48/ سنةً
نوفمبر 5, 2022الحسنُ بن الهَيثم – رائدُ البحثِ العلمي
يناير 9, 2023عضو هيئة كبار العلماء وصداقة خمسين عاماً !!
رجال من التاريخ :
فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الفتاح بركة
عضو هيئة كبار العلماء وصداقة خمسين عاماً !!
الدكتور غريب جمعة – جمهورية مصر العربية
ينتشر القول على من يرغب في الحديث عن واحد من أفضل علماء الأزهر الشريف هو شيخي وأستاذي فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الفتاح بركة – رحمه الله – لأن مجال القول في الرجل ذو سعة !!
لذلك إذا تحدثت عن شيئ من كماله فإنما أتحدث عما كنت أشهده المرة بعد الأخرى وأقرأه في وجهه سافراً لا أجد من دونه ساتراً .
لقد شرفت بالتعرف عليه عام 1971م حينما كنت في زيارة للعالم الفاضل الدكتور يوسف الشال – رحمه الله – سكرتير تحرير مجلة الأزهر في ذلك الوقت ، وسرعان ما انقلب التعارف إلى ود ظل ينمو حتى أثمر الصداقة التى يرتاب في وجودها بعض الأدباء ويزعمون أنها ثالث الغول والعنقاء ، ولقد دامت هذه الصداقة خمسين عاماً حتى لقي ربه راضياً مرضياً – إن شاء الله – .
ويعجز القلم في هذا المقام أن يرسم صورةً تمثل أو تكاد تمثل كمال الرجل من كل ناحية – ولا نزكيه على الله – وكل ما يستطيعه القلم هو :
أن يكتب سطوراً تمثل جانباً من خصاله الحميدة وخلقه الوضيئ وأدبه السني الذي كان مشكاةً من هدى النبوة وقبساً من نور القرآن الكريم ، لعل في ذلك عبرةً وذكرى لطلاب الفضيلة والمثل العليا من أصحاب القلوب التقية النقية الطاهرة .
نسبه ومولده وتعليمه ونشاطه العلمي :
هو العلامة التقي المتكلم الجليل الحسيني فضيلة الدكتور الشيخ عبد الفتاح بن عبد الله بن طه بن محمد بركة الأزهري السكندري الدمياطي الذي ينتهي نسبه إلى الإمام الحسين بن الإمام علي رضى الله عنهما .
وُلد بمدينة فرسكور بمحافظة دمياط في العاشر من رمضان سنة 1350هـ الموافق 9 من يناير 1932م في بيت كريم اشتهر بالصلاح والتقوى والتصوف والخلق الكريم .
ونظراً لحب والده للعلوم الدينية فقد ألحقه بمعهد دمياط الأزهرى ثم انتقل إلى المعهد الأزهرى بالقاهرة ثم التحق بكلية أصول الدين حيث حصل على درجة الدكتوراه منها فيما بعد ، وكان موضوع رسالته : ” الحكيم الترمذي ونظريته في الولاية ” .
تدرج في مناصب الأزهر حتى صار أستاذاً للعقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين ثم أميناً عاماً لمجمع البحوث الإسلامية ثم عضواً بهيئة كبار العلماء .
وقد انتدبه الإمام الأكبر الشيخ عبد الرحمن تاج للعمل في مكتبه فترةً من الوقت خلال حياته الوظيفية ، بل أنه اختاره وهو طالب نظراً لإجادته اللغة الإنجليزية ، ليمثل جامعة الأزهر في الوفد المصري المؤلف من شباب الجامعات المصرية الذي سيشارك في مؤتمر شباب آسيا وأفريقيا المنعقد بالعاصمة الصينية ” بكين ” كما سافر بعدها إلى موسكو للمشاركة في مهرجان الشباب المنعقد بها أيضاً .
ثم انتدب مرةً أخرى للعمل بمكتب فضيلة الدكتور / محمود حب الله الأمين العام الأسبق لمجمع البحوث الإسلامية كما اختاره فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود للعمل معه عندما كان وزيراً للأوقاف كل ذلك بالإضافة إلى التدريس بكلية أصول الدين .
أخلاقه وشمائله :
ترحيبه بضيفه وإكرامه له :
أذكر أنني حين ذهبت إلى زيارته أول مرة في منزله بمصر الجديدة طرقت الباب فلما فتح لي شاهدت بشاشةً فطريةً لا تكلف فيها ولا تصنع ، وابتسامة هادئة تملأ نفسك أُنساً وكلمات طيبةً تشعرك كأن الرجل يعرفك منذ سنين !!
ودار الحديث بيننا في أمور كثيرة فلمست في حديثه حضور البديهة وحسن البصيرة وصفاء الذهن وسرعة الخاطر ، تناقشه فتجد نقاء السريرة وسداد الرأى ، وهو يبدي رأيه بكل صراحة دون قلب للأوضاع أو تغيير للحقائق مع احترامه لرأي محدثه ، وإن خالفه تمام المخالفة .
وتسأله فتجد سعة الاطلاع وبعد النظر وغزارة العلم وتوقد العقل وفصل الخطاب .
ولما هممت بالانصراف أصر على أن ينزل معي إلى محطة المترو لأنه يقيم في منطقة نائية ولم يكن العمران كما هو عليه الآن ولا يصح أن يتركني أنتظر بمفردي على محطة المترو .
ثم تكررت الزيارة بعد ذلك ولما يسر الله له اقتناء سيارة أصر على أن يوصلني بسيارته إلى مسكني بالجيزة وظل هذا دأبه حتى أقسمت عليه في إحدى المرات أن يوصلني إلى موقف الدراسة فقط حيث أصبحت المواصلات منها إلى الجيزة متعددة ومتوافرة واستجاب رحمه الله لذلك أمام إصراري عليه .
وهنا سؤال يطرح نفسه : كم من الناس يصنع ذلك مع ضيفه ؟
تواضعه :
على الرغم من علمه وفضله فهو متواضع أشد التواضع ، ولكنه في غير منقصة بل تواضع في حكمة وفي موضعه ، فربما خفض جناحه لذي خلق كريم لا يقيم له أصحاب الجاه وزناً أكثر مما يخفضه لصاحب جاه أو مقام رفيع ، وله في هذا التواضع أصول يمثل فيها شمم العلماء وعزة المؤمنين .
ومن الناس من إذا جلست معه قليلاً من الوقت انطلق كالسهم يحدثك في شيئ من الفخر والمباهاة بما عنده مما يتفاخر به الناس على اختلاف مشاربهم .
أما هذا الرجل فحرام أن تسمع منه كلمةً يَشْتَمُ منها رائحة التفاخر والمباهاة ولو من طريق بعيد .
فعلى الرغم من أنه شريف حسيني كما مر بك لم أعرف ذلك عنه إلا بعد عشرين عاماً !! من صداقته عندما أخبرني به أحد العلماء الذين يعرفونه قبلي بفترة طويلة ولما حدثته عن ذلك ابتسم في هدوء ووداعة وقال : ” إن الله سيحاسبنا على أعمالنا وليس على أحسابنا وأنسابنا ووالدي يحتفظ بسلسلة هذا النسب ولا يغيب عن بالك قوله تعالى : ( فَإِذَا نُفِخَ في ٱلصُّورِ فَلَآ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍۢ وَلَا يَتَسَآءَلُونَ ) ( المؤمنون : 101 ) .
ازدراؤه لمظاهر العظمة الكاذبة :
كان رحمه الله لا يعبأ بمظاهر العظمة الكاذبة والأبهة الزائفة مهما كان شأن أصحابها الذين تهوى إليها أفئدتهم لغفلتهم عن حقيقة الدنيا وإفلاسهم التام مما يرفع أقدارهم في أعين الناس بالحق وكأن لسان حاله يقول : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات : 13 ) .
وفاؤه بالوعد ورعايته للعهد :
أصبح الوفاء بالوعد وصيانته من الإخلاف وحسن رعاية العهد من الأخلاق الضائعة بين الناس في هذه الأيام – إلا ما رحم ربي – وكم يتجرع الناس المرارة تلو المرارة والحسرة بعد الحسرة من جراء ذلك .
وأشهد الله أن هذا الرجل كان مثالاً نادراً للوفاء بالوعد وحسن رعاية العهد حق رعايته مهما كلفه ذلك من وقت أو مال أو مشقة ، والعجب أنه يفعل ذلك وهو راض غاية الرضا .
إصفاء الود لأصدقائه ووفاؤه لهم :
كان رحمه الله يسأل عن أصدقائه ويتفقد أحوالهم ويبذل أقصى ما يستطيع من جاهه ووقته وماله لقضاء حوائجهم وتفريج كربهم وتيسير أمرهم ما دام يستطيع ذلك ، فإن سمع كلمة شكر رد عليها بأن الشكر الحقيقى يجب أن يكون لله الذي أعان على ذلك ويسر سبله .
ولولا ضيق المجال لضربت أكثر من مثل ، ولكني أكتفي بذكر ما حدث معي شخصياً .. حينما مرت بي ضائقة مالية شديدة وأنا أعمل بجدة حيث أنهى صاحب العمل عقدي فجأةً لأنني وقفت منه موقفاً – أرجو أن يكون لله – وهكذا وجدت نفسي بين عشية وضحاها في الشارع بلا عمل ومعي أسرتي ولا نجد ريالاً واحداً في الشهر وقد مكثت على ذلك لفترة ليست بالقصيرة ذقت فيها مرارة الحاجة أشكالاً وألواناً ثم فرج الله الكرب وجعل بعد عسر يسراً .
ولا أستطيع أن أصف شعور الرجل نحوي خلال هذه المحنة وإنما أترك كتابه الكريم الذي جعلته آخر المقال يصف ذلك .
صبره على قضاء الله ورضاه به :
أما عن صبر شيخنا ورضاه بقضاء الله وقدره فقد كان له القدح المعلى في ذلك ، فما رأيته في يوم من الأيام متسخطاً ولا متبرماً .. أقصى ما يقوله : الحمد لله – نصبر ونحتسب .
وكأن لسان الحال يردد ما قاله الفقيه الشافعى الأديب الشاعر قاضي القضاة علي بن عبد العزيز الجرجاني وهو :
فإن لم يكن عند الزمان سوى الذي أضيق به ذرعاُ فعندي له الصبر
وقول أبي إسحاق الغزي :
إذا تضايق الأمر فانتظر فرجاً فأضيق الأمر أدناه إلى الفرج
وإليك هذا المثل : لقد أصيب شقيق له بمرض شديد ورافقته في رحلته مع أخيه لالتماس العلاج عند الأطباء وفي إحدى الزيارات حدد الطبيب المعالج موعد الزيارة الأخرى بعد فترة من تعاطي العلاج الموصوف لمتابعة الحالة ، وذهبت إلى فضيلته في الموعد المحدد بمصر الجديدة ثم انتقلنا إلى شبرا حيث يقيم أخوه مع والده وقبل أن نصل إلى المنزل بقليل طلبت أن يسبقنى حتى يستعد أخاه للذهاب إلى الطبيب ، فقال بأسىً : لقد انتقل إلى جوار ربه بالأمس ولم أخبرك حتى لا أزعجك وكفاك ما قمت به خلال رحلة علاجه وأنا أعرف أنك إذا علمت بهذا الخبر ستقوم بعزاء الوالد في شبرا ولذلك جئت معك إلى هنا حتى لا نشق عليك بمجيئك من الجيزة إلى مصر الجديدة ثم من مصر الجديدة إلى شبرا !!
مكافأته على المعروف ورده التحية بأحسن منها :
أذكر أنني في إحدى الزيارات حملت بعض الهدايا الصغيرة التي يحبها الأطفال ، إلى أطفاله الثلاثة : محمد الذي أصبح مهندساً إنشائياً ، وأحمد الذي يحمل رتبة لواء ويعمل مدرساً بالكلية الفنية العسكرية ، وإيمان التي أصبحت طبيبةً بشريةً أما الدكتورة نهى طبيبة الأسنان فكانت في رحم الغيب .
ولما ذهبت لزيارته بعد تلك الزيارة فوجئت بالأطفال الثلاثة يحملون هدايا يفوق ثمنها أضعاف ما دفعت ثمنا لهداياهم الصغيرة ثم قالوا ببراءة الأطفال الملائكية وصوت الطفولة العذب الحبيب : لو سمحت يا عمي تفضل هذه الهدايا منا ونرجو أن تقبلها فشكرتهم ووالدهم على هذا الشعور النبيل .
ذكاؤه وحياؤه :
كان على درجة كبيرة من الذكاء ويستطيع أن يداري فيبسط وجهاً رحباً ولساناً بالحديث رطباً وليس في استطاعته أن يداهن فيقول : للمسيئ أحسنت ، وللمخطيئ أصبت ، وللمفسد أصلحت ، ولا ينسى الناس كلمته التى ألقاها في حضور الرئيس السابق حسني مبارك حينما زار الأزهر وتعرضه للحرب العراقية الإيرانية ووصفه لها بالحرب ” الحمقاء ” وساق الأدلة على ذلك في جرأة عجيبة وذلك عندما كان أمين عامٍ لمجمع البحوث الإسلامية .
أما إذا منعه حياؤه من أن يصارح جليسه بالخطأ في علم أو رأى فإنه يسلك طريقةً دقيقةً بعيدةً عن المعارضة ولكن ليس من شأنها أن تجر إلى مناقشة وهكذا تصل رسالته إلى جليسه وكأنها قطعة حلوى وليست علقماً يتجرعه ولا يكاد يسيغه وذلك من توفيق الله تبارك وتعالى له .
لماذا أقول أستاذي وشيخي ؟
حينما أقول عن فضيلته أستاذي وشيخي فليس ذلك من فضول القول ولا من التطفيف في كيل المديح والثناء بغير حق وإنما أقوله لأنني وجدت فيه توجيه الأستاذ وود المحب ونصح الأمين ومتابعة الحريص ، حينما كتبت بحثاً بعنوان ” كلمات وكتابات العلامة ابن الجوزي من روائع أدب التربية والمواعظ ” وكان هذا الميدان جديداً علي فأخذ بيدي وأرشدني إلى خطة البحث وإلى المراجع ثم راجع البحث بعد كتابته حتى استوى على سوقه ، وقد شاركت بهذا البحث في الندوة العالمية الأولى للأدب الإسلامي المنعقدة في جامعة ندوة العلماء بمدينة لكهنؤ بالهند عام 1409هـ / 1981م برئاسة سماحة الشيخ العلامة الجليل أبي الحسن الندوي وهو في غنى عن التعريف – يرحمه الله – .
ثم كانت المساعدة الثانية حينما كنت أكتب سلسلةً من المقالات عن الشيوعية ثم أشار علي بجمعها في كتاب ففعلت وصدر الكتاب بعنوان ” انحطاط الفكر المادي ” وكتب له مقدمةً رائعةً – يرحمه الله – أما المساعدة الكبرى فكانت في كتابي بعنوان ” قبس من إعجاز القرآن ” حيث راجعه مراجعةً دقيقةً وكتب له مقدمةً أيضاً وشاركه في ذلك العالم الفاضل الأستاذ الدكتور أمين باشا أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعتي الأزهر وأم القرى جزاهما الله خيراً عن الكتاب وصاحب الكتاب .
آثاره العلمية :
(1) الأخلاق والتصوف
(2) العقيدة وبناء الإنسان
(3) أخلاقيات العلم وأزمة الحضارة الحديثة
(4) تحقيق كتاب آداب المريدين للحكيم الترمذي
(5) تعليقات على العقيدة السنوسية الكبرى
هذا بخلاف الكتب والرسائل والمقالات بالمجلات الإسلامية التي لم تقع تحت أيدينا مع الأسف .
وبعد هذه الحياة المباركة الحافلة بالعلم والعطاء وخدمة الإسلام والمسلمين والمسارعة إلى الخيرات والطاعات استأثرت به رحمة الله فجر يوم الأربعاء 20 من ذي القعدة 1442هـ الموافق 30 من يونيو 2021م .
ورجعت النفس المطمئنة إلى ربها راضيةً مرضيةً وهو يردد قوله تعالى : ( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُون . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) ( يس : 26 – 27 ) .
وبعد ..
فهذه كلمة وفاء لشيخي وأستاذي فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الفتاح بركة وهي غيض من فيض ووشل من بحر ، مما وعته الذاكرة على مدى نصف قرن من الزمان .. إي وربي إنها فيض من غيض ووشل من بحر وما بلغت معشار ما يستحقه ذلك العالم الجليل ، ولكني أرجو أن أكون قد نجحت في تقديم صورة من كماله الذى حباه الله تعالى به ، رفع الله درجته في عليين مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .
دكتور غريب جمعة
بعض ما جاء في خطابة ( بعد الدباجة ) :
عندما وصل خطابكم كنت على وشك الكتابة إليك من شدة قلقي حيث حاولت الاتصال بكم في القاهرة وكلفت أولادي كذلك بالاتصال بكم في القاهرة لأنه لم يصلني منكم رد من السعودية ، ولما لم أجد إجابةً من القاهرة ولا من السعودية شعرت بقلق شديد حتى وصلني خطابكم فأصبحت أكثر رغبة في الكتابة وأكثر عزوفاً عنها ، فالظرف صعب يقتضي الكتابة وشعوري بصعوبة الموقف يجعلني غير مقبل عليها ، ثم يستمر رحمه الله إلى أن يقول :
هذا وأخوكم في سعة من فضل الله ويمكن أن تحددوا لي وسيلةً لإرسال ما ترونه مناسباً من المال حتى تزول هذه الأزمة العابرة بإذن الله تعالى ، وأرجو أن تكونوا وأسرتكم بخير وصحة وعافية وأنا في انتظار إشارتكم وفي انتظار أن نطمئن عليكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
15 من جمادى الأخرى 1411هـ 1/1/1991م عبد الفتاح عبد الله بركة