الظاهر والباطن في الكون
يناير 9, 2023أعمال الإنسان في الدنيا والآخرة
فبراير 7, 2023التوجيه الإسلامي :
معاني الإسراء والمعراج العميقة ومراميها البعيدة
بقلم الإمام الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله
لم يكن الإسراء مجرد حادث فردي بسيط ، رأى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات الكبرى ، وتجلت له ملكوت السماوات والأرض مشاهدةً وعياناً – بل زيادةً إلى ذلك – اشتملت هذه الرحلة النبوية الغيبية على معان عميقة دقيقة كثيرة ، وإشارات حكيمة بعيدة المدى ، فقد ضمت قصة الإسراء وأعلنت السورتان الكريمتان اللتان نزلتا في شأنه ، وتسمى سورة ( الإسراء ) وسورة ( النجم ) أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو نبي القبلتين ، وإمام المشرقين والمغربين ، ووارث الأنبياء قبله ، وإمام الأجيال بعده ، فقد التقت في شخصه وفي إسرائه مكة بالقدس ، والبيت الحرام بالمسجد الأقصى ، وصلى الأنبياء خلفه ، فكان هذا إيذاناً بعموم رسالته وخلود إمامته وإنسانية تعاليمه ، وصلاحيتها لاختلاف المكان والزمان ، وأفادت هذه السورة الكريمة تعيين شخصية النبي صلى الله عليه وسلم ووصف إمامته وقيادته وتحديد مكانة الأمة التي بعث فيها وآمنت به ، وبيان رسالتها ودورها الذي ستمثله في العالم ، ومن بين الشعوب والأمم .
الإسراء والمعراج :
أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى [1] ، ومنه إلى ما شاء الله من القرب والدنو ، والسير في السموات، ومشاهدة الآيات ، والاجتماع بالأنبياء : ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى ) [2] . فكانت ضيافةً كريمةً من الله ، وتسليةً وجبراً للخاطر ، وتعويضاً عما لقيه في الطائف من الذلة والهوان ، والجفاء والنكران .
فلما أصبح غداً على قريش فأخبرهم الخبر ، فأنكروه ذلك ، واستعظموه وكذبوه ، واستهزأوا ، وأما أبو بكر فقال : والله لئن كان قاله لقد صدق ، فما يعجبكم من ذلك ؟ فوالله إنه ليخبرني أن الخبر يأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار ، فأصدقه ، فهذا أبعد مما تعجبون منه [3] .
وجاء الإسراء خطاً فاصلاً بين الناحية الضيقة المحلية الموقتة ، وبين الشخصية النبوية الخالدة العالمية ، فإن كان الرسول – عليه الصلاة والسلام – زعيم أمة ، أو قائد إقليم ، أو منقذ عنصر ، أو مؤسس مجد ، لم يكن في حاجة إلى الإسراء والمعراج ، ولم يكن في حاجة إلى سياحة في عالم الملكوت ، ولم يكن في حاجة إلى أن تتصل بسببه الأرض بالسماء اتصالاً جديداً ، لقد كان له في أرضه التي يعيش فيها وفي محيطه الذي يكافح فيه ، وفي مجتمعه الذي يسعى لإسعاده ، غنى وسعة ، لا يفكر في غيره ، ولا يتجاوز إلى رقعة أخرى من الأرض فضلاً عن السماوات العلى ، وسدرة المنتهى ، وفضلاً عن المسجد الأقصى الذي يبعد عن بلده بعداً كبيراً ، والذي كان في ولاية الديانة المسيحية وحكومة الأمة الرومية القوية .
وجاء الإسراء ، وأعلن أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس من طراز القادة والزعماء الذين لا تتجاوز مواهبهم ، وجهودهم ، ودوائر كفاحهم حدود الشعوب والبلاد ، ولا تسعد بهم إلا الشعوب التي يولدون فيها ، والبيئات التي ينبعون منها ، إنما هو من جماعة الأنبياء والرسل الذين يحملون رسالات السماء إلى الأرض ، ويحملون رسالات الخالق إلى الخلق ، وتسعد بهم الإنسانية على اختلاف شعوبها وطبقاتها وعهودها وأجيالها .
فرض الصلوات :
وفرض الله عليه وعلى أمته خمسين صلاةً في كل يوم ، وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله التخفيف ، حتى جعلها الله خمس صلوات في كل يوم وليلة ، من أداهن إيماناً واحتساباً كان له أجر خمسين صلاة [4] .
تأثير الصلاة في الأخلاق والميول :
للصلاة تأثير في صرف النفس عن الأخلاق الرذيلة ، والفحشاء والمنكر ، والتمتع بالمتعة الرخيصة ، ليس لشيئ آخر بعد كلمة التوحيد ، ولذلك يقول الله تعالى : ( أَتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاة ، إِن الصَّلَاة تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) [ العنكبوت : 45 ] ، وذلك لأنها تصرف صاحبها من جهة إلى جهة ، ومن ذوق إلى ذوق ، ومن طلب إلى طلب ، ومن تفكير إلى تفكير ، ومن سفاسف الأمور إلى معاليها ، وتحبب إليه الإيمان ، وتزينه في قلبه ، وتكره إليه الكفر والفسوق والعصيان ، هذا ، إذا كانت الصلاة حقيقيةً تتدفق بالحياة ، وتفيض بالحرارة والقوة ، ولذلك لما فوجئ قوم شعيب بالدعوة إلى التوحيد ، والفضيلة والتقوى ، والإنكار على ما كانوا فيه من ظلم وبخس وتطفيف ، أقبلوا على حياة شعيب يلتمسون فيها مصدر هذا الانقلاب وهذا الاختلاف ، فقد ولد ونشأ فيهم كابن قبيلة وابن بلد ، والذي يردون إليه طبيعة هذا الخصام والنزاع ، فلم يجدوا في حياته شيئاً أوضح من الصلاة التي كانوا يشاهدونها ، ويتعجبون لحسنها وطولها ، فقالوا : ( يَا شعَيْبُ أصَلوتُك تَأمُرُكَ أَن نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ابَاؤُنَا أَوْ أَن نَفَعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) [ هود : 87 ] .
[1] روى البيهقي عن ابن شهاب الزهري أن الإسراء كان في السنة التي قبل الهجرة ، وروى الحاكم أن الإسراء كان قبل الهجرة لستة عشر شهراً ، واختلفت الأقوال في الشهر الذي أسري به – صلى الله عليه وسلم – فيه ، فقيل : في ذي القعدة ، وقيل : في ربيع الأول ، وقيل غير ذلك ، والمشهور أن الإسراء كان في الليلة السابعة والعشرين من شهر رجب ، وقد اختاره الحافظ ابن سرور المقدسي ، وقد اتفقوا على أنها كانت بعد ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ، ( ملخصاً من كتاب ” خاتم النبيين ” للعلامة محمد أبو زهرة ج 1 ، ص 596 ، الطبعة الأولى 1972م ) .
[2] القرآن الكريم ، سورة النجم ، وكتب الحديث والسيرة .
[3] سيرة ابن كثير ، ج 2 ، ص ٩٦ ، وسيرة ابن هشام ، ق 1 ، ص 399 .
ذهب جمهور أهل السنة إلى أن الإسراء كان بالجسد والروح ، وأن أقوى القراين والدلائل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أعلن ذلك بين قريش فتن بعض الذين أسلموا ، وارتد من ارتد ، كما رواه ابن كثير ، ولو كان بالروح أو رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم ، لما كان في ذلك غرابة ، فالإنسان العادي يرى في المنام ما لا يصدقه الواقع ولا يخطر بخلد أحد ، ولقد ألف الناس في كل زمان ومكان الرؤى الغريبة والأحلام العجيبة ، ولا يسارعون إلى تكذيبها ، وقد روي منها كل غريب ، وشحنت به كتب الديانات وأخبار العظماء والنساك ، ولو كان ذلك مجرد عروج روحي ، أو قصة منام ، لبادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى إخبارهم بأن ذلك وحي أوحي به إليه ، أو رؤيا رآها في المنام ، فضموه إلى ما كانوا يسمعون منه صباح مساء ، من وحي يُوحى إليه وملك يأتيه فيكلمه ، فما أثار ذلك تلك الدهشة التي أثارها والتساؤلات الكثيرة التي بعثها ، فما هو بشيئ جديد بالنسبة إليه .
ومن شاء التوسع في هذا الموضوع وتحقيق ما اشتمل عليه من أسرار وحقائق وحِكم إلهية ، وإشارات لطيفة ، وفوائد تشريعية : في ضوء الكتاب والسنة والعقل السليم فعليه بفصل ” الإسراء إلى المسجد الأقصى ومنه إلى سدرة المنتهى ” في كتاب ” حجة الله البالغة ” ج 2 ، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي المتوفى سنة ١١٧٦هـ ، ص 206 – 207 .
[4] حديث طويل رواه البخاري في صحيحه ، كتاب الصلاة ، باب ” كيف فرضت الصلاة ” .