتصال الهاتفي . وكنت في مراسلاتي أوقع باسم ( رئيس مكتب   المغرب ) ، فنبهني مرةً بلطفه المعهود ، وابتسامته الغضة ، قائلاً : لماذا توقع باسم رئيس مكتب المغرب ؟ أنت الآن النائب الأول لرئيس الرابطة . والتزمت بما طلب .

هذا الرجل الزاهد ، الذي كان يمشي على الأرض هوناً ، خلف ذخيرةً فكريةً وأدبيةً وعلميةً ، لو كان لمثله بعض منها لمشى زهواً بين الناس . فقد ترك وراءه للناس ستين مؤلفاً في الفكر ، والتربية ، والدعوة ، والأدب ، والسيرة . وكان للغة العربية ، والأدب العربي ، من تلك الكتب نصيب وافر ، وحظ جزيل ، ومنها : ( مختارات في الأدب العربي ) ،        و ( الأدب العربي بين عرض ونقد ) ، و ( منثورات من أدب العرب ) . وقد كان أول ما أهداني رحمه الله كتاب ( الأدب الإسلامي وصلته بالحياة ، مع نماذج من صدر الإسلام ) ، وآخر ما أهداني كتاب جليل في السيرة النبوية ، هو كتاب : ( سراجاً منيراً ) ، بعث به إلي من لندن ، عن طريق الأستاذ الفاضل الدكتور محمد أكرم الندوي ، وهو كتاب كاشف عن شخصيته المتميزة ، قارئاً للسيرة النبوية ومتذوقاً لها ، ومستخلصاً من العبر منها ما هو جدير بالتأمل .

وقد اخترت أن أقف وقفةً قصيرةً ، بما يسمح به المقام ، عند الكتاب الأول ، أجلي من خلاله بعض خصائص شخصيته ، دارساً للأدب العربي ، ومؤرخاً له ، وناقداً .

استهل الكتاب بتوطئة ، يقول فيها : ” هذا بحث كنت أعددته مساهماً في الندوة العالمية الأولى للأدب الإسلامي المنعقدة في دار العلوم ، ندوة العلماء ، عام 1401هـ ، شرحت فيه صلة الإسلام بالأدب ، وصلة الأدب الإسلامي بالحياة ، وهما جانبان يسترعيان منا الانتباه ” .

وفي هذه الإطلالة حقائق منها أن ندوة العلماء ، كانت سبَّاقة إلى تخصيص ندوة عالمية للأدب الإسلامي ، أي قبل ندوة : ” الحوار حول الأدب الإسلامي ” التي عقدت في المدينة المنورة ، عام 1982هـ ، وندوة الأدب الإسلامي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض في رجب 1405هـ ، الموافق نيسان/ أبريل 1985م . وهذه الندوات هي التي مهدت لنشوء ” رابطة الأدب الإسلامي العالمية ” في ندوة العلماء ، في عام 1406هـ الموافق لعام 1986م .

والحقيقة الثانية هي : ( شرح صلة الإسلام بالأدب ، وصلة الأدب الإسلامي بالحياة ، وهما جانبان يسترعيان منا الانتباه ) . وهذا أمر حق ، فلطالما أثير الجدل حول صلة الإسلام بالأدب ، وأن الدين منافٍ للأدب بصفة عامة ، وللشعر بصفة خاصة ، وإن كان من صلة – عندهم – فهي صلة سلبية ، فالأدب الذي نشأ في ظل الإسلام أدب ضعيف ، وهو زعم باطل لا ريب في ذلك .

وهذا مما يبين أن الشيخ محمد الرابع رحمه الله كان على وعي مبكر بالقضايا الجوهرية المتصلة بالأدب الإسلامي .

وفي ما يلي عرض موجز للأفكار الرئيسية للكتاب :

في التوطئة ، أبرز الكاتب أن الفسق ليس من مقومات الأدب ، ولا يجعل من الأدب أدباً عريقاً ، كما أن حضور الدين في الأدب ، لا يفقد الأدب قوته وجماله .

والأدب قد يكون مصبوغاً بالصبغة الدينية كالابتهالات ، والدعاء ، والوعظ .

لكن الأدب الإسلامي أوسع من ذلك بكثير . إنه متسع باتساع الحياة كلها ، ومتنوع بتنوع الحاجات الإنسانية . ويضرب المثل لذلك بأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو متسم بالقوة والجمال .

والإسلام ليس ديناً مقصوراً أو محدوداً في العبادات كسائر الأديان ، بل هو متسع اتساع الحياة ، ولذلك فإن الأدب الإسلامي متسع باتساع الحياة . ( ولم يتعارض إلا مع ما يتعارض مع مصلحة الحياة الإنسانية ذاتها ، ومع ذوقها الجميل ، وأنه إذا تعارض فيتعارض مع عمليات الهدم والإخلال بصالح الإنسان وإنسانيته ) .

وقد أبرزت المقارنة بين الأدب الجاهلي والأدب الإسلامي ، من خلال الأدب المخضرم ، أن الأدب الإسلامي لم يضعف عما كان عليه في الجاهلية ، بل ازداد قوةً مع بعض الشعراء .

ويقول عن اللغة العربية : ( ومن أغزر اللغات ، وأطولها مدة ، هي اللغة العربية وآدابها ، فإن امتدادها لا يقصر من خمسة عشر قرناً بالتواصل والتوالي ، لم تنقطع هذه اللغة ولا آدابها في هذا الامتداد فترةً ، ولم تنسحب عن المجال الأدبي . . . فقد كان رسول هذا الدين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم – وهو الداعي الأعظم للإسلام – من أكثر أهل هذه اللغة وآدابها قوةً وإجادةً ، لم يكن قائلاً للشعر ، ولكنه كان مجيداً لفهمه ، ومتذوقاً لمحاسنه ، أما النثر الأدبي ، فقد كان صلى الله عليه وسلم أروع الناس جميعاً كلاماً فيه وفهماً له ) .

ويقارن بين الأدب الإسلامي والأدب غير الإسلامي ، فيرى أن       ( الأدب الإسلامي أدب ملتزم بالمفيد الصالح لا بالجمود والتقليد ) . ( ص : 20 ) .

وهو هنا يحسم قضية الالتزام في الأدب التي شغلت الناس في القرن العشرين الميلادي ، فليس الالتزام في الأدب الإسلامي موافقاً للأدب الوجودي الغربي ، ولا هو مساير للالتزام الماركسي ، الذي هو على الحقيقة ليس غير إلزام للأديب ، بأن يكون شعره خادماً لإيديولوجية الحزب الحاكم ، بل هو التزام حرّ ، إن صحّ القول ، ليس عليه رقيب إلا الله عز وجل . فلا الدولة ، ولا الحزب ، ولا السلطة كيفما كانت ، لها سلطان على الأدباء . وإنما هي تتدخل إن وقع الأديب في ” الخيانة العظمى ” ، وأصبح خطراً مباشراً على الأمة . وإلا فكم وجدنا من أديب يسير في اتجاه معاكس للسلطة ، ولا يتعرض له أحد .

كما يلفت الكاتب النظر إلى أمر مهم ، وهو ما يمكن تسميته بـ : ” التوجيه النبوي للأدب ” ، أي إن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجه بعض النصوص ، والأمثال ، والأقوال الجاهلية ، توجيهاً إسلامياً ، دون أن يطرحها جانباً ، أو يعترض عليها ، فاكتسبت بذلك معنى جديداً . فالقول الواحد يمكن أن ننظر إليه من زاوية فنراه جاهلياً ، وإذا جددنا فيه النظر ووجهناه صار إسلامياً . ومن هنا يبرز الفارق بين المفهوم الإسلامي للأدب وبين غيره . فقد كانت العرب تقول : ” اُنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ” ، فأقر عليه السلام هذا القول ، واستشهد به ، ولما قيل :     ” ننصره مظلوماً ، فكيف ننصره ظالماً ؟ ” ، قال عليه السلام : ” أن تمنعه عن ظلمه ” . هنا يدخل التوجيه النبوي للعبارة فيكسبه جِدةً ، دون استبدال غيرها بها ، لأن وراء ذلك مقاصد؛ منها التعليم ، والتأثير ، وتركيز المفهوم الجديد ، بحسب ما بين المؤلف .

وكذلك نظر محمد الرابع إلى الشعر ، فوجَّهه الوجهة الإسلامية المناسبة . ومن ذلك أنه قدَّم لنا تفسيراً جميلاً لبيت النابغة الجعدي :

” بلغنا السماء مجدنا وجدودنا    وإنا لنبغي فوق ذلك مظهراً “

فالبيت الواحد يمكن أن يكون له تفسير يؤدي إلى الكفر ، وتفسير آخر يرسخ الإيمان .

قال الكاتب : ( فلما سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم تغير وجهه الكريم ، وسأل : ” إلى أين يا أبا ليلى ؟ ” فقال الشاعر : إلى الجنة يا رسول الله . فطابت نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه عرف من شرح الشاعر لشعره أن المفهوم ليس كما يبدو من ظاهر النص بأن يكون جراءةً مع الذات الإلهية ، بل إنه مفهوم التقرب إليه ، وطلب مثوبته وجنته ، فبيت واحد من الشعر كان يدخل في حيّز الإلحاد والكفر إذا وجدنا تفسيره تفسيراً مغايراً للحق والإسلام ، ولكنه يصير بيتاً من الشعر الإسلامي عندما يتفق مفهومه مع النظر الإسلامي ” . ( ص : 24 ) .

وهناك فكرة أخرى أساسية ، وهي أنّ الأجناس الأدبية لم تتغير ، ولكن تغيرت مضامينها . وهذا يعني أن الإسلام يتسع لكل الأجناس الأدبية ، القائمة حالياً ، والمستحدثة في المستقبل ، شرط أن تكون مضامينها إسلاميةً .

وهكذا فإن النظرة الإسلامية إلى الأدب الجاهلي منسجمة مع هذا التصور ، ذلك ( بأن الإسلام لم يشطب الأدب الجاهلي كله ، بل إنما شطب الأدب الكاذب والمنافق والفاسد منه ) . ( ص : 26 ) ، ولذلك استنشد الرسول عليه السلام عمرو بن الشريد من شعر أمية بن أبي الصلت ، فأنشده مائة بيت ، فقال عليه السلام : ” آمن لسانه ، وكفر قلبه ” .

والأدب الإسلامي قسمان :

قسم يؤدي دور نشر الوعي الديني ، وهو ( أدب الدعوة والدين ) . وقسم واسع بلا حدود ، يشمل كل مناحي الحياة ، وليس شرطاً فيه حمل شعار الإسلام ، إلا أنه يلتزم بحدود الإسلام ، وهو ( الأدب العام ) .

فهل لنا نص أدبي إسلامي يقتدى به ؟ نعم ، إنه أدب الرسول صلى الله عليه وسلم . فالبلاغة النبوية هي قمة البلاغة في كل عصر ، وفي كل مصر . وقد سبق صلى الله عليه وسلم إلى عبارات صارت من بعد ذلك أمثالاً ، واختار لنا الكاتب نماذج ، منها :

” رفقاً بالقوارير ” . و ” يا خيل الله اركبي ” . و ” لا ينتطح فيه عنزان ” .

ثم ساق نماذج من أدب الرسول صلى الله عليه وسلم . ونماذج أخرى نثرية من أدب الصحابة .

وساق لنا أيضاً قول عائشة رضي الله عنها ، حين دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعندها أبواها يبكيان ، من حديث الإفك . وإنها لقطعة أدبية تقطّع الأكباد . وهي تكشف عن حسن الاختيار ، كما قال الشاعر قديماً :

قد عرفناك باختيارك إذ كان دليلاً على اللبيب اختياره

وبعد ذلك قدم الكاتب قانوناً أدبياً به يفصل ما بين الأدب الإسلامي وغيره ، وهو قوله : ” الالتزام بالطبيعة الإسلامية هو المبدأ الوحيد للأدب الإسلامي ” . ( ص : 54 ) .

وقد سبق الشيخ محمد الرابع رحمه الله إلى قضية التمييز بين      ” الأدب الديني ” الذي هو موجود في كل الأديان الأخرى ، وبين ” الأدب الإسلامي ” الذي له خصوصيته . ففي الأديان الأخرى هناك الحديث عن الأدب الديني لا غير . أما الأدب الإسلامي فواسع مع الالتزام ، ومقيد مع الشمول ، لأن الأدب الإسلامي هو أدب الفطرة ، ( والطبيعة الإسلامية هي الفطرة التي فطر خالق النّاسِ النَّاسَ عليها ) .

أما الاختيارات الشعرية والنثرية التي قدمها المؤلف ، فهي تكشف عن حس نقدي متقدم ، وذوق أدبي رفيع . ومما اختاره نماذج كثيرة لحسان بن ثابت الأنصاري ، وهذا أمر طبيعي ، لأن حسان بن ثابت ، أكبر شاعر إسلامي عبر التاريخ .

وحسّان لم يكن شاعراً عادياً ، بل كان فحلاً في الجاهلية والإسلام . وقد وضع في الإسلام ميزاناً جديداً لنقد الشعر ، فقال مما اختاره الكاتب :

وإنما الشعر لب المرء يعرضه على المجالس إن كيسا وإن حمقا

وإن أشعر بيت أنت قــــــــــائله بيت يقـــــــــــــــــال إذا أنشدته صدَقا

فسقطت بذلك مقولة : ( أعذب الشعر أكذبه ) .

ثم إن الكاتب نفسه ، وضع لنا ميزاناً جديداً وحصيفاً ، ينبغي مراعاته عند الموازنة بين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي ، بل بين شاعر وشاعر . فقال : ” إن المقارنة بين شاعرين ، ينبغي أن تكون بمعيار شعري واحد ” . ( ص : 82 ) .

هذا هو المعيار الذي وضعه الكاتب ، وهو يعتمد فيه على الحجة والمنطق ، لا على الهوى الذي لا يغني من الحق شيئاً .

يقول مثلاً : ( هل نقارن بين النابغة وامرئ القيس في أغراض واحدة ؟ .

أليست لكل واحد منهما مجالات مختلفة عن مجالات الآخر في القوة والبراعة ؟ فلماذا لا نقول : إن امرأ القيس ضعيف في الشعر ، لأنه لم يحسن الاعتذار والاستعطاف ، وإن النابغة ضعيف في الشعر ، لأنه لم يحسن في وصف الخيل والصيد كامرئ القيس ؟ فلماذا نقيس الشعر الإسلامي بما لا نقيس به الشعر غير الإسلامي ؟

فإن لكل شاعر مجالات في القول ، ولكل عهد مجالات ، فمن الإنصاف أن نزن الشعر في مجالات قائله وعهده ) .

ومن القضايا التي أصّلها الكاتب رحمه الله تعالى ، خصائص الشعر وميزاته بين العهدين الجاهلي والإسلامي .

وفي هذا المبحث يقوم الرد على من قال بضعف الشعر في الإسلام .

ومعلوم أن السهام توجهت بخاصة إلى شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم ، حسان بن ثابت الأنصاري ، فكان من الطبيعي أن يكون هو المثل الذي يستشهد به ، لأنه إذا ثبت أن شعر حسان لم يضعف في الإسلام عنه في الجاهلية ، فإن ذلك يكون حجةً قاطعةً على من يزعم غير ذلك .

والحجة البالغة أولاً هي أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، كان يحض الشعراء ، ومنهم حسان على قول الشعر ، وما كان للرسول صلى الله عليه وسلم ، أن يتخذ في معركته مع قريش شاعراً ضعيفاً . ثم إن الكاتب يقرر أن ” شعر حسان في الإسلام بارع ” . ( ص : 77 ) .

وليس هذا مجرد ادعاء ، بل إن مستنده هو النظر في شعر حسان في الجاهلية وشعره في الإسلام .

ويقيس الشيخ محمد الرابع رحمه الله الشعر بمدى أثره في المتلقي ، وهل حقق هدفه أم لا ؟ فيقول : ( وقد تبين من دراسة شعر سيدنا حسان ابن ثابت الأنصاري أن الأثر الذي كان يتركه بشعره على النفوس في عهده الإسلامي كان أكثر مما تركه في عهده الجاهلي ، وإن كان شعره قد اشتمل في العهد الجاهلي على روائع عديدة مما له سهم كبير في رفع مكانته بين الشعراء ، ولكن دوره الشعري في العهد الإسلامي هو الذي بلغ به إلى مكانته الشعرية الخالدة التي بلغها ، ولو لم يكن ذلك لكان واحداً من عشرات الشعراء الذين عُرفوا بالإحسان الشعري في العهد الجاهلي . . . ثم إن الإسلام هو الذي حمله على اعتصار قريحته في مجالات جديدة ، واستخراج اللآلئ من الشعر الرقيق الرصين في موضوعاته ، وكان ذلك إضافةً مُثريةً إلى عدد من قصائده البديعة الرائعة التي قالها في عهده الجاهلي في مدائح ملوك غسان والحيرة ، وبخاصة قصيدته اللامية التي نالت الإعجاب والتقدير العظيمين ، وقررت مكانته الشعرية بين الشعراء . ولكن قصائده في العهد الإسلامي ، وهي قصائد مصطبغة بالصبغة الإسلامية المحافظة ، وخاصةً قصائده في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهي ممتازة بالروعة والإجادة ودقة الوصف رغم تقيده بالإطار الإسلامي للشعر ، وهناك فرق كبير بين أن يقول الشاعر ما يقول بدون تقيد بإطار وبالتقيد بإطار ، فإذا لم تضمحل جودته مع التقيد كان أبلغ وأبرع ممن يجيد وهو حرّ وغيره مقيّد ، ويدلّ على ذلك أنه هجا قريشاً ولم يصب هذا الهجاء ابن قريش العظيم محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي ) . ( ص : 83 ) .

وأنا أشهد أني عاشرتُ حسان بن ثابت في شعره زمناً طويلاً ، وأزعم أنني قرأت أكثر ما كتب عنه ، من كتب مستقلة ، مثل ما كتب د . محمد الطاهر درويش ، و د . إحسان النص ، إضافةً إلى الكتب العامة التي عرضت للشعر الإسلامي في عهد النبوة ، وكلها عرضت لموقف الإسلام من الشعر ، وقضية ضعف شعر حسان بن ثابت بخاصة ، فما رأيت عند أحد من الأنصار والخصوم على السواء حجةً أبلغ ، ولا منطقاً أسدّ ، مما كتبه الشيخ محمد الرابع رحمه الله تعالى . هذا على الرغم من أنه لم يركب التعقيد في سوق الحجج ، ولا الرهبة في إصدار الحكم ، لأنه كان مقتنعاً كل الاقتناع بما يقول ، وكان أمام قضية يعلم أن كسبها هو كسب للأدب الإسلامي ، وهو قد كسَبها بكل تأكيد ، إن كان حكمنا يقوم على الإنصاف .

وأخيراً وقف المؤلف عند أمر جلل ، وهو فتح شعراء الإسلام لأبواب جديدة في الشعر : 80 ، ومنها التسامي بالحب الذي كان غرضاً شائعاً في الجاهلية ، يصب في قالب ” الغزل ” ، ويحصر نفسه ، غالباً ، في التغني بمحاسن المرأة الجسدية ، فقد انتقل الحب من صورته الإباحية والشهوانية ، إلى حب الخير في الآخرة ، وحب الله ورسوله . وحتى في باب الغزل ، أبقى على مكارم الأخلاق التي كانت في الجاهلية ، لأنها أخلاق إنسانية ، تستريح إليها الفطرة الإنسانية ، وذلك تطبيقاً للحديث النبوي الشريف الذي رواه أبو هريرة : ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ” .

ووجدنا في الإسلام من الغزل العفيف ما تخضع له الأعناق ، مما فتح الباب واسعاً أمام الغزل الرمزي ، الذي ارتقى إلى درجات سامية من الفن الرفيع . وعندنا من ذلك غزل حميد بن ثور الهلالي ، الصحابي ، القائل :

أبى الله إلا أن سرحة مالك       على كل أفنان العضاه تروق

وقد كنى عن المرأة بالسرحة ، طلباً للعفة .

وقد تطور شعر الحب إلى أن أخذ صورة هذا الشعر الذي يتغنى بحب الله ورسوله ، واتخذ صوراً عديدةً ، عن شعوب إسلامية كثيرة ، ومنها المديح النبوي ، والشعر الإلهي الذي بلغ ذروته مع شعراء التزكية والإحسان .

وهنا ، لم يفت المؤلف أن يشير ، ولو باللمح العابر ، إلى الأدبين الإسلاميين ، الأوردي والفارسي ، وذلك عند الحديث عن غرض شعري مشترك بينهما ، ألا وهو المديح النبوي ، الذي هو غرض جديد ، ليس في الشعر العربي فقط ، بل في شعر الشعوب الإسلامية قاطبة .

فإلى جانب أغراض شعرية جديدة ابتكرها الشعراء الإسلاميون ، كان هناك أغراض تقليدية ، طوروها ، وأهمها المديح الذي كان غرضاً شائعاً في الجاهلية ، واستقل منه غرض شريف ، وهو المديح النبوي .

وحديثه عنه هو حديث أديب خبير ، وناقد بصير ، بحيث يبرز لنا نشأته ، وتطوره ، وخصائصه ، وكيف أنه استفاد من أغراض أخرى غير المديح ، إلا أن امتصّ منها ما يناسبه ، وصرف النظر عما يجافيه .

يقول الشيخ رحمه الله تعالى : ( وبجانب ما ابتكره الشعر الإسلامي من أبواب جديدة للشعر ونوّع بعض أغراضه الرائعة تنويعاً ، منه تنويعه للمديح ، وابتكار نوع منه هو المديح النبوي ، الذي سار في الناس على مر العصور والأزمان كنوع شعري بذاته ، وسمّي بالنبويات بالغربية ، وبالنعت ، بالفارسية والأوردوية ، ونبغ فيه طائفة من الشعراء ، ونالوا تقديراً بالغاً منهم في هذا النوع ، وهذا النوع الشعري الجديد امتاز بجمعه لخصائص النسيب الرقيق بالمديح البليغ ، واجتمع فيه التعظيم مع الحب ، تعظيم لا كتقديس لأن التقديس لله وحده ، وحب لا كحب النساء لأنه مجال الغرائز الساقطة والخواطر السافلة ) . ( ص : 88 ) .

ثم يذكر انتقال هذا الغرض من الشعر العربي إلى الشعوب الإسلامية الأخرى ، فيقول : ( ظهر هذا النوع الشعري في شعر الشعراء المخضرمين ثم استمر بعده في التاريخ ، في الشعراء المسلمين ، وفي لغات الشعوب الإسلامية الأخرى كذلك ، ولا يزال إلى اليوم ) .

هذا ومن نظرات المؤلف النقدية الحصيفة ، أنه تعرض لقضية شعر الخلفاء الراشدين ، ثم شك في نسبة كثير منه إليهم على الحقيقة ، وهو القول الصواب .

والخلاصة أن هذا الكتاب غزير المادة ، بليغ العبارة ، قوي الحجة ، يغني عن غيره في موضوعه ، ولا يغني عنه غيره .

والحمد لله رب العالمين .


* نائب رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية .