قصة أصحاب الكهف وما لها من نتائج وعبر

قصة سيدنا إبراهيم ، وتمثيلها في الحج
يونيو 23, 2023
صوم عاشوراء وتاريخه في الكتب السماوية
يوليو 28, 2023
قصة سيدنا إبراهيم ، وتمثيلها في الحج
يونيو 23, 2023
صوم عاشوراء وتاريخه في الكتب السماوية
يوليو 28, 2023

( الحلقة الثانية الأخيرة )

التوجيه الإسلامي :

قصة أصحاب الكهف وما لها من نتائج وعبر

( الحلقة الثانية الأخيرة )

سماحة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي ( رحمه الله )

تعريب : محمد فرمان الندوي

عدد أصحاب الكهف :

إن قضية عدد أصحاب الكهف أشد خطورةً ، وقد وقع رجال ذلك العصر في حيرة وارتباك نحو عددهم ، لأنهم لم يروا أصحاب الكهف بأم أعينهم ، ولا يمكن لأحد أن ينظرهم منفرداً ، فقال قائل : ثلاثة رابعهم كلبهم ، وقال قائل : خمسة سادسهم كلبهم ، وقال بعض الناس : كان أصحاب الكهف سبعةً ، وثامنهم كلبهم ، أشار الله إلى هذا الجانب في القرآن الكريم ، فقال : ( قُل رَّبِّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ ) ، ومعلوم أن كل من رآهم أول مرة هم يعرفون عددهم بصحة وإتقان ، أما البقية فإنهم قالوا بظن وتخمين ، فإن الشيئ الذي لم يروه كانوا يرجمون فيه بالغيب ، وكلمة الرجم معناها الرمي بالحجارة ، فرمي الحجارة إلى أي ناحية من النواحي يكون ذا عبرة ، فقالوا قولاً لعله يكون صحيحاً .

خاطب الله نبيه قائلاً : قل ربي أعلم بعدتهم ، فهذا الأمر لا حاجة إلى البحث عنه ، المطلوب من هذه القصة هو العبرة والنصيحة ، فإن قصة أصحاب الكهف ليست حدثاً للتاريخ ، ذُكر على سبيل القصة ، بل توخي منها الاعتبار والنصيحة ، فوضع الله عدة أصحاب الكهف في علمه ، وقد قال الله تعالى : ( فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً ) ، لأن هذه القضية ليست ذات أهمية ، فلا بد لنا أن نعرف من هذه القصة أن الله تعالى يعمل ما يشاء ، وهو قادر على كل شيئ ، فإن هذه القصة لم تحدث صُدفةً ، بل لا يزال يقدم الله أمام الناس مناظر قدرته وعجايب خلقه .

توجيه مهم :

حينما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف ، فقال : سأخبركم غداً ، ولم يقل : إن شاء الله ، فإن الله الذي هو أغنى عن كل شيئ يخاطب محمداً صلى الله عليه وسلم ، لكن يوجِّه إلى المسلمين عامةً توجيهاً مهماً ، ذكره في القرآن الكريم : ( وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً . إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ) ، معنى الآية أنه لا ينبغي للإنسان أن يعتمد على نفسه ، واثقاً بها ، فإنه لا يدري ماذا يكون في المستقبل ، وهو ليس في علمه ولا في خياره ، ومثال ذلك : أنت تقول : نحن نفعل ، ولم يمكن لك أن تفعل ، فكان وعدك كذباً ، إلا أن الله إذا شاء كان ، هذا هو الأسلوب الصحيح ، ونظراً إلى ذلك قال تعالى : ( وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى لِأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً ) .

مدة النوم في الكهف :

ورد في القرآن الكريم أن أصحاب الكهف ناموا في الكهف ثلاث مأة وتسع سنين ، وكانت هذه الثلاث المأة نظراً إلى التقويم الشمسي ، وتزداد ثلاث سنوات قمرية على كل مأة سنة ، فكانت ثلاث مأة وتسع سنين بالنسبة إلى التقويم القمري .

جوانب متنوعة للعبرة في قصة أصحاب الكهف :

تشير قصة أصحاب الكهف إلى أن هناك وقائع وحوادث تقع بأمر من الله تعالى ، وهي تدل على أن الله هو الفاعل الحقيقي وراءها ، وإن كان يبدو في الظاهر أن وراءها شيئاً آخر ، لكن الله هو المؤثر الحقيقي فيها ، وأصغر مثال له أن ملعقاً يأكل منه الإنسان إذا لم تظهر يد الإنسان في الأكل ، يظن الناظر أن الملعق هو يطعم الإنسان ، رغم أن الواقع ليس كذلك ، بل الرجل الذي يحرِّك هذا الملعق هو الذي يطعمه ، فكل ما يحدث في هذه الدنيا يكون بأمر من الله تعالى ، ثم يغيره الله حيناً لآخر ، لأن كل شيئ تحت قضاء الله وقدره ، فليس فيه تأثير من الخارج ، ومثال آخر له أن هناك مدرسة أو مؤسسة ، فاللجنة المسئولة عنها هي التي تدير هذه المدرسة ، وهي تخطط مناهجها ، وكم حصصاً تكون لها ، ومتى يكون التسجيل ؟ وجميع الموظفين يكونون خاضعين لها ، ويبدو من الظاهر أن هؤلاء الموظفين ليسوا مكلفين لأحد ، وأنهم أحرار في أعمالهم ، لكنهم في الواقع ملتزمون بأوامر اللجنة المسئولة عنها ، فإذا لم يوافقوا على قوانين اللجنة كانت وظائفهم في خطر ، فكأن الله أشار بعد ذكر قصة أصحاب الكهف إلى أن لا يتتبع الإنسان في البحث عن عدد أصحاب الكهف ، وكم مدة مكثوا في الغار ، بل اعلم أن هذه القصة حقيقة كالشمس في وضح النهار ، وأنهم مكثوا في الكهف مدةً من الزمن ، ثلاث مأة سنة ، وتكون ثلاث مأة سنة وتسع سنوات من التقويم القمري .

هناك جوانب أخرى في هذه القصة ، منها أن الله تعالى قد أكرم أصحاب الكهف بالأجر الجزيل على نياتهم ، وعاملهم معاملةً لم يعامل أحداً من الناس عامةً ، ذلك لأنهم ضحوا بكل نفيس وغال في سبيل الله تعالى ، وقد بلغ إيمانهم بالله إلى أنهم لم يبالوا بأنفسهم ، وجعلوا إيمانهم فوق كل شيئ ، وقرروا أنهم يحرمون أنفسهم كل شيئ ، حتى إنهم يحرمون أنفسهم من مباهج الدنيا ، سواءً كانوا أحياءً أم أمواتاً ، لكنهم يكونون بعيدين عن دار الكفر والشرك .

وقد أكرمهم الله بجزاء هذه التضحية الجسيمة أنه أنشأ فيهم روحاً جديدةً ، فظلوا ينامون مطمئنين ، حتى لم يعرفوا كم مدة ناموا في هذا الكهف ، هناك لا بد من التأمل في أمرين : أحدهما أن بقاء الإنسان معافىً في جسده إلى مدة ثلاث مأة سنة أمر مستحيل ، يندر مثاله في هذا العالم ، لأن الله تعالى خلق جسم الإنسان في صورة ، لا يقوم بنفسه ، وهو يحتاج إلى غذاء ، وينشأ الدم من استعمال الغذاء ، وتنشأ قوة في الجسم بكثرة الدم ، فإذا لم يجد الدم غذاءً وتوقف نشوء الدم لا يبقى الإنسان حياً . وثانيهما أن جسم الإنسان إذا فقد روحه ، أو تنتهي قوته تأكله حشرات الأرض ، ويكون جسمه بعد مدة عظاماً ورفاتاً ، فلم يحدث مع أصحاب الكهف أمثال هذه الحالات التي تطرأ على الميت ، ولم يشكوا في حياتهم ما ينقص قوتهم ، فكانوا في حياتهم ونومهم تحت رعاية خاصة من الله تعالى ، فصانهم الله تعالى من كلا الحالين ، وظلوا أحياءً لكن ليسوا كعامة الناس ، بل كانوا نائمين ، وكانت عيونهم يقظةً ، كأنهم اضطجعوا قبل قليل ، وكان كلبهم جالساً عندهم ينظرهم ويراقبهم كأنه يهجم على أحد ، وفي هذه الحالة إذا رآهم أحد امتلأ دهشةً ورعباً ، وخاف من كلبهم كأنه يهجم عليه ، ثم يهاجم عليه أصحاب الكهف .

هنا وقفة تأمل في هذه القصة أنه لما اشتد ت أوضاع مضادة للإيمان ، وأصبح البقاء على الإيمان صعباً هاجر أصحاب الكهف إلى الغار ، وتركوا ديارهم ، فنالوا ثواب الهجرة في سبيل الله تعالى ، وقد ركز الله في القرآن الكريم على الهجرة كثيراً ، حتى قال في آية من القرآن الكريم أن الرجال الذين لم يهاجروا من مكة إلى المدينة ، رغم أنهم كانوا يقدرون عليها يقبض الملائكة أرواحهم بكل شدة ، ويقولون لهم : لِمَ لم تهاجروا في سبيل الله ؟ فذوقوا جزاءً بما كنتم تعلمون ، قال تعالى : ( إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً ) ( النساء : 97 ) .

حذر الله أولئك الذين كانوا يقدرون على الهجرة ثم لم يهاجروا ، حذرهم من عذاب أليم ، وقد نهوا عن الإقامة في دار الكفر ، إلا أن رجلاً كان مضطراً إليها فلا جناح عليه ، كما كان في صلح الحديبية ، فكان من حكمة هذا الصلح أنه إذا نشبت الحرب بين الكفار والمسلمين ، وتغلب المسلمون عليهم ، فكان من اللازم أن سكان مكة تضرب أعناقهم ، فكان في أهالي مكة المسلمون الذين أقاموا في مكة ، ولم يتمكنوا من الهجرة إلى المدينة حتى الآن ، يضربون أيضاً ، فنهى الله تعالى المسلمين عن القتال ، وأجبرهم على الصلح الذي كان لتربيتهم وإصلاح أحوالهم الباطنة ، فإذا لم نطلع على خلفية هذا الصلح لا يمكن أن نعرف حقيقة هذا الصلح المبين ، وكان صلح الحديبية أمراً صعباً لا يمكن للعرب أن يرضوا به في أي حال من الأحوال ، فالمسلمون الذين قد اعتنقوا الإسلام كانت نشأتهم في بيئة الكفر والشرك ، وعُجنت طينتهم به ، وكانت طبائعهم مثل طبائع كفار قريش ، لكنهم تجرعوا بهذه المناسبة كأس المرارة ، رغم أنهم لا يتحملون أدنى ضيم أمامهم ، ولا يرضون بأي إهانة ، وتتقاتل القبائل فيما بينهم على أمور تافهة ، لكنهم لا يخضعون ولا يقبلون دنيئةً ، وتزهق أنفسهم وتسيل دماؤهم ، لكن لا يحملون حقارةً ، وكانوا يقولون : إن الموت آت ، فلماذا نخشى الموت ؟

يشهد التاريخ الإسلامي أن أمثال هؤلاء الغلاظ الشداد من الناس قد غيروا طبائعهم لصالح الإسلام ، لكن هذه حقيقة أن الطبيعة تكون فطريةً ، فلما قيل لهم أن يتصالحوا ، وكانوا يقدرون على أن ينالوا الفتح ويهزموا الكفار ، لم تقبل أذهانهم هذه الفكرة ، وسألوا : لم نُعطي الدنيئة في ديننا ؟ ولماذا نتصالح ؟ ولماذا نخضع أمام الكفار ؟ ولم نرض بأن نخضع أمام الأعداء ، وقد بلغوا من إيمانهم مبلغاً أنهم رغم هذه التساؤلات لم يفعلوا شيئاً ، وصبروا على ما واجهوا من المشاكل ، فكان نتيجة ذلك أن كثيراً من المسلمين المضطرين قد نجوا من القتل ، وارتفع شأن الصحابة الكرام رضي الله عنهم .

الهجرة والتوكل :

وليعلم أن الله تعالى قد رفع شأن أصحاب الكهف لأنهم هاجروا في سبيل الله تعالى ، وأووا إلى الغار تنازلاً عن كل شيئ : الأهل والوطن والمال ، فليس معنى إقامتهم في الغار أنهم سيرجعون من الغار إلى وطنهم ، فإنهم قد قطعوا حياتهم من كل شيئ ، وذلك لئلا يضيع إيمانهم ، فأكرمهم الله تعالى جزاء هذه التضحية بأنهم ظلوا أحياءً إلى مدة طويلة ، وضرب للناس مثالاً صادقاً أن الإيمان هكذا يأتي بثمار يانعة جنية .

والأمر الثاني أن أصحاب الكهف توكلوا على الله توكلاً كاملاً ، إنهم لم يفكروا شيئاً في طعامهم وشرابهم في الغار ، بل وكلوا كل شيئ إلى الله تعالى ، واعتمدوا عليه للغاية ، الواقع أن مثل هذا التوكل ليس بسهل ، لأن الوسائل والأسباب لم تكن متوافرةً ، ولا يُرجى عن نشوء أسباب تحصل بعد زمن ، ففي هذه الأوضاع توكل أصحاب الكهف على الله تعالى ، فهذا هو الإيمان القوي بالله أن الإنسان لا يملك شيئاً من الإمكانيات والأسباب ، لكن يثق بالله كل الثقة أن الله سيطعمه ، وهو الرازق الحقيقي .

جزاء تضحيات أصحاب الكهف :

ونظراً إلى هذه التضحيات الجسام جعل الله أصحاب الكهف نموذجاً إلى يوم القيامة وخلَّد ذكرهم ، ولا شك أن هذا جزاء أكبر من الله لهم أنه سجَّل أسماءهم في الخالدين ، والأمر الثاني هو أن الله أرجع أصحاب الكهف إلى بيوتهم مكرمين محترمين ، وأيقظهم الله تعالى في زمن قد حدث فيه انقلاب جديد ، وتأسست دولة المؤمنين الموحدين ، فلو استيقظوا قبل ذلك لوقعوا في صراع شديد : ماذا يفعلون ؟ وأين يذهبون ؟ وكيف يأكلون ؟ وكيف يقضون حياتهم ؟ وتنشأ لهم مشاكل كثيرة ، فأنامهم الله تعالى في هذه المدة .

إذا ذكر الله شيئاً في القرآن كان معناه أن يكون هذا الأمر نصب أعين الناس ، وليكن أمام الناس مثال ونموذج للعمل به ، لأن هذه الحوادث تتكرر في الحياة ، فلا بد من النظر في القرآن الكريم في أمثال هذه المناسبات ، ما هي توجيهات القرآن ؟ ذكر الله تعالى قصة أصحاب الكهف وغيرها من القصص للعظة والاعتبار ، وهذه القصص أمثلة لأهل الإيمان ، وكيف ينزل نصر الله بهم .