كتاب الآثار للإمام أبي يوسف رحمه الله :
مارس 15, 2023المستشرقون الألمان وتحقيق المخطوطات العربية والإسلامية
مارس 15, 2023دراسات وأبحاث :
المحسنات اللفظية في الأدعية القرآنية
الأخ بلال أحمد بيغ *
بعث الله سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم في الأمة العربية ، التي كانت تفتخر بفصاحتها وتعتز ببلاغتها ، وكان العرب يعدون أنفسهم أمراء البيان ، حيث كانوا يسمون سائر الناس عجماً ، وأيد الله سبحانه وتعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن معجزةً له في الكلام ، وجاء التحدي بقوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَآءكُم مَّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) [ البقرة : ٢٣ – ٢٤ ] .
المحسنات اللفظية في الأدعية القرآنية :
(1) حسن الافتتاح وبراعة الاستهلال : أحسن الابتداءات ما ناسب المقصود ، ويسمى ” براعة الاستهلال ” ، وهو أن يكون مطلع الكلام دالاً على غرض المتكلم من غير تصريح ، بل بإشارة لطيفة .
وخير مثال له قوله عزوجل : ( اَلْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعالَمِينَ . الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ . مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ . إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .اهْدِنَاالصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ) [ الفاتحة : ١ – ٧ ] .
تظهر ” براعة الاستهلال ” في استهلال القرآن بالفاتحة ، فجاءت مشتملةً على مقاصده . يقول السيوطي في الإتقان : ” ومن الابتداء الحسن نوع أخص منه يسمى ” براعة الاستهلال ” ، وهو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه ، ويشير إلى ما سبق الكلام لأجلهن والعلم الأسنى في ذلك سورة الفاتحة التي هي مطلع القرآن ، فإنها مشتملة على جميع مقاصده ، فنبه في الفاتحة على جميع مقاصد القرآن ، وهذا هو الغاية في ” براعة الاستهلال ” مع ما اشتملت عليه من الألفاظ الحسنة والمقاطع المستحسنة وأنواع البلاغة ” [1] .
(2) حسن الختام : يقول الأستاذ أحمد الهاشمي في كتابه : ” هو أن يجعل المتكلم آخر كلامه عذب اللفظ حسن السَّبْكِ صحيح المعنى ، مشعراً بالتمام حتى تستحق براعة المقطع بحسن الختام ، إذ هو آخر ما يبقى منه في الإسماع ” [2] .
مثال حسن الختام في الأدعية القرآنية :
قوله عز وجل : ( رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) [ آل عمران : ١٩٤ ] .
ويختم أولو الألباب دعاءهم باستنجاز وعد الله تعالى وثوابه والاستعفار من الخزي يوم القيامة وعذابه ( رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) ، وهذا الابتهال ( يدل على شدة الخوف من هذا الخزي ، وشدة تذكره واستحضاره في مطلع الدعاء وفي ختامه ، مما يشي بحساسية هذه القلوب ورقتها وشفافيتها وتقواها وحيائها من الله [3] .
(3) حسن الابتداء :
يقول الأستاذ أحمد الهاشمي في كتابه : ” هو أن يجعل أول الكلام رقيقاً سهلاً واضح المعنى مستقلاً عما بعده ، مناسباً للمقام بحيث يجذب السامع إلى الإصغاء بكليته ، لأنه أول ما يقرع السمع ، وبه يعرف مما عنده ” [4] .
كقوله تعالى : ( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ) [ النمل : 19 ] .
ويتأمل هذا المعنى اللغوي للفظ ( رب ) ، ثم ملاحظة استهلال الدعاء بها مع إضافتها لياء المتكلم نقول بتأمل ذلك نشعر بكمال الخضوع والتذلل من الداعي مما يكون أدعى للاستجابة والقبول عند الله عز وجل ، لذا كان لفظ ( رب ) الذي يفيده الخصوص هنا هو الذي يتناسق مع لفظ الجلالة يا ( الله ) مثلاً الذي يفيد العموم .
(4) الجناس اصطلاحاً :
” حقيقة التجنيس في مصطلح علماء البيان هو : ” أن تتفق اللفظتان في وجه من الوجوه يختلف معناهما ” [5] .
أنواع الجناس : يقول صاحب كتاب المنار في بيان أنواع الجناس : ومن هنا كان الجناس نوعين : ” تام ” و ” غير تام ” [6] .
التام : حقيقة أن يتفق اللفظان في كل من : (١) عدد الحروف (٢) نوعها (٣) ترتيبها (٤) هيئاتها [7] .
ونحو قوله تعالى : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ) [ الروم : ٥٥ ] .
ونكتفي هنا بذكر أنواع الجناس الواردة في الأدعية القرآنية .
شواهد الجناس في الأدعية القرآنية :
جناس الاشتقاق : ” هو أن يتوافق اللفظان في الحروف والأصول مرتبة مع الاتفاق في أصل المعنى ، ويسمى الاقتضاب ” .
قال الله تعالى : ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَتِنَا أُمَّةً مَّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ ، إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) [ البقرة : ١٢٨ ] .
جناس الاشتقاق بين كلمتي ، ” تب ” و ” تواب ” .
قال الله عز وجل : ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) [ البقرة : ١٢٩ ] .
جناس الاشتقاق بين كلمتي ” الحكمة ” و ” الحكيم ” .
الجناس المغاير : ” هو أن تكون الكلمتان اسماً وفعلاً ” [8] .
كقوله الله عز وجل : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنِ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصيرُ ) [ البقرة : ١٢٦ ] .
الجناس المغاير في قوله آمنا وقوله آمن .
قال الله عز وجل : ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مَن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) [ آل عمران : ٨ ] .
الجناس المغاير في قوله ” هب ” وقوله ” الوهاب ” .
(5) السجع في الاصطلاح : يقول الأستاذ أحمد الهاشمي في كتابه : هو توافق الفاصلتين في الحرف الأخير من النشر ، وأفضله ما تساوت فقره . وهو ثلاثة أقسام : (١) المرصع (٢) المتوازي (٣) المطرف [9] .
كقوله تعالى: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. اِهْدِنَا الصِّرَاطَ المستَقِيمَ .صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ) [ الفاتحة : ٥ – ٧ ] .
هنا التسجيع في ( الرحيم ) و ( المستقيم ) ، وفي ( نستعين ) و ( الضالين ) ، والتسجيع هو اتفاق الكلمتين في الوزن [10] .
السجع المرصع : ” وهو أن تكون الألفاظ المتقابلة في السجعتين متفقةً في أوزانها وفي أعجازها ، ( أي : في الحرف الأخير من كل متقابلين فيها ” [11] . كقوله تعالى : ( فَقَالُوا عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ .وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ اْلقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) [ يونس : ٨٥ – ٨٦ ] . وهناك السجع في كلمتين آخرين ، وهما ( لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) و ( اَلقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) ” .
السجع المطرف :
السجع المطرف عبارة عن الفاصلتين المتفقتين في التقفية دون الوزن العروضي . فربما نرى الأسجاع في الأدعية القرآنية متوافقةً في الحرف الأخير من كل قرينة من قرائنها . وأما ما قبل الفواصل فيكون مطلقاً من قيد التوافق في الوزن والتقفية مثل دعاء المسافر حينما يستوي على المركب : ( سُبْحَاَن الَّذِي سَخَرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ) [ الزخرف : ١٣ – ١٤ ] .
السجع بالتقديم والتأخير : قد نجد تقديم بعض العناصر عن موقعه الطبيعي النحوي وتأخيرها في الجملة الدعائية حفاظاً على ذلك الصنيع ورعاية للتناغم الصوتي المنيع من رؤس الآي ، من دون الإخلال بالمعنى المقصود . ومن غير تهجين الخيال الرائع المنضود ، مثل : ( سُبْحَاَن الَّذِي سَخَرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) [ الزخرف : ١٣ ] . ” ونحوه الدعاء : ( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) [ الفرقان : ٧٤ ] . فتقدم الجار والمجرور في هاتين الجملتين يظهر فيه الانسجام بين الفاصلتين في الآيتين .
(6) حسن الترتيب :
هذا من أهم موضوعات علم البديع ، وتشتمل على النظم الرائعة بين أفكار والبيان حتى يحس القاري روعة حسن البيان وتنسيق الكلام . كقوله عز وجل : ( رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحينَ . وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ . وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ) [ الشعراء : ٨٣ – ٨٥ ] .
وفي قوله عز وجل : ( رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحينَ ) فقد استوهب الحكم أولاً ثم طلب الإلحاق بالصالحين ، والسر فيه دقيق جداً ، ذلك أن القوه النظرية مقدمة على القوة العلمية ، لأنه يمكنه أن يعلم الحق وإن لم يعمل به ، وعكسه غير ممكن ، لأن العلم صفة الروح والعمل صفة البدن : وكما أن الروح أشرف من البدن ، كذلك العلم أفضل من الصلاح .
وفي قوله عز وجل : ( وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) فاللسان مجاز عن الذكر بعلاقة السبية ، واللام للنفع ، ومنه يستفاد الوصف بالجميل . وقوله عز وجل : ( رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ ) [ آل عمران : ١٩٤ ] .. وورد دعاؤهم على ترتيب بديع حيث بدؤوا بطلب غفران الذنوب ، وهي الكبائر من المعاصي ثم طلبوا تكفر السيئات ، وهي الصغائر ، ثم طلبوا الوفاة مع الأبرار ، وهم أفاضل الصالحين من عباد الله .
وقوله عز وجل : ( وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) [ البقرة : ٢٥٠ ] ، فنجد في هذه الآية حسن الترتيب حيث طلبوا أولاً : ( إفراغ الصبر على قلوبهم عند اللقاء ، وثانياً : ثبات القدم والقوة على مقاومة العدو حيث أن الصبر قد يحصل لمن لا مقاومة له ، وثالثاً : العمدة والمقصود من المجازبة وهو النصرة على الخصم حيث إن الشجاعة بدون النصرة طريق عتبته عن النفع خارجة .
* الباحث بالجامعة الإسلامية للعلوم والتكنولوجيا ، اونتي بوره بلوامه كشمير ، البريد الإلكتروني : beigbilal@gmail.com
[1] الإتقان في علوم القرآن ، لجلال الدين السيوطي ، ج ٢ ، ص ١٣٦ .
[2] جواهر البلاغة ، للسيد أحمد الهاشمي ، ص ٣٧٩ .
[3] في ظلال القرآن ، لسيد قطب ، ج ١ ، ص ٥٤٧ .
[4] جواهر البلاغة ، للسيد أحمد الهاشمي ، ص ٣٧٧ .
[5] معجم البلاغة العربية ، لبدوي طبانة ، ص ١٤٠ .
[6] المنار في علوم البلاغة ، للدكتور محمد علي الحسن ، ص ٦٠٥ .
[7] المصدر نفسه ، ونفس الصفحة .
[8] البديع في نقد الشعر ، ابن منقذ ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، ص ١٢ .
[9] جواهر البلاغة ، للسيد أحمد الهاشمي ، دار المعارف ، بيروت ، ص ٣٦٣ .
[10] إعراب القرآن الكريم وبيانه ، لمحي الدين درويش ، ج ١ ، ص ١٩ .
[11] البلاغة العربية أسسها وفنونها ، لعبد الرحمن الحنبكة ، ص ٥٠٣ .