أعمال الإنسان في الدنيا والآخرة

معاني الإسراء والمعراج العميقة ومراميها البعيدة
فبراير 7, 2023
أوربا وإخفاقها في إسعاد الإنسان
مارس 14, 2023
معاني الإسراء والمعراج العميقة ومراميها البعيدة
فبراير 7, 2023
أوربا وإخفاقها في إسعاد الإنسان
مارس 14, 2023

التوجيه الإسلامي :

أعمال الإنسان في الدنيا والآخرة

سماحة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي

تعريب : محمد فرمان الندوي

الخالق الحقيقي :

يدعوالأنبياء أممهم إلى هذه الحقيقة أن الله هوالخالق الحقيقي ، ويقولون لهم : لا تنظروا إلى قدرة الله نظرة ازدراء وسخرية ، هذه هي حقيقة واضحة في رابعة النهار ، فإذا لم تؤمنوا بها لحقت بكم خسارة الدنيا والآخرة ، وأنتم تعتقدون اليوم أن كل ما دون الله يؤثر في أعمالكم ونشاطاتكم ، لكن الواقع أنه لا يحمل شيئاً من التأثير ، وكيف تظنون أن تمثالاً من حجارة يضركم وينفعكم ، واعلموا أن الله هو مالك كل شيئ ، وهو الذي خلق كل شيئ ، ومنح الإنسان نعماً كثيرةً ، ورزقه نعمة الحياة ، وما يوجد في الحياة من متطلبات وحاجات ، فهو يراقب عليها مباشرةً ، الحقيقة أن الإنسان إذا اعتقد أن الله هو الفاعل الحقيقي في كل شيئ فلا يعصيه ، ونحن في هذه الحياة الدنيا نخاف من الشرطي ، والضابط الرسمي ، لأننا نعلم أنه يفعل ما يشاء حسب إرادته ، ولا يبالي بما نحمل من كفاءات ومواهب ، فلا يمكننا أن نخرق قانون البلاد ، ولا نعصي أمر رئيس المديرية أو ضباط الأمن .

فالله عز وجل إذا رأى من عباده الصالحين عملاً حسناً قام بتغيير يسير في نظام الدنيا ، لئلا يصاب عباده بأذى في الدنيا ، فيبدل الله ذلك الشر بالحسنة ، ذكر الله تعالى قصص بعض عباده في سورة الكهف ، وأخبر من خلالها وهو يخاطب الناس : اعلموا أن كل ما يكون في هذه الدنيا يكون وراءه قدرة الله تعالى ، فلا بد للعباد أن يرضوا الله تعالى ، وإلا تعود عليهم في الآخرة خسارة فادحة ، وذكر القرآن الكريم أن الآخرة لا ينفع فيها بيع ولا خلة ولا شفاعة ، فكيف ينجو الإنسان من عذاب الله تعالى ، ولا يكون هناك تغيير في نظام الله تعالى ، وكل ما يمكننا من الإيمان والعمل الصالح هو في هذه الدنيا ، ورزقنا الله هذه الحياة لنعمل فيها عملاً صالحاً ، ونستحق الجنة ونعيمها ، وإذا لم يكن عندنا عمل لا نجد شيئاً مما أعده الله لنا في الجنة لعباده الصالحين .

أرض الحشر :

لم يخلق الله أرض الحياة الأخرى مثل أرض الدنيا ، فقد أودع الله فيها من الأشياء التي يحتاج إليها الإنسان ، وهذه سنة الله في الأرض أن الإنسان إذا بذل جهده في حرثه ، أو غرس شيئاً أو زرع زرعاً أنبته الله نباتاً حسناً ، وأخرج له ثماره ، وإذا أنزل الله مطراً تناول منه الإنسان الماء لحرثه ، وهذا كله من الله ، لتبقى حياتنا ، لكن أرض الآخرة ليست كذلك ، وتكون أرض الآخرة جرزاً ، فلا ينبت فيها شيئ ، لا شجر ، ولا ظل ، ولا تصلح هذه الأرض أن نزرع فيها ، ولا يكون هناك لباس يلبسه الإنسان ، ويكون جميع الناس عُراةً بدون ثياب ، فإنهم حينما يُبعثون من قبورهم لا يحملون شيئاً يلبسونه ، قالت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله ! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : يا عائشة ! الأمر أشد من أن يهمهم ذلك ( صحيح البخاري ، كتاب الرقاق ، باب كيف الحشر : 6527 ) .

ويكون الناس يوم القيامة في ساحة الحشر في حيرة ودهشة ، يفر بعضهم من بعض ، ولا ينظر رجل إلى امرأة ، كل يقول : نفسي ، نفسي ، وتكون حرارة الشمس أشد ما يمكن ، بل تكون الشمس فوق الرؤوس ، والناس يتصببون عرقاً ، لا يجدون ماءاً للشراب ، ولا مكاناً للجوء إليه ، ولا يجدون مواسياً ولا محامياً ، ويظهر العجز والمسكنة من كل إنسان : رجلاً كان أو امرأةً ، حراً كان أو عبداً .

تذكرة وموعظة :

ورد في القرآن والحديث بكل وضوح أن ساعةً حاسمةً ستأتي في الآخرة أمام الإنسان ، فيؤخره الله في الدنيا إلى أجل مسمى ، ويمنحه هذه الحياة الدنيا ، فعليه أن يستعد للآخرة ، فإن الله جعل الدنيا مزرعةً للآخرة ، وكل ما يعمل في هذه الدنيا يحصد نتيجته في الآخرة ، كما أن الإنسان إذا غرس شجراً ، أو زرع زرعاً وجد ثماره ، كذلك إذا عمل عملاً في هذه الدنيا وجد جزاءه في الآخرة ، إما في صورة قصر أو في صورة بيت ، وقد ورد في الحديث قال صلى الله عليه وسلم : من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة ( سنن الترمذي ، أبواب الدعوات ، باب من قال سبحان الله ، رقم الحديث : 3800 ) ، وقال في حديث آخر : ما من عبد يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعةً تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة ( صحيح مسلم ، كتاب صلاة المسافرين ، باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض : 1729 ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ما من عبد مسلم توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى لله كل يوم إلا بنى الله له بيتاً في الجنة ( صحيح مسلم ، كتاب صلاة المسافرين ، باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض : 1729 ) ، وقال : من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة ( صحيح مسلم ، كتاب الزهد والرقائق ، باب فضل بناء المساجد : 7661 ) .

النية أهميتها والحاجة إليها :

فالشرط الأساسي للأعمال الأخروية التي ورد ذكرها في الأحاديث المذكورة أعلاه هو أن يكون كل عمل لابتغاء وجه الله ، ولا يكون فيه حظ للنفس والشيطان ، ولا يهدف العمل إلى سمعة أو صيت حسن ، ولا نفع عاجل ، هذا العمل صعب إلى حد كبير ، وليس سهلاً ، ولا يبني الله بيتاً في الجنة بدون عمل خالص لوجه الله ، بل لا بد له من نية صالحة ، نحن نصلي ونصوم ، لكن جُعل مدار عباداتنا على النية ، فالإنسان يُجزى على عمله حسب نيته ، فإن الصلاة وإن كانت في الظاهر جميلةً ومؤثرةً ، لكن إذا كان في النية زيغ أو شائبة دنيوية ، فلا تحصل لها فائدة ونفع ، لأن الله يرى قلب كل إنسان ، فالامتحان الحقيقي لهذا القلب ليس بظاهر الجسم ، لأن الظاهر علامة وهيكل لرؤية الآخرين ، فلا بد من تزكية الباطن ، فعلى سبيل المثال إذا كان هناك رجل يساعد أحداً فيمكن أن يساعده لينال فوائد دنيويةً ، أو يساعده لأنه أحسن إليه ، أو يساعده لمجرد إنسانيته ، وهذه الغاية الأخيرة لها شأن كبير ، لكن إذا ساعده لمصلحة دنيوية لم يحصل له أجر ولا ثواب .

وقد جاء في الحديث النبوي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد ، فأتي به فعرفه نعمه ، فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال : كذبت ، ولكنك قاتلت لأن يقال : جريئ ، فقد قيل ، ثم أمر به ، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل تعلَّم العلم ، وعلمه ، وقرأ القرآن ، فأتي به ، فعرفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها قال : تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن ، قال ، كذبت ، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم ، وقرأت القرآن ليقال : هو قارئ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسُحب على وجهه ، حتى ألقي في النار ، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله ، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملتَ فيها ، قال : ما تركتُ من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك ، قال : كذبت ، ولكنك فعلت ، ليقال : هو جواد ، فقد قيل ، ثم أمر به ، فسحب على وجهه ، ثم ألقي في النار       ( صحيح مسلم ، رقم الحديث : 1905 ) .

يدل هذا الحديث على أن الأصل في الأعمال هي النية ، فكل ما نعمل من عمل ، إن كان ذلك العمل لابتغاء وجه الله فيحمل قيمةً وقدراً ، ويكون له تأثير في الآخرة ، بحيث يبني الله بيتاً ، أو يجري نهراً ، أو يشيد قصراً ، أو يهيئ أنواعاً من الفواكه والثمرات ، لكن هذا كله نتائج الأعمال الدنيوية ، ولا يسمح للإنسان في الآخرة بأن يعمل عملاً يستحق به النعم الأخروية ، فأعمال الدنيا هي ثمرات الآخرة ، ولا يمكن لإنسان أن يعمل في الآخرة ، فكل من عمل في الدنيا من عمل وجد جزاءه في الآخرة .

قدرة الله التامة :

تدل سورة الكهف على أن الإنسان يعتقد الدنيا غايةً ونتيجةً ، رغم أن الأمر ليس كذلك ، فالدنيا تفنى وتبيد ، وما يرافق الإنسان إلى الآخرة هو عمله ، فإذا كان عمله حسناً نال مكاناً حسناً في الآخرة ، وإذا كان بالعكس كان مصيره إلى النار ، فأخبره الله في آيات هذه السورة بأن يؤمن بكل ما أمر به الله ، ولا ينخدع من هذه الدنيا الفاتنة ، وقد ضرب الله أمثلةً لبيان هذا الواقع ، وكشف عن قدرته الكاملة في ضوء قصص الأنبياء ، قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْيِـى ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )     ( البقرة : 260 ) ، بيّن الله تعالى في هذه الآية كمال قدرته ، وذكره في القرآن الكريم لينتبه الناس من غفلتهم ، فلا يُطلع الله على أمثال هذه الصور والأشكال كل إنسان ، فإنه أطلع على هذا الواقع سيدنا إبراهيم عليه السلام ، الذي كان أكمل الأنبياء إيماناً وتصديقاً ، ليطمئن قلبه وينشرح صدره .

لفتة خاصة :

أمر الله في القرآن بالإيمان بالغيب ، ومعنى الإيمان بالغيب هو الإيمان بالله بدون دلائل ظاهرة ، لأن الله أمر به ، وقد وصل هذا الأمر إلى الإنسان بواسطة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق ، فكان قول النبي قول الله تعالى ، وقول الله لا مجال فيه للشك والريب ، فإذا أحرق أمام الإنسان نار ، وقيل له : ستُطرح فيها فيهرب ويفر منها ، لأنه يؤمن بأنه إذا طرح فيها احترق ، فكان فراره بإمكان أننا سنطرحه في النار ، لكن إذا ذُكرت أمامه نار جهنم فلا يتأثر شيئاً ، كذلك إذا ذُكر أمامه أن ما يأكل في صورة الربا هو النجاسة فلا يشعر به ولا يلتفت إليه ، ويأكله هنيئاً مريئاً ، لكن الربا يظهر يوم القيامة في صورة النجاسة ، ويتشكل في شكل لم يكن مثله في الدنيا ، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج أنواعاً من عذاب الله ، فلما سأل جبرئيل عنها ، أجاب : هذه عقوبات أعمال دنيوية .

وقد ثبت من السنة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بعض المعذبين ليلة المعراج ، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواماً ترضخ رؤوسهم بالصخر ، وكلما رضخت عادت كما كانت ، ولا يفتر عنهم من ذلك شيئ ، فسأل : من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هم قوم تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة ( الخصائص الكبرى للسيوطي : 1/284 ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ثم مضيت هنية فإذا أنا بأخونة يعني الخوان المائدة التي يؤكل عليها لحم مشرَّح ، ليس يقربها أحد ، وإذا أنا بأخونة أخرى عليها لحم قد أروح ونتن ، عندها أناس يأكلون منها ؟ قال : هؤلاء من أمتك يتركون الحلال ويأتون الحرام ( دلائل النبوة للبيهقي : ج 2/ 392 ) ، قال : ثم مضيت هنية فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت ، كلما نهض أحدهم خرّ ، فقلت : يا جبرئيل ! من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك الذين يأكلون الربا ( دلائل النبوة : 2/392 ) .

يتجلى من دراسة هذه الأحاديث أن كل عمل من أعمال الدنيا يقدر بالنسبة إلى النية ، وهو يظهر في صورة مادية في الآخرة ، وقد ابتلى الإنسان بإخفائه في الدنيا ، ليعلم أنه يؤمن بالله أم لا ، أو يعتقده رازقاً أم لا ، ويعتبره خالقاً ومالكاً أم لا ، وأن الآخرة بيديه .

عقيدة منكري الآخرة :

فالذين لا يؤمنون بالآخرة ليسوا بمؤمنين ، لأنهم يعتقدون أن كل شيئ يكون في الدنيا ، ولا علاقة له بالآخرة ، والواقع أن فكرة الآخرة إذا لم تكن لا يكون الإنسان ناجحاً ، يمكن أن لا تظهر مضار فكرة رفض الآخرة في الدنيا ، لكن الآخرة خير وأبقى ، فيظهر فيها كل شيئ ، وقد وضع الله كل شيئ في الدنيا للابتلاء والاختبار ، فيتمتع الإنسان في الدنيا ، ويفرح على سيئاته ، ويمرح في المعاصي ، لأنه يجد فيها لذةً وتسليةً ماديةً ، وإذا قيل له : اشتغل بآخرتك فيقول بدون كلفة : سننظر ماذا يكون في الآخرة ، معنى ذلك أنه لا يؤمن بالآخرة حق الإيمان ، فلو آمن بالغيب ما تكلم بمثل هذا الهراء .

معنى الإيمان :

معنى الإيمان أن الله واحد ، وبيديه كل شيئ ، وليس بينه وبين الإنسان وسيط ، فإنه يرى كل شيئ مباشرةً ، وهو يملك قدرةً كاملةً على المحسنين والمسيئين ، فالذين يتورطون في المعاصي ، ويصرون على اقترافها ، ويتقحمون في نار جهنم ، فكانت سنة الله فيهم أنه يمهلهم ، ويُملي لهم ، ويجمع لهم الوسائل والفرص للتوغل في الحرام ، لتكون أعمالهم حجةً عليهم ، ولئلا يقولوا : ما جاءنا من بشير ولا نذير ، وقد استعمل الله لأمثال هؤلاء : كلمة الاستدراج ، والإملاء والإمهال ، قال تعالى : ( وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ . وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ ) ( الأعراف : 182 – 83 ) ، وقال : ( فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ ، أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً )         ( الطارق : 17 ) .