مقياس الحضارة في المجتمع الإسلامي
يناير 9, 2023معاني الإسراء والمعراج العميقة ومراميها البعيدة
فبراير 7, 2023التوجيه الإسلامي :
الظاهر والباطن في الكون
سماحة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي
تعريب : محمد فرمان الندوي
منهجان لمشئية الله تعالى :
هناك منهجان لتطبيق مشيئة الله تعالى وإرادته : الأمر ، والخلق ، فالمنهج الأول يسير تحت نظام ” كن فيكون ” ، يقول الله تعالى كلمة ” كن ” إذا أراد أن يخلق شيئاً فيكون ذلك الشيئ ، أما المنهج الثاني الذي عبَّر عنه الله تعالى بالخلق ، فهو يسير حسب سنة الله ووسائله المتوافرة من عنده ، وقد كلَّف الله تعالى الناس لاختيار هذا المنهج ، فأكرمهم بنظام الوسائل والأسباب ، وكلف الأنبياء لها ، فكانوا يشاركون في الحروب ويكابدون فيها المشاق ، ثم ينالون الفتح والانتصار ، وإذا صدر في الحروب منهم تقصير واجهوا الفشل والهزيمة ، رغم أن الله تعالى إذا شاء حصل لهم الفتح بمجرد مشيئته ، وأحدث ذلك رعباً في قلوب الكفار ، بحيث إنهم ينهزمون أمامهم ، ولا يحاربونهم ، أو يمكن أن يمنحهم الله قوةً تكسب لهم الفتح بحضورهم في الحروب ، لكن الله تعالى لم يفعل هذا وذاك ، بل أمر الناس باختيار نظام الأسباب ، الذي أجراه في هذه الدنيا ، وأخبرهم بأنه إذا كان هناك تقصير واجه المسلمون من الخسارة كما يواجه الكفار .
حكمة تكليف الإنسان :
خلق الله تعالى الإنسان ، وكلفهم لاختيار الأسباب ، ليرى أعماله ، وإذا أنجز الله كل شيئ ، ولم يصدر من الإنسان عمل ، ويتم كل شيئ من الغيب ، فلا يُعرف من عمل الإنسان هل هو صحيح أم خطأ ، فليس وراء نظام الذرايع إلا أن يختبر الله تعالى إيمان الإنسان وإخلاصه ، ويعرف المخلصين الذين يؤثرون رضا الله تعالى ، على أهوائهم ، وهم مستعدون لتقديم كل نوع من التضحية ، فيجزون وفقاً لهذا الإخلاص ، وإذا لم يثبت عن الإنسان : هل هو صالح أم سيئ ؟ فلا يكون عمل الجزاء ، لأن الله تعالى إذا أنجز كل شيئ من الغيب فلا يستحق الإنسان أن ينال جزاء عمله .
إنه يعلم الجهر وما يخفى :
إن النظام الذي جعله الله وضعه عنده ، وهو نظام يخفى على الناس ، ويسير سيره الطبيعي ، لكن لا يعرف حقيقته أحد ، ويطلع الإنسان على ظاهره ، ويعتبره كل شيئ ، رغم أن الله تعالى يعلم الجهر وما يخفى ، ومثال ذلك أن رجلاً يسعى ويجهد ، ويتعب نفسه ، ويستعمل أعضاءه وجوارحه في إنجاز عمل ما ، فلو رآه أحد ظن أنه مخلص في عمله ، لكن الواقع أن نية ذلك الرجل ما هي ؟ وكيف يعمل هو ؟ لا يعلمه إلا الله تعالى ، وهو مسجَّل عند الله ، فلا يسجل عنده ظاهر العمل ، بل يسجل عنده ما يخفى وراء هذا العمل من نية صادقة أو كاذبة .
ومثال آخر : نحن نصلي بخشوع في الظاهر ويمدح الناس صلاتنا وعبادتنا ، فليس الظاهر هو الأصل ، بل الأصل اللافت للنظر هو أن ما وراء هذه الصلاة من نية ، فإن صلاتنا تأتي أمامنا يوم القيامة في صورة حسنة أو سيئة حسب نياتنا وإخلاصنا ، فعلم منه أن جميع أفعالنا في الصلاة تابعة لإخلاص النية أو إساءتها ، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم : من صلى الصلاة لغير وقتها فلم يسبغ لها وضوءها ولم يتم لها خشوعها ، ولا ركوعها ولا سجودها ، خرجت ، وهي سوداء مظلمة ، تقول : ضيَّعك الله كما ضيعتني ، حتى إذا كانت حيث شاء الله لُفت كما يلف الثوب الخلق ، ثم ضرب بها وجهه . ( المعجم الأوسط : 3095 ) .
الظاهر والباطن :
إن ما يجري في هذا الكون يستمر وفق ما أمره الله تعالى ، وكل ما نعمله في هذه الدنيا هو وجه ظاهر لهذا النظام ، وهو ما نراه ، ويدخل فيه عملنا ، لكن هناك نظاماً باطناً ، لا يعلمه إلا الله تعالى ، وهو الذي يقدر على تغييره وتبديله ، كما يظهر من قصة موسى والخضر عليهما السلام ، كسر الخضر عليه السلام جزءاً من سفينة الأجراء ، فيخيل للناظر إليه أن الخضر كسر سفينةً جديدةً وجميلةً ، لكن نظام الباطن يدل على أن الخضر أراد تفادي هذه السفينة من الملك الغاصب ، كذلك في قرية لم يستضفهما أهلها ، أقام الخضر عليه السلام جداراً ساقطاً فيها ، كان في الظاهر عملاً حسناً ، لكن ما هو الهدف وراءه ، ولماذا فعله الخضر عليه السلام ، وليس لأحد علم بهذا ، هذا هو العمل الحكيم الذي إذا لم يخبر به الخضر سيدنا موسى عليه السلام ، لم يطلع عليه ، وكان موقوفاً عنده ، ذكر الله هذه القصة في القرآن الكريم أنه ليس كل شيئ في اختيار الإنسان ، ولا يمكن أن يطلع على تفاصيل الكون ، وقد خيَّره الله تعالى لإدارة نظام الكون الظاهر ، وإذا كان فيه شيئ يكرهه استبدله الله بشيئ أحسن منه ، فليس من الواجب فيه أن يطلع الإنسان على حكمة التغير والتبدل .
غاية النظام الدنيوي :
بعث الله تعالى الإنسان إلى هذه الدنيا للامتحان ، فجعل نظام الدنيا في صورة ينخدع منها الإنسان ، حتى إذا لم تكن نيته صالحةً يصاب بسوء الظن ، مثال ذلك أن حب الدنيا تغلغل في أحشاء الناس ، وضعفت فيهم فكرة الآخرة ، فلم تكن عندهم فرصة لترقب الآخرة ، وقد سرى هذا المرض في الطبقة الارستقراطية إلى حد لا بأس به ، ولم يخطر ببالهم أبداً ما ذكر الله تعالى من أمور الآخرة في القرآن الكريم ، الواقع أن الإنسان إذا وضع نصب عينه فكرة الآخرة حرم لذة الطعام والشراب ، وزال عنه رواء المادية وبهجتها ، ومعلوم أن الإنسان إذا عرف أن هناك حياةً يجزى فيها الإنسان على سوء أعماله ، ويوفر له من الطعام العفن ، فكيف تكون حياته مطمئنةً ، لا يهنأ له عيش ، ولا يمرأ له طعام ، لكن الإنسان لا يفكر شيئاً في شئون الآخرة ، وإذا تناول فكرة الآخرة وفكر فيها لحظة اعتبر من رجال الدين والصلاح .
سيطرة على نظام العالم :
إن ما ذكر الله في هذه السورة من قصص ، تدل على أن نظام العالم لا يجري بإدارة الناس ، ولا بتدابيرهم ، وإن كان الله قد أمر الناس باختيار التدابير ، لكن لا بد للإنسان أن يفكر من هذه الناحية أن هذه التدابير كلها بيد الله تعالى ، وكل ما يقع في هذا العالم يقع بأمره ، فيخطئ كل من يعتقد أن الله تعالى خلق العالم ثم استراح ، أو خلق العالم ووكله إلى آخرين ، هذه الفكرة تنشأ في أذهان الناس عامةً ، لأن النائبين في الحكومات والإمارات ينجزون عامةً جميع الأعمال ، ويكون بأيديهم كل شيئ من أمور الحكومة ، لكن نظام الله لمختلف جداً من النظام الدنيوي ، ليس بينه وبين الإنسان وساطة ولا وسيلة ، كل إنسان يتصل مباشرةً بالله ، حتى الأنبياء ليسوا وسائط بين الله وعباده ، وقد أُمر كل عبد أن يسأل الله عز وجل جميع ما يريد ، فالله تعالى رحيم وكريم ، يسمع كلام كل إنسان ، ويمد هؤلاء وهؤلاء من عطائه ، وقد جعل الله للسؤال منه أكبر وسيلة ، وهو الدعاء ، فعلى كل من يريد إنجاز أمر أن يسأل الله عز وجل ، ولا يتسكع في غياهب الظلام ولا يعتقد عن الآخرين أنهم يحملون قوةً وتأثيراً مثل الله تعالى ، وليعلم أن الأمة لا تستطيع أن تضر أحداً إذا لم يشأ الله تعالى ، ومعلوم أن كل شيئ في هذه الدنيا يتم بنظام وترتيب ، فالله تعالى يوجه الإنسان إلى هذا النظام ، فليس معنى ذلك أن هذا النظام مؤثر للغاية ، بل خلق الله هذا النظام ، وهدى الإنسان إليه ، وهو يعرفه بعقله وتجربته ، فلا بد من استحضار هذا الفرق أن نظام الذرائع في جانب ، وأمر الله تعالى في جانب آخر ، ويكون قضاء الله تعالى في كل ذريعة ، وتكون الذريعة تابعةً لقضائه .
مخلوقات الله تعالى :
الماء والهواء خلقهما الله تعالى ، فإذا زادهما من مقدارهما كانا مصيبةً ، وإذا نقص منهما ماتت المخلوقات عطشاً ، وقد ورد عن الماء والسحاب أن الله يأمر الملائكة ، فيذهبون بالسحاب وتمطر السحاب حيثما شاء الله ، لكننا نظن أن السحاب جاء فجاءةً ، وأمطر الماء ، أو نظن أن المطر نزل بالفصول السنوية ، رغم الله تعالى هو الذي قرَّر كل شيئ من عنده .
ابتغاء وجه الله تعالى :
أخبر الله تعالى الإنسان في ضوء القصص القرآنية أنه إذا قضى حياته ابتغاء مرضاة الله حالفه نصر من الله ، وبارك في علم الوسائل والأسباب ، أي أن شيئاً قليلاً كفى لكثير من الناس ، وتتبدل الأوضاع ، والله قادر على أن يبدِّل الأوضاع بدون وسيلة ، هذا ما نسميه معجزةً أو آيةً من الله ، ولا تنزل المعجزات عامة ، لأن هذه الدنيا دار امتحان ، وقد جعل الله الإنسان تابعاً للوسائل لمعرفة مدى إيمانه بالله وتوكله عليه ، وأحياناً يرى الإنسان أن وسيلةً فلانيةً تناسب لهذا العمل ، وأن رجلاً فلانياً أجدر به ، أو أن دواءً خاصاً أنسب لهذا المرض ، أو أن طبيباً أصلح في معالجة هذا المرض ، ورغم ذلك كله إذا اعتقد إنسان أن الله تعالى هو الفاعل الحقيقي ، وهو الذي أودع فيه تأثيراً ونفعاً ، وهو الذي دبَّر الأمور كلها ، ولا يزال يدبر أفلح ونجح في الامتحان .
ليس من الميسور أن ينجح الإنسان في اختباره عند السراء والضراء ، إذا كانت الأحوال معقدةً صعب على الإنسان العمل بمتطلبات الإيمان ، وإذا كانت سهلةً وقع الإنسان في حبالة الوسائل والأسباب ، وضعف إيمانه ، واعتقد أن النظام كله يجري على أساس الوسائل ، لأنه تابع بذاته للأسباب ، مثال ذلك لو أن رجلاً ادعى أنه يسوق سيارته بدون النفط أو البنزين ، فلا يمكن ذلك ، وإن اشتغل بالدعاء ، لا تتحرك السيارة ولا الدراجة ، فالإيمان يتطلب منه أن يؤمن بقدرة الخالق المطلق ، ويؤقن بأن الله قادر على إحداث أمر خرقاً للعادة ، فإذا شاء ساق السيارة بدون النفط ، وكل نظام بيده ، فإذا علمنا عملاً لابتغاء مرضاة الله تعالى ، حصل لنا نصره وتأييده من الغيب على أحسن صورة ، وإذا ارتكبنا معصيةً فإنه يؤاخذنا في الآخرة التي هي دار الحساب ، ونحن نصرخ ونصيح ، لكن لا يُسمع كلامنا ، بل يقال : ذوقوا بما كنتم تعملون ، ذكر الله تعالى في القرآن الكريم مراراً وتكراراً هذه الحقائق لئلا ينخدع الإنسان من الوسائل الظاهرة .
لا تنخدعوا من الظاهر :
إذا رأى الإنسان من ظاهر عينيه خُيل إليه أن كل ما حدث ويحدث في العالم يجري من دون إله ، على أساس الأسباب الدنيوية ، وهذا ما يتجلى من ظاهر الأمر ، مثال ذلك إذا ضربت أحداً شعر بألم ، ويقال : ضربه أحد فأصيب به ، لكن لماذا ضرب ، ومن الذي أمره بالضرب ، فامتثل لأمره ؟ فإذا لم تكن هذه الصورة ظن الإنسان أنك ضربته بنفسك ، لكن يمكن أنك لم تضربه بنفسك ، بل ضربته بأمر من سيده ، فإذا ظننت أن الضارب يضرب بنفسه ، كنت ساخطاً عليه ، وإذا ظننت أن رجلاً أمره بضرب أحد ، فازداد غضبك عليه .
مثال آخر أن فلاناً أهدى إلى شخص هديةً ، وذلك بأمر من رجل ، أو أعطاه أحد لإيصاله إلى أحد ، فيظن المهدى إليه أن هذا الرجل يهدي إليه ، فيكون شاكراً له ، لكن إذا علم أنه لا يهدي إليه بنفسه ، بل هو واسطة بينهما ، فلا يكون المهدي إليه شاكراً للواسط .
إن نظام العالم يجري بهذا الترتيب ، وكل شيئ يكون بأمر من الله ، لكن الله تعالى جعل له وسائل وذرائع ، ونحن ننظر إليها ، ولا ننظر إلى الله ، فنظن أن كل شيئ يجري بالوسائل والذرائع ، أي نعتبر الوسائل أصلاً وغايةً ، والله هو الخالق والمالك لهذا الكون ، لكن الله أخفى هذا الأمر ، ليبلو الإنسان ، وإذا علم الإنسان أن كل شيئ من الله ، واعتقد به اعتقاداً جازماً ، ما عصى الله قط ، وإذا علمنا نحن وآمنا به ما عصيناه ، لأن هذه حقيقة أن إنساناً لا يدخل في النار بنفسه ، وهو يعلم أن النار تحرقه ، فالعلم هو الأصل ، وقد أخفاه الله تعالى ، وكان هذا الإخفاء ليؤمن الإنسان بقول النبي المرسل ، ويعتقد أن كلامه حق ، فإذا لم يؤمن الإنسان بالنبي ولا بكلامه ولا بنبوته ، وما قال النبي من أن الإنسان يحاسب في الآخرة ، فليكن مستعداً لمحاسبته ، فإذا كان عمل الإنسان وفق شريعة الله كان حسابه سهلاً ، وإذا لم يكن كذلك خسر خسارةً كبيرةً ، فإذا لم يؤمن الإنسان بهذه الأمور لا يكون إيمانه كاملاً .
وقال الله تعالى في القرآن الكريم : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) ، لا شك أن الإنسان إذا آمن بهذا الواقع لا يأثم ولا يذنب ، لكن لا يؤمن الإنسان به فيكون مرتكباً للمنكرات والفواحش ، وقد أرسل الله الأنبياء والرسل لبيان هذه الحقيقة ، فينظر الله إلى الإنسان : هل دخل في عقله هذا الاعتقاد ، أو تغلغلت وسائل الدنيا فيه ، فلو وضع إنسان إصبعه على سكين ، وكان السكين في يد إنسان آخر ، فأيقن بأنه إذا حرَّك السكين قطعها ، لكن إذا لم يضع إصبعه عليه ، بل يهدده صاحب السكين بقطع إصبعه فلا يؤقن بكلامه ، فإذا لم يكن عند الإنسان يقين وإيمان لا يكون مطيعاً كاملاً لأوامر الله تعالى ، وقد جعل الله تعالى هذه الدنيا زينةً لها ، ليمتحن الإنسان ، قال تعالى : ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ) ( الكهف : 7 ) ، ومعنى زينة الحياة الدنيا هو أن ننظر من أن يعمل الإنسان عملاً صالحاً رغم مغريات الدنيا ، ويطيع الله إطاعةً كاملةً ، والدنيا مملوءة باللذات والمنافع والشهوات في جانب ، وفي جانب آخر أمر الله عز وجل ونظامه المحكم ، وذلك ليعرف من يقع فريسةً للشهوات ، ومن يعبد الله تعالى .