قدرة الله وقوته في الكون
نوفمبر 5, 2022الظاهر والباطن في الكون
يناير 9, 2023التوجيه الإسلامي :
مقياس الحضارة في المجتمع الإسلامي
بقلم : فقيد الدعوة الإسلامية الأستاذ محمد الحسني رحمه الله
هذه الناطحات للسحاب ، وتلك المباريات للريح ، وهذه الخافقات في السماء ، والسابحات في الماء ، وهذه الأنوار المتلألئة البديعة والألوان الرائعة البهيجة ، وهذه الأصوات المحمولة على جناح الأثير ، والصور الحية المتحركة على الشاشة ، وهذا المقعد المريح ، والفراش الوثير ، والطعام اللذيذ ، والزي الأنيق ، وهذه الابتسامة المتكلفة ، والمشية المتبخترة ، وهذه الأجساد العارية الكاسية ، والنزوات الثائرة العاتية ، وهذه الحرية الكاملة في طريق الشهوات الفتية الجامحة ، ليست ” حضارة ” ، إنما هي مظهر طبعي ، ومظهر برئ ، ومظهر صادق ، للروح المستورة وراء هذه المظاهر ، والصور والأشكال .
إنها ليست حضارةً أبداً ، وإنها ليست نهضةً أبداً .
فالعبرة دائماً – وفي جميع الأحوال والملابسات – باليد العاملة من وراء ستار ، وبالروح الآمرة الناهية المتصرفة في خفاء ، ومن وراء جدار .
عندنا في الشرق – وفي الشرق الإسلامي بوجه أخص – خلط والتباس عجيب في مفهوم الحضارة و ” النهضة ” ، إن مداركنا لهذه ” الحضارة ” لا تختلف كثيراً عن مدارك الرجل الغربي للحضارة ، إننا لم نستطع أن نفرق بين اللب والقشر ، وبين الوجه المستور والوجه المكشوف ، وبين الصورة والحقيقة ، وبين القيم الراسخة في النفس ، الغارقة في الأعماق ، وبين هذه المظاهر المبعثرة على وجه الأرض ، المنتشرة في الآفاق .
الحضارة ليست ذلك الكرسي الذي نجلس عليه ، والقلم الذي نكتب به ، والإناء الذي نشرب منه الماء ، إنما هو ” الشخص ” الذي يستعمل هذا وذاك لغرض خاص وعاطفة خاصة ، وروح لا تنفك عنه لأي لحظة من اللحظات ، فإذا كانت هذه الروح روحاً قدسيةً وروحاً طيبةً وروحاً نظيفةً جلس يذكر الله ، وراعى أثناء الشرب أن لا يكون حراماً ، وحمده على هذه النعمة ، وشكره على هذا الخير .
وإذا كانت هذه الروح روحاً سافلةً ، روحاً خبيثةً ملتصقةً بالأرض ، متمرغةً في الوحل ، وحل الشهوات والنزوات ، جلس لنفسه أو لشيطانه ، وكتب في تشويه الحق وتقوية الضلال ، وشرب من آنية حرام وماء حرام ، وعاد إلى إجرامه في محاربة دين الله .
فالحضارة إذاً ليست هذه ” الأدوات البريئة ” التي خلقها الله في خدمة الإنسان ، بل إنما هي روح تهيمن على هذه التصرفات ، والنية التي تنبعث منها هذه الأعمال .
” وإنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ” .
إن ” مقياس الحضارة في المجتمع الإسلامي ، غير مقياسها في المجتمع الجاهلي بجميع صوره وألوانه ، وهذه هي نقطة الفصل ، ونقطة الالتباس أيضاً ، الأصل – في المجتمع الإسلامي – هو العبودية لله ، والخضوع أمام شريعته والاتصال به اتصال القلب والروح والتفكير والوجدان ، والجهاد في سبيله بأعز ما يملكه الإنسان ، أما هذه الوسائل والأدوات فهو لا يأخذ منها إلا بقدر ما يكفي لتحقيق مهمته في هذه الحياة ، وإعلاء كلمة الله في الأرض ، ولا يأخذ منها إلا في حدود معلومة واضحة أذن بهما الله .
أما مقياس الحضارة في الغرب فهو أن يأخذ الإنسان كل ما تهوى نفسه من مال ومتاع ونساء بالوجه الشرعي أو غير الشرعي سواءً بسواء ، إن هذا المقياس يعتبر السابق في هذا المجال والفائز في هذه المسابقة أسعد إنسان على ظهر الأرض ، وبين المقياس بون شاسع وفرق هائل . ولكنه فرق طبيعي بين الإسلام والجاهلية ، في ظاهر نشاطاتهما وأدوارهما منذ زمن قديم جداً ، إن روح الغرب مادية بحتة ، مظلمة كالحة ، وهي لا تستطيع أن تنتج غير هذه المظاهرة المادية ، إنها عقيمة عن كل نوع من الأهداف السامية ، والأغراض النبيلة ، إنها عاجزة عن أن تنجب الإيثار ، والحب ، والحنان ، والإيمان ، والإنابة ، والتوكل ، والشكر ، والقناعة ، والصبر ، والتماسك ، والعفاف ، والطهارة ، والإخلاص ، والوفاء ، والطاعة ، والولاء ، ولا أي معنى نبيل كريم عظيم ترتفع به هامة الإنسان في غابة الحيوانات ، ويسمو به على غيره من المخلوقات .
هذه الروح المادية المظلمة هي مقياس ” الحضارة ” في الغرب ، وأساسها وجوهرها ، ولحمتها وسُداها ، وطابعها الدائم الأصيل ، فإذا هي ركزت كل قواها على المادة ، فإنها بذلك لم تأت بدعاً ، بل إنما عملت عملها الطبيعي ، وقامت بدورها المنتظر ، وآتت ثمرها المرتقب .
أما نحن – تلك الأمة التي بعثها الله لتغيير الموازين والمقاييس وتغيير وجه الأرض واتجاه الإنسانية – فلا يجوز لنا ولا يجدر بنا أن نقع فريسة هذا الخلط العجيب بين المقياسين ، وبالتالي بين الحضارتين .
إن استيلاء الغرب العلمي والسياسي أقام ستاراً كثيفاً دون رؤية الحقائق ، وذر الرماد في عيوننا ، وفرض علينا مفهومه الخاص عن الحضارة الذي لا يقبله الوحي والشريعة ، والدين الإلهي ، في أي حال من الأحوال .
فحينما يقولون – في جميع البقاع والأصقاع – عن مجتمع أنه متحضر ، أو عن شعب أنه شعب متحضر ، فإنهم لا يرصدون بذلك تلك الصفات الإنسانية النبيلة ، والأهداف السامية ، بل إنهم يريدون تضخمه المادي ، ورخاءه الاقتصادي ، وتفوقه العلمي فحسب ، ولو كان ذلك على حساب ضمير المجتمع وقلبه وإنسانيته ، فأصبح المسلمون أيضاً منذ زمن طويل منذ استيلاء الغرب وفوزه بعرش القيادة ، لا يفهمون من ” الحضارة ” إلا ذلك المعنى الغربي ، وظلوا طوال عشرات السنين يدافعون عن الإسلام دفاع المعتذر الخائف ، ويحاولون أن يبعدوا عنه هذه التهمة المزعومة التي التصقت به ، فانطلقوا بنفس النغمة الغربية ، وعرضوا الإسلام كحضارة من هذه الحضارات المادية ، الأرضية ، السافلة ، وقالوا : إن حضارتنا سبقت الغرب في هذه الأنواع ، وأنها أيضاً أقامت الحمامات الضخمة ، والينابيع العظيمة المدهشة ، والمباني الهائلة الرائعة ، وشجَّعت الفنون الجميلة والصورة والرسم والموسيقى ، وقدموا الآثار التاريخية ، أمثال قصر الحمراء في الأندلس ، والتاج محل في الهند ، كنموذج لهذه الحضارة الرائقة الزاهية .
هنالك طبقة من المثقفين وأنصاف المثقفين في ربوع العالم الإسلامي كله لا تزال تحتضن هذه الفكرة منذ زمان ، وترى فيها السلامة والأمان ، ولكن هذه الفكرة – في الأصل – فكرة غربية تماماً ، تولدت من سوء فهم لمعنى الحضارة ، وسوء تقدير للمنهج الإسلامي ، المستقل الأصيل .
إذا كانت هذه الأشياء ” حضارة ” فمعنى ذلك أن الصحابة والتابعين كانوا غير متحضرين ، وكانوا جهالاً قرويين ، – ونعوذ بالله – أمام بطارقة الفرس والروم ، وملوكهما وأمرائهما ، ويحلو لي أن أقدم هنا منظر دخول ربعي بن عامر ، بلاط رستم قبل وقعة القادسية ، فإن فيه تفسيراً لما نقول ، وتصويراً للموقف الإسلامي إزاء الحضارات المادية قديمها وحديثها .
” أرسل سعد بن أبي وقاص قبل القادسية ربعي بن عامر رسولاً إلى رستم ، قائد الجيوش الفارسية وأميرهم ، فدخل عليه ، وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير ، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ، وقد جلس على سرير من ذهب ، ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة ، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد وأقبل وعليه سلاحه وبيضته على رأسه ، قالوا له : ضع سلاحك ، فقال : إني لم آتكم ، وإنما جئتكم حينما دعوتموني ، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت ، فقال رستم : ائذنوا له ، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق ، فخرق عامتها ، فقال له رستم : ما جاء بكم ؟ فقال : ” الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ” .
هنالك نرى الحضارة الإسلامية واضحةً جليةً في موقف ربعي بن عامر في هذا البلاط وحديثه مع الملك ، ودعوته إلى الدين الحق ، وهو يدلنا أن حضارة ” النمارق والزرابي ” ليست إلا بداوةً وتأخراً وانحطاطاً إذا خلت عن نور الوحي الإلهي والهدي السماوي ، وإن المظاهر لا اعتبار لها ، بل إن الاعتبار للروح التي تحدوها .
وقد تسربت موجة من هذه المظاهر على مر الزمن في المجتمع الإسلامي أيضاً فحاربها عمر بن عبد العزيز ( رحمه الله ) في عهده ، وأصلح ما فسد ، وأقام ما اعوجّ ، وسد هذه الثغرات في حصن المجتمع الإسلامي ومعقله المنيع .
الإسلام لا يعادي نعمة الرخاء والهناء ، وقد قال القرآن : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِى ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ) [1] . ويقول : ( وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ ) [2] .
وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً طلب العفو والعافية واليسر والمعافاة في الدنيا والآخرة .
ولكنها ليست – عنده – حضارة في ذلك المعنى الخاص الذي يُراد به في الغرب والشرق اليوم ، إنه لا يعتبر الفقر في المكاسب والمغانم والوسائل والأدوات تأخراً وانحطاطاً ، ولا يعتبر الرخاء المادي ” حضارة ومدنية ” ، بل إنما العبرة عنده بالروح التي تستر وراء هذا وذاك ، وتسوقه هنا وهناك .
وشعاره الوحيد ، أنه لا قديم ولا جديد ، ولا حضارة ولا بداوة ، ولا تأخر ولا نهضة ، ولا رجعية ولا تقدمية ، بل جاهلية إسلام ، ونور وظلام .
( فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ ) [3] !
فالمسلم الفقير ، الجاهل ، المجرد من كل شارة ولافتة ، العطل من كل زينة ورخاء ، ورواء وبهاء ، متحضر ، ومثقف ، وراق ، إذا حمل في صدره نعمة الإيمان ولوعة الحب ، وتربى على تلك المكارم والفضائل التي دعا إليها الإسلام .
فأصبح الشيئ الفاصل بين ” متحضر ” و ” متخلف ” هو الإيمان ومدى تسربه في القلب ، وسيطرته على النشاط الفكري والعضوي ، وأصبح مقياس ” الحضارة ” تلك الفضائل الإسلامية والأهداف السامية التي رأينا مثلها الشاخص الحي في المجتمع الإسلامي في القرن الأول ، ووجدنا نظائره وأشباهه ، وبعض ملامحه وصوره في الأوفياء لدين الله في هذا العصر ، القابضين عليه بين جواذب الحياة وإغراءات المجتمع وسوط التعذيب كالقابض على الجمر .
مقياس الحضارة في الإسلام روح وقلب ، ومقياس الحضارة في الغرب حديد وصلب .
مقياسها في الإسلام مدى إيمان الفرد والجماعة وكيفية جهادها للرسالة التي تحملها ، والدعوة التي تحتضنها ، ومقياسها في الغرب وفي تلاميذ الغرب مدى مادية الفرد والجماعة ، ومستوى غناها وثروتها ومنطقة نفوذها وسيطرتها ، وصلاحية احتلالها واستغلالها .
مقياسها في الإسلام الإيثار وإنكار الذات ، ومقياسها في الغرب الأثرة وتعبد الذات ، مقياسها في الإسلام البر والمواساة ، ومقياسها في الغرب الأنانية واللامبالاة .
مقياسها في الإسلام قدسية الأهداف ، ونبل الغايات ، ومقياسها في الغرب مادية الأهداف ونفعية الغايات .
مقياسها في الإسلام العلم النافع ، والقلب الخاشع ، ومقياسها في الغرب تضخم المعلومات ووفرة الذخاير ، وتحجر القلب وقسوة الفؤاد .
مقياسها في الإسلام تحقيق خلافة الله في الأرض ، وإجراء أحكامه وشرائعه في البشر ، والسير بالإنسانية على خط مستقيم نحو هدفها الحقيقي ومأمنها الأبدي وعيشها السرمدي ، ومقياسها في الغرب تحقيق نزوات الجسد . والحكم بالطاغوت ، والسير بالإنسانية على خطوط متفرقة نحو أهداف رخيصة ومتعة عاجلة ونعيم زائل ، وسراب خادع ، وسخط الله وعذابه في الأخير .
مقياسها في الغرب ، الأبيض والأسود ، والأحمر والأصفر ، والقاصي والداني ، والقريب والبعيد ، والقوي والضعيف ، والمالك والمملوك ، الغني والصعلوك ، ومقياسها في الإسلام ( كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِى ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ ) [4] مقياسها في الإسلام ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) [5] و ” لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى ” ، مقياسها في الإسلام سلمان ” الفارسي ” وبلال ” الحبشي ” وصهيب ” الرومي ” مع أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، رضي الله عنهم أجمعين .
مقياسها في الغرب حلة فاخرة ونفس فاجرة ، ومقياسها في الإسلام نفس مطمئنة هادئة ، ومظهر نظيف متواضع ، ومقياسها في الغرب البحار والجبال والأنهار والجداول الصغار ، ومقياسها في الإسلام جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ، ورضوان من الله وما عند الله خير للأبرار .
إنه مقياس وهو مقياس ، فلنقس هذا الانحطاط والتأخر في الغرب الذي يسمونه ” حضارة ” وهذا الجهل عن الحقائق والأهداف والعمي عن الدار الآخرة والحياة الخالدة ، الذي يسمونه ” ثقافة ” بهذا المقياس الخالد العادل الصريح الذي وضعه الإسلام في أيدي المسلمين لئلا يؤخذوا بالمظاهر الكاذبة والشعارات الزائفة ، واللافتات المزورة ، ويكونوا دائماً على ثقة واعتزاز بدين الله ومكانتهم في خلق الله .
( أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ فِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) [6] .
[1] سورة الأعراف ، الآية ٣٢ .
[2] سورة القصص، الآية 77 .
[3] سورة يونس، الآية 32 .
[4] النور ، الآية 35 .
[5] الحجرات ، الآية 13 .
[6] الزمر ، الآية 22 .