شعر الدكتور يوسف القرضاوي : نبذة من دراساته الفنية

صورة الهند
أكتوبر 17, 2022
تطور اللغة العربية في الهند وأرجائها
أكتوبر 17, 2022
صورة الهند
أكتوبر 17, 2022
تطور اللغة العربية في الهند وأرجائها
أكتوبر 17, 2022

( الحلقة الثانية الأخيرة )

دراسات وأبحاث :

شعر الدكتور يوسف القرضاوي : نبذة من دراساته الفنية

( الحلقة الثانية الأخيرة )

الأستاذ محمد ممتاز الدين قادري *

الأستاذ محمد نسيم §

الألفاظ الملائمة والتراكيب اللائقة :

ومن محاسن شعر القرضاوي اختيار الألفاظ الملائمة والتراكيب اللائقة ، قال ابن رشيق القيرواني : اللفظ جسم وروحه المعنى ، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم يضعف بضعفه ويقوى بقوته [1] .

وقال سيد قطب حين تحدث عن الوحدة في العمل الأدبي : ” فالقيم الشعورية والقيم التعبيرية كلتاهما وحدة لا انفصام لها في العمل الأدبي ، وليست الصورة التعبيرية إلا ثمرةً للانفعال بالتجربة الشعورية ، وليست القيمة الشعورية إلا ما استطاعت الألفاظ أن تصوره ، وأن تنقله إلى مشاعر الآخرين ” [2] .

وإذا نظرنا إلى الألفاظ التي دارت في شعر القرضاوي نجد كمًّا هائلاً من الألفاظ والتراكيب القرآنية التي سارت في شعره مسرى الدم في عروق الإنسان ، فنحن حين نقرأ قصائده نجد أنفسنا أمام شاعر ينتصر لدينه ويدعوله ويفصح عن مبادئ هذا الدين ويكشف عن قيمه التي تظهر واضحةً بينةً .

ونحن نتحدث عن شاعر ، عقيدته الإسلام وعنوان شاعريته الإيمان ، فلأجل ذلك نجد ألفاظه مستمدةً من القيم الإسلامية والمعاني الإيمانية والألفاظ القرآنية والتراكيب النبوية ، فحين يتحدث مثلاً عن السلوك الإسلامي فيتحدث بألفاظ مثل التقى والخشوع ، والقناعة والخضوع ، والنور والقرآن ، والصلاة والأذان ، والذكر والتلاوة ، والرشد والهداية ، والصبر الجميل والعفو الجليل ، والعفة والطهر ، والموعظة والخير ، والرسول والرب والسلام والحق ، والشكر والحمد ، والخير والوفاء ، والتقوى والرجاء .

وحين يتحدث عن الفرد المسلم يتكلم بألفاظ تشع أنواراً إسلاميةً ومعان إيمانيةً تكشف عن جوهر الإيمان وتعطي أبعاداً مؤثراً في بناء شخصية المؤمن الحق ، ومن ذلك الجود والكرم ، والسودد والشمم ، والعزم والإيمان ، والفضل والإحسان ، والصبر والبلاء ، والبذل والعطاء ، والعفة والإباء ، والطهارة والنقاء ، والحب والوفاء ، والابتهال والدعاء والخضوع والتضرع ، والسمو والترفع ، وغير ذلك مما يدل على فضائل المسلم ومناقب المؤمن .

وحين يذكر المعاناة نستمع منه ألفاظاً مشهودةً ، ولغةً في المعاناة معهودةً ، مثلاً العذاب والهول ، والمصاب والخطب ، والخوف والهون ، والسجن والكرب ، والفزع والرعب ، والأسى واليأس ، والعذاب والبأس ، والبرد والهجوع ، والحرمان والجوع ، والأذى والموت ، والآهات والفوت ، والشكوى والألم ، والبكاء والسأم إلى غير ذلك من الألفاظ المعاناة التي أحس بها الشاعر في معاناته وآلامه .

وحين يتكلم عن الخِسَّة الإنسانية والاغترار بالدنيا وزينتها ، نجد ألفاظاً موحيةً موحشةً مثل الغل والحقد ، والسلاسل والقيد ، والتكدير والتعذيب ، والضرب والتشذيب ، واللص والشيطان ، والذل والهوان ، والبطش والهتك ، والقتل والفتك ، والسب والتلعين ، والشتم وسب الدين ، والطمس واللمس ، والشراسة والنحس .

وإذا كانت الألفاظ السابقة هي قوام المعجم الشعري للقرضاوي فإنها أيضاً تعد من المعجم الشعري لدى غيره من الشعراء حيث استخدموها بمعانيها اللغوية التي وضعت لها ، لكنهم ولا ريب – ما اشتركوا في استخدامها من بناء الجمل وصياغة التراكيب الملائمة للتجربة الشعرية .

ونحن نذكر دراسةً لبعض الظواهر الأسلوبية في شعر القرضاوي وهي :

الابتداء : ” الديك الفصيح من البيضة يصيح ” ، وقال أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين : قال بعض الكتاب : أحسنوا معاشر الكتاب الابتداءات ، فإنهن دلائل البيان [3] .

التلون والتعدد في بداية الشعر :

فأول ما يلفت النظر في القصيدة بدايتها وتلون الخطاب بها لأن هذه البداية أول ما يقرع سمع السامعين ، وبها يستدل على ما عند الشاعر من تجربة تسيطر على الوجدان كما تدل على ما يعثر نفسه من أفكار ، وما يدور في ذهنه من المعاني . فإذا تتبعنا قصائد القرضاوي في ديوانه وجدنا صوراً متعددةً من صور الابتداء ؛ إذ يبدو للمتأمل في بدايات شعره تعدد الأشكال والألوان .

ومنها : بداية القصيدة بالغرض مباشرة ، والدخول إليه دون اتباع بداية بعينها . ومن ذلك قوله في بدء قصيدته ( في ذكر المولد ) :

هو الرسول فــــكـــن في الـشعر حسانا وصغ من القلب في ذكراه ألحانا

ذكرى النبي الذي أحيا الهدى وكسا بالعلم والــنور شعبا كان عريانا [4]

ومن أمثلة ذلك – حين يتحدث عن السعادة التي يبحث عنها بنو الإنسان على مر العصور وكر الأيام يبدأ قصيدته بمباشرة الغرض والتحدث عنه ، فيقول :

أمل إليه هفت قلـو  ب الناس في الزمن التليد

أمل له غور القديـــ  م كــما له سحر الجديد

أمل إليه سعي الملو  ك كما إليه رنا العـــبيد [5]

ومن البدايات المتكررة في شعر القرضاوي اعتماده على النداء في بدء قصيدته ، وليكون ذلك دافعاً للمتلقي للاهتمام وحسن الاستماع ، ومن أمثلة ذلك قوله في بدء قصيدته ” يا أمتي وجب الكفاح ” :

يا أمتي وجب الكفــــــــــاح  فدعت تشدقا والصياح

ودعى التقاعس ليس ينص  ر مــن تقاعس واستراح

ودعى الرياء فقد تكـــــــل  مت الـمــذابــح والجراح

ما عاد يجدينا البـــــــــــكا  ء على الطلـول أوالنواح [6]

وكذلك يبدأ الشاعر قصيدته ” مناجاة ” في مناجاة ربه بندائه له والاستغاثة به فيقول منادياً ربه :

يا رب ها جسمي يشيخ ويمرض   والوهن وافاني سريعا يوفــــض

ولت سنوعمري كرؤيا نائـــــــــم   ومضى شبابي مثل برق يومض

ودنــــــــــــا الرحيل ولم أهيء زاده   وخـــيام أيام تكاد تقــــــــــــوض

يا رب مالي غير بابك مــــــــــــفزع   آوى إلـــــيـــــه إذا يــــعـز الــمفزع

ما لـــــي سوى دمعي إليك وسيلة   وضـــــراعــــتـــي ولــمـن أضرع ؟ [7]

وقد يبدأ القرضاوي قصيدته بالاعتماد على الاستفهام كما في قصيدته ” زلزال مصر ” حيث يقول :

أ زلزلت الأرض زلزالــهـا     وأخرجت الأرض أثقالها

وحـــدث الأرض أثـــقـالهـا   بأن المهيمن أوحى لـهـا ؟

أقامت قيامة هذه البرايا    لـيجزي الله أعمالـــهـــا [8]

وقد يبدأ ببيت يحمل من الحكمة روحها كما يقول في أول قصيدته ” عبرة الموت” :

كل امرئ عمره يسابقه     والموت من خلفه يلاحقه [9]

والقرضاوي قد يبدأ قصيدته بمأثورة شعبية أو مقولة عامة ، ومن ذلك قوله في بدء قصيدته ” سراب السلام ” :

على العينين والرأس سلام الحبر والطرس

وبدأ قصيدته الرثائية الوحيدة ” دمعة وفاء ” بالبكاء على الطريقة الخنساوية فيقول :

أبكي وهل يشفي البكاء غليلا ؟  وقـــد انــطوى عنا الحبيب رحيلا

أبكي وليس من البكاء بد ، وإن  كان المصاب على القلوب جليلا [10]

التناص : هو في اللغة الإنجليزية ( Intertextuality ) قال في المعجم الغني ” التناص في الأدب : ” مصطلح نقدي يقصد به وجود تشابه بين نص وآخر أو بين عدة نصوص ” [11] .

والتضمين هو تضمين الشاعر في كلامه من شعر غيره لشدّة روعته أو عماقة مناسبته بما ينشد ،  وفي كلمات أخرى : هو إدخال الشاعر في أشعاره بيتاً أو أبياتاً شهيرةً على طراز الاستشهاد ، وعادةً يذكرها الشاعر بين القوسين ، وكذلك قد يضمن شعره الأمثال أو الحكم السائرة ليزيده روعةً ورونقاً . كما قال الحريري على لسان الفتى الذي عرضه أبو زيد للبيع وهو يضمِّن صدر بيت العرجيّ التالي :

أضـــاعـوني وأيّ فتى أضاعوا يـــوم كـريـــــه وســـداد ثـــــغر

” على أنّي سأنشد عند بيعـي أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا “

الاقتباس هو أن يضمّن المتكلّم كلامه منظوماً كان أو منثوراً شيئاً من القرآن العظيم ، أو الحديث النبوي الشريف ، دون أن يشير إلى أنهما من وحي متلو أو غيره ، ولا حرج في الاقتباس التصريف اليسير والتغيير البسيط ، كما قال الشاعر مقتبساً من قول الله عز اسمه : ” إنّا لِلّه وَإنّا إليه رَاجِعُون ” [12] :

” قد كان ما خفت أن يكونا     إنّا إلى الله راجعونا “

والنقاد المعاصرون  معظمهم يستخدمون ” الاقتباس والتضمين ” كمترادفين للتناص ويعنون بهما تداخل النصوص وإدخالها قصداً أو دونه وهم يشبهون النصوص الأدبية بالفسيفساء التي تتكون من الأحجار الملونة المختلفة في تنسيق رائع الذي يجعلها شيئاً مرموقاً معجباً مستقلاً حتى لا يعرف الأحجار الملونة بتفصيلها .

كما نجد التضمين في قول محسن الهزاني من رباعية له :

وإن زرفل المسيوق وارخوالعنّه   والجيش هربد والرمك يشعفنّه

وأهوى على ركن من الخيل كنّه :

( جلمود صخر حطّه السيل من علِ ) [13]

ومن محاسن شعر القرضاوي استلهام النص القرآني واقتباسه كما كان يقتبس الشعراء من آيات القرآن الكريم وأساليبه البيانية ، وكان يأخذ من معانيه وألفاظه واستلهام عباراته وأساليبه ، فكان القرآن مصدراً من مصادر إلهامهم ، ومنبعاً ثرياً لطرق تعبيرهم منذ صدر الإسلام إلى العصر الحديث . ونرى حسان بن ثابت ، شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم يقتبس من ألفاظ القرآن الكريم ويستلهم من معانيه في كثير من أشعاره . وها هنا من مدائحه في رسولنا العظيم الذي قال الله عز اسمه في شانه : ” وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ” [14] و” إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ” [15] :

نــــبــــي أتــــانا بعد يأس وفـــتــــرة     من الرسل والأوثان في الأرض تعبد

فأمسى سراجاً مستنــيراً وهادياً     يــــلــــوح كـما لاح الصــقيل المــــهند

وأنـــذرنا ناراً وبــــشــــــــر جــــــنـــة     وعــــلــــمـــنا الإسلام فالله نحمــــــــد

تعاليت رب الناس عن قـول مـــن     دعا سواك إلــهـــاً أنت أعلى وأمجد

لك الخلق والنعماء والأمر كله     فــــإيـــــاك نـــستـــهــدي وإياك نعبد [16]

ونجد الشاعر في البيت الأول قد اقتبس من ألفاظ واستلهم من معان لقوله تعالى : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[17] .  ونجد الشاعر مستلهماً ألفاظه ومعانيه في البيتين الأول والثاني من قوله جل وعلا : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا  مُنِيرًا . وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا [18] ، وفي البيت الرابع نجده يستخدم ” رب الناس ” مقتبساً من قوله سبحانه وتعالى : ” قُلْ أَعُوْذُ بِرَب ِّ الْناس [19] ” وكذلك نراه في البيت الخامس مقتبساً ألفاظه ومعانيه من قوله جل جلاله وعم نواله : ” إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [20] ” .

ونجد عبد الله بن رواحة أكثر اقتباساً واستلهاماً من ألفاظ القرآن ومعانيه ، ومن أمثلته :

شهدت بأن وعد الله حق     وأن النار مثوى الكافرينا

الشطر الأول من البيت مأخوذ من قوله سبحانه وتعالى : ” ألا إِنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ [21] ” كما أن الشطر الثاني مقتبس من قوله الكريم : إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [22] .

وممن يذكر من شعراء الإسلام المقتبسين من القرآن : عبدة بن الطيب ، الحصين بن الحمام ، والحطيئة ، ومن الشعراء الأمويين والعباسيين : الحزين الكناني ، وأبو العتاهية ، وأبو تمام وغيرهم .

ومن هؤلاء الذين أكثروا من الاقتباس القرآني واستلهام ألفاظه ومعانيه ، د . يوسف عبد الله القرضاوي الشاعر المطبوع الذي لم يغادر صغيرةً ولا كبيرةً من قصائده إلا اقتبس فيها من ألفاظ القرآن أو استلهم فيها من معانيه . وهذه مزية من مزايا أشعاره التي فوَّقتها على أشعار معاصريه من الشعراء وعلت مكانته ومنزلته عليهم . ومن أمثلة ذلك في قصيدته الأولى ( يا مرشدا ) التي استلهم فيها قصة يوسف عليه السلام بكل عناصرها وملابساتها وجوانبها وظلالها فقال :

انظر ليوسف إذ عاداه إخــــوتـــــه    فـــــجــــــرعـــــوه مــــن الإيــــذاء ألوانا

رأوا شــــمـــساً في جـــنـــبــــه سرج    رأوا أبـــــاهــــم بـــــهــــذا النـور والهانا

ألقوه في الجب لم يرعوا طفولته     بــــاعـــوه كالشاة لم يرعوا له شأنا

وعــاش يوسف دهرا يخدم امرأة     عبدا وكان له في السجن ما كانا [23]

ومن أمثلته :

يا رب إنــا ظلمنا ، فانتصـــر وأنــر  طريــــقـــنـــا واحبنا بالحق سلطانا

يا رب نصرك ، فاطاغوت أشعلها  حرباً على الدين إلحادا وكفرانا

يا قــــــوم أيـــــــد الــــــتــاريــخ حجتنا  وحصححص الحق للمبتصر الآنا [24]

نجد الشاعر في هذه الأبيات مقتبساً من ألفاظ القرآن ومعانيه ، فالشاعر يناجي ربه ويستغيثه في البيت الأول مستلهماً معنى قوله تعالى : فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [25] ، وفي البيت الثاني نجد ألفاظه جله بل كله من ألفاظ القرآن المجيد ومعانيه ، والبيت الثالث نسمع رنين مقولة إمرأة العزيز في قصة يوسف عليه السلام : ألْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ [26] .

التكرار :

ومن محاسن شعر القرضاوي التكرار ، وتعد ظاهرة التكرار من السمات الأسلوبية المميزة في الشعر الدكتور القرضاوي حيث سارت في أغلب قصائده وبدت دائماً في موقعها المميز حين الأداء الفني والتعبير الوجداني ، فمن نظر إلى أشعاره وقصائده يجد كماً جزيلاً من صور التكرار المثري ، والذي يقوم بدوره الفعال في آداء التجارب الشعرية على وجه من الكمال الفني ، ومن ذلك قوله :

يا ليلة الــــسلـــم والإسلام مـــعـذرة  السلم في مصر والإسلام لفظان

أين السلام ؟ أروني أين موضعه ؟  فقد ضاع ضيعة يتم بين خـــــوان

أين الدساتير ؟ فانـــــظــرها معلقة  مثل التمائم في أحضان صــبـيان

أين الحقوق ؟ ولـم نلمح لها صورا  إلا سياطا كـــــأذنـــاب لــثــيران [27]

والحق أن الشاعر قد أكثر التكرار في مجال الشكوى من الظلم والظالمين ، فوقف على أبواب الرحمن يطلب النصر قائلاً :

يا رب إن الطغاة استكــــبــــروا وبغوا بغي الذئاب عــــلــــى قطعان حملان

يا رب كـــــم يـــوسف فــــيــنا نـقي يد دانوه بالسجن والقاضي هو الجاني

يا رب كم من صبي صفدوا فمضى يــــبــكى كضفدعة في ناب ثعبان

يا رب كــــم أســـرة بــاتـــت مــــشـردة  تــــشـــــكـــو تجبر فرعون وهامان [28]

الحكمة :

ومن ملامح شعر القرضاوي الحكمة ، فإذا تفحصنا الشعر العربي قديماً كان أو حديثاً أدركناه مملوءاً عن آخره بالحكمة كما قال ابن خلدون : الشعر العربي في باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات وعلم بكيفيات الواقع فهو أصيل في الحكمة عريق [29] .

فإذا نظرنا بالنظرة الفاحصة في الشعر القرضاوي وجدنا كماً هائلاً من الحكم في ديوانه ، وهي حكم لم يلقها الشاعر جزافاً ، وإنما جاءت بعد خبرة طويلة وتجربة عسيرة في الحياة ، ومنها :

شعب بغير عقيدة  ورق تذر به الرياح [30]

ومن تكن برسول الله أسوته كانت خلائقه روحاً وريحاناً [31]

والقرضاوي يحث المسلمين على التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتأسي بأسوته لما فيه من عيش رغيد ، وفوز عظيم ، فينشد وينظر إلى العمر نظر حكمة واهتمام ، وحرص ويقول :

كل النفائس قد تعوض إن تضع     والعمر إن ضــــيعت ليس يعوض

وإذا أتـــــى الأجـــل الــــمـقدر وقته     لم يغن عنك مطيب ولا ممرض [32]

ومن قصائد القرضاوي التي تحمل الكثير من الحكمة والنصائح هي قصيدته ” هجمة الجند ” ومن أبياته :

قل للطغاة الحاكـــــمــــين بأمرهم  إمهال ربي ليس بالإهــــــمـــال

ستـــدور دائـــــرة الــزمان عليكمو  حتما ، ويؤذن ظلكم بـزوال

الــــبــــغــــي في الــدنـيا قصير عمره  وإن احــتمى بالجند والأمـوال

ضرب الرجال وهم أسارى قيدهم  منشيمة الأوغاد لا الأبــــــطال

واللــــيــــث لـــيس يــــعــــيــــبه إيذاؤه  ما دام في الأقفاص والأغلال

الجيم فد يؤذى وليس بــــضــــــائــر  نـفسا تعز على أذى الأنـــذال [33]

ونجد القرضاوي يغرس القيم الأخلاقية في قصيدته ” يا ابنة الإسلام ” [34] ويدعو إلى العفة ويبعد عن الرذيلة فيقول :

إن الدعارة في الأرواح فاعلة ما يفعل السم في الأبدان من وصب

وقوله أيضاً :

إن الرذيلة داء شره خطر     يعدي ويمتد كالطاعون والجرب

وإذا لاحظنا إلى أشعاره رأينا الحكم منثورةً هنا وهناك ، فهو يستحق أن نسميه شاعراً حكيماً في عصرنا الراهن .

القصة والحوار :

القصة الشعرية والحوار من السمات الأسلوبية في الشعر الحديث ، فنجد بعضاً من مشاهد العمل القصصي وعناصره وطرق تعبيره في شعر القرضاوي ، ونجد صورةً من واقع الحياة أو مشهداً قد اصطنعه الشاعر بخياله ، وفكره دون أن يكون له وجود في الواقع ، كما نجده يحكي عن مشاهد السجن والمعتقل في قصيدته ” الملحمة النونية ” حيث يحكي عن فتى مؤمن الذي يعذبه زبانية السجن إجباراً له على الاعتراف بما لم يفعل ، عذاباً وحشياً يهتز عرش الله بأنينه وصرخته وبكائه ، لقد خير بين الاعتراف أو الموت فاختار الثاني رغبةً في لقاء ربه ، وهنا يستغرق الشاعر في خياله من خلال الحدث الذي ملك عليه وجدانه فيرى ما لا يراه الناس وينصت إلى ما لايستمعون إليه فيقول :

ومضت ليال والـــــــعــــــذاب مـــسـجر  لفتى بأيدي الـــمجرمين رهــــيــــن

لـــــم يــــــعــــبـــئوا بجراحه وصديدها  لم يـــــســـــمــــعـــــوا لـــــتـــأوه وأنين

قالوا: اعترف أومت فأنت مخير !!!  فأبى الــــــفـــــتـــى إلا اختيار منون

وجرى الدم الدفاق يسطر في الثرى  با أخوتي استشهدت فاحتسبوني

لا تـــــحـــــــزنــــــوا إنــــــي لربي ذاهـب  أحيا حياة الحر لا الــــمـــــســجون

وامضوا على درب الـهــدى لاتيأسـوا  فاليأس أصل الضعف والتوهــــين

قولوا لأمـــــي : لا تنوحي واصــــبـري  أنا عند خالقي الذي يـــــهــــديــني [35]

وأنشد الشاعر قصيدته ” ثورة لاجئ ” وهي من الشعر القصصي الذي يقوم على لغة الجوار والسرد ، وألقاها في الدوحة بدولة قطر عام 1962م  وصور الشاعر الغلام اللاجئ من اليأس إلى الرجاء ثم إلى العمل ، وصدرها الشاعر بهذا المشهد الأول ، فقال :

رأيته مـطرقا يبكي فأبكاني   وهاج من قلبي المكلوم أشجاني

في زهــرة العمر إلا أن دهرك لا   يـــرعى الشيوخ ولا يرثى لصبيان

في نضرة الغصن إلا أن عاصفة   هبـــت سموها فأمسى غير فينان

تعلوه مــسحة عز سالف غشيت   من طــــول ما ذرفت للدمع عينان

بكى فكادت له نفسي تذوب   أسكأن رامــيه باسهم أصماني [36]

تلاحم الأبيات وترابطها :

وهذا من الصفات التي تحدث عنها النقاد قديماً وحديثاً : فقديماً جعلوا كل بيت وحدةً مستقلةً لا صلة له بما قبله ولا بما بعده ، وقال ابن خلدون مشيراً إلى ذلك في مقدمته وهو يعرف الشعر : إنه ” الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف ، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروى مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده ، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به ” [37] .

فجعل ابن خلدون كل بيت مستقلاً بغرضه ومقصده وقال :          ” وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه حتى كأنه كلام وحده مسقل عما قبله وما بعده ” [38] ، ولكن الأدباء والنقاد في عصرنا الحديث قد اهتموا بالترابط والتلاحم بين أجزاء القصيدة بل بعضهم نادى بضرورة الوحدة الموضوعية التي تنتظم القصيدة من أولها إلى آخرها في تسلسل واضح ، وترابط مكين ، والقرضاوي أحد شعراء العصر الحديث الذين فهموا ضرورة الترابط والتلاحم بين أبيات القصيدة وبين أفكارها ومعانيها ، ونجد أشعاره مرتبطةً في أبياتها ، متلاحمةً في تراكيبها ، متجانسةً في ألفاظها وأساليبها ، ونرى في كثير من قصائده من تلاحم الأبيات وترابطها ، ومن أمثلة ذلك : قصيدته : ” في ذكرى المولد ” التي صدرها بقوله :

هــــو الــــرسول فكن في الشعر حسانا وصغ من القلب في ذكراه ألحانا

ذكرى النبي الذي أحيا الهدى وكسا بالــــعلم والنور شعبا كان عريانا

ويقول فيها :

هـناك لاح سنا المختار مـــؤتــــلـــفــا  يهدي إلى الله أعجاما وعـــربانا

يتلو كتاب هدى كان الإخاء لـه  بدءا وكان له التوحــــيد عنوانا

لا كبر – فالناس إخوان سواسية  لا ذل إلا لــــمــــن ســـواك إنسانا

يـــــــقــــــود دعــــوتــه في اليم باخرة تــــــقـــــل مـــــن أمها شيبا وشبانا

الــــسلــــــم رأيـــــــتـــــها والله غايتها لم تبغ إلا هدى كمنه ورضوانا

جـــــرت بركبانها لا الريح زلزلها  ولا يــــد الـموج مهما ثار بركانا [39]

هذه الأبيات المترابطة والمتلاحمة صورت لنا صورة صافية كالزجاج لسفينة الإسلام ، وباخرة الإيمان ، التي سارت على هدى القرآن ، واتخذت الأخوة الإيمانية تاجاً ، والسلم منهاجاً وجعلت الله غايتها ، والتوحيد رأيتها ، ومحمداً صلى الله عليه وسلم ربانها وقائدها .

نتائج البحث :

إذا لاحظنا معطيات الشيخ القرضاوي في حقل الشعر العربي ومواهبه من منظور فني وصلنا إلى نتائج وثمرات مهمة ، منها :

  1. الشيخ القرضاوي الشاعر شاعر طبيعي ، شعوره وأشعاره طبعية ومزاجها تجاربه العملية وخبرات حياته الطويلة ، فصارت لدى القراء مرموقة لأسماعهم وجذّابة لأفئدتهم ، وأخَّاذة لقلوبهم .
  2. أشعار الشيخ القرضاوي الشاعر جلها منشودة عبر العالم لمحتوياتها ومضامينها العالمية الضرورية ولحسن  الرنين وحلاوته وطلاوة الأسجاع والموسيقى .
  3. مضامين أشعار القرضاوي  وأغراضها ومعانيها مرآة لحياة الإنسان والمجتمع البشري وموقظة للأمة المسلمة الراقدة وداعية إلى الصحوة الإسلامية ومشجعة لشبان الأمة إلى إقامة الدين على ربوع الأرض .
  4. تراكيب أشعاره مترابطة ، ومعانيها ومفاهيمها سهلة ، يفهمها عامة القراء ، وألفاظها فصيحة وبليغة لها سجع ورنين حتى يتردد من يسمعها فترة طويلة .
  5. وتكرار الكلمة الواحدة في قصيدة واحدة يجعل شعره معسولاً ، يجتذب أسماع القراء إليه ، ويدخل معانيها في غيابة جب قلوب القراء ، والمتلقين ، وأسلوب الحوار يوضح مفاهيمها غاية التوضيح .
  6. الأفكار والمعاني في شعر القرضاوي واضحة من غير إسعاف أو التواء ، حتى يحس المتلقي بمعاني الشاعر وأفكاره تتدفق عليه في سلاسة ووضوح ويسر دون تعقيد وغموض .
  7. إنه شاعر حكيم ، أشعاره عصارة خبراته العلمية والعملية ، وخلاصة حياته الطويلة ، وثمرات نشاطاته المتنوعة في مجالات مختلفة ، ونتائج مواجهته محن الحياة وإحن الأعداء في سبيل تحقيق الأماني عن طريق الدعوة الإسلامية ، والكفالة الإيمانية ، والبنية الاجتماعية ، والتضامن الوطني ، مع التأمل في الحياة ، والتفاني في المناجاة . ونرى في أشعاره ، جلها بل في كلها أنه لا يبالي أحداً ولا يخاف لومة لائم على حساب دينه ، ولا يهمه ضياع مال ، أو قهر سجن ، أو فقد نفس ، وبذل روح في تحقيق أمانيه الدينية . وحسبنا قوله :

سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي   وأموت مبتسماً ليحيا ديني [40]

  • أشعار القرضاوي بكل ما فيها من عناصر وقيم يندرج تحت روح الفكر الإسلامي ، والوعي الإيماني . فنتاجه الشعري ، فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من روح التأمل الإيماني ، ووجود الفكر الإسلامي .
  • معاني أشعار القرضاوي متسقة ، وأفكارها مترابطة متآخية ، ومشتركة ، ومتواردة ، ومتشابهة ، ومتقاربة لأنه أخذها واستنبطها واستقاها من منابعها الأصيلة – الثقافة العربية الأصيلة ، والثقافة الإسلامية القرآنية ، فتقاربت أفكاره ، وتواردت معانيه وتشابهت خواطره بأفكار السابقين واللاحقين من الشعراء ومعانيهم لوحدة منابع أفكارهم ومعانيهم . فنتاجه ونتاج السابقين والمعاصرين بينهما علاقة عميقة وصلة شديدة . فقوله :

أفاع كلها سم   وإن نعمت لدى اللمس [41]

البيت نفسه بيت عنترة العبسي الذي قال فيه :

إن الأفاعي وإن لانت ملامسه عند التقلب في أنيابها العطب [42]

  1. إنه شاعر قادر على استقصاء المعاني ، واستطرافها ، وعرضها في ثوب شعري قشيب يفصح فيه عن مكنون نفسه وصادق أحاسيسه . وقصيدته : ” جيل الصحوة ” تدل على قدرته هذه .

* الأستاذ ، قسم الدراسات الإسلامية ، جامعة شيتاغونغ ، شيتاغونغ ، بنغلاديش . muqaderi@yahoo.com

§ الأستاذ المساعد ، قسم الدراسات الإسلامية ، جامعة شيتاغونغ ، شيتاغونغ ، بنغلاديش . nasimchittagong@gmail.com

[1] ابن رشيق ، العمدة ، ط 1 ، ج 2 ، ص 10 .

[2] سيد قطب ، النقد الأدبي : أصوله ومناهجه ، ) دار الفكر العربي ) ، ص 19 .

[3] العسكري ، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران ، الصناعتين ، ) بيروت : المكتبة العنصرية ، ط 1 ، 1320م ) ، ج 1 ، ص 431 .

[4] القرضاوي ، نفحات ولفحات ، ص 47 .

[5] نفس المصدر ، ص 64 .

[6] القرضاوي ، نفحات ولفحات ، ص 126 .

[7] القرضاوي ، نفس المصدر ، ص 126 .

[8] القرضاوي ، المسلمون قادمون ، ص 103 .

[9] القرضاوي ، المرجع السابق ، ص 103 .

[10] القرضاوي ، نفحات ولفحات ، ص 55 .

[11] http://www.wata.cc/forums/archive/index.php/t-97218.html

[12] البقرة : 156 .

[13] https://abdelghafaar.blogspot.com/2015/05/blog-post_11.html بتصرف .

[14] القلم : 4 .

[15] الحج : 22 .

[16] ديوان حسان بن ثابت ، بيروت ، لبنان : دار الكتب العلمية ، ص 45 – 55 .

[17] المائدة : 19 .

[18] الأحزاب : 45 ، 46 ، 47 .

[19] الناس : 1 .

[20] الفاتحة : 5 ، 6 .

[21] يونس : 55 .

[22] محمد : 12 .

[23] نفس المصدر ، ص 40 .

[24] نفحات ولفحات ، ص 52 .

[25] القمر : 10 .

[26] يوسف : 51 .

[27] القرضاوي ، نفحات ولفحات ، ص 40 .

[28] القرضاوي ، نفس المصدر ، ص 45 .

[29] ابن خلدون ، مقدمة ابن خلدون ، بيروت : دار إحياء التراث العربي ، ط 3 ، ص 580 .

[30] القرضاوي ، المسلمون قادمون ، نفحات ولفحات ، ص 131 .

[31] القرضاوي ، نفحات ولفحات ، ص 41 .

[32] القرضاوي ، نفس المصدر ، ص 120 .

[33]. القرضاوي ، تفس المصدر ، المسلمون قادمون ، ص: 120.

[34]. القرضاوي ، نفس المصدر ، ص:39/48.

[35] القرضاوي ، نفس المصدر ، ص 73 ، 74 ، 75 .

[36] القرضاوي ، نفس المصدر ، ص 107 – 112 .

[37] ابن خلدون ، المقدمة ، ص : 518 و 519 .

[38] ابن خلدون ، نفس المصدر ، ص 515 و 516 .

[39] القرضاوي ، نفس المصدر ، ص 47 .

[40] القرضاوي ، نفس المصدر ، ص 9/92 .

[41] القرضاوي ، نفس المصدر ، المسلمون قادمون ، ص 94 .

[42] حمدو طماس ، ديوان عنتره بن شداد ، بيروت ، لبنان : دار المعرفة ، ص 72 ،books leaks.com