الوقت أغلى شيئ في حياة الإنسان
يونيو 3, 2022حرب على كرامة الإنسان
ديسمبر 11, 2023بأقلام الباحثات :
ملامح التكرير في ” الأيام ” لطه حسين
الباحثة بشرى أمين ( لكناؤ )
شأن البلاغة شأن سائر العلوم العربية والإسلامية وأثرها على مناهج اللغة العربية ، والبلاغة تضم جوانب كثيرةً من الموضوعات الخاصة بها ، ومنها التكرير من نوع الإطناب .
التكرار/التكرير : هذا النوع من علم البيان ، وهو : ذكر الشيئ أكثر من مرة واحدة ، وربما اشتبه على أكثر الناس بالإطناب مرةً ، وبالتطويل أخرى .
أنواع التكرير : قسم ابن الأثير الحلبي التكرار إلى قسمين هما :
(أ) يوجد في اللفظ والمعنى ، مثل ” أسرع أسرع ” .
(ب) يوجد في المعنى دون اللفظ ، مثل : ” أطعني ولا تعصني ” ، فإن الأمر بالطاعة هو النهي عن المعصية ” [1] . فصار عندنا معنيان : معنى نحوي أساسي طلبة النحويين ، ومعنى مقامي بلاغي طلبة البلاغيين ، وهذا هو المراد هنا .
أغراض التكرير : وقد عرف على أنه : ” ذكر الشيئ مرتين أو أكثر ” ، وأورد البلاغيون أغراضاً كثيرةً للتكرير ، نورد منها :
(أ) تأكيد الإنذار وتقرير المعنى في النفس : كقوله تعالى : ( كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) [2] ، فالآية الأولى ( كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) فيها زجر وإنذار لمن ألهاهم التكاثر عن الدار الآخرة والسعي لها ، والآية الثانية ( ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) تأكيد لها الإنذار ، وهذا هو غرض الإطناب بالتكرير في هذا الموطن وأمثاله .
(ب) الترغيب في النصح باستمالة قلوب المخاطب : كقوله عز وجل: ( وَقَالَ ٱلَّذِيۤ آمَنَ يا قَوْمِ ٱتَّبِعُونِ أَهْدِكُـمْ سَبِيـلَ ٱلرَّشَـادِ . يا قَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ ٱلآخِرَةَ هِىَ دَارُ ٱلْقَـرَارِ ) [3] ، ففي تكرار ( يا قَوْمِ ) استمالة للقلوب [4] .
(ج) الحثّ على شكر نعمة من النعم : كقوله تعالى : ( فَبِأَىِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) [5] ، التي كرّرت في السورة واحداً وثلاثين مرّةً باللفظ نفسه ، حثاً للجنّ والإنس على وجوب شكر نعم الله التي لا تُعد ولا تُحصى .
(د) التحسر : كقول الشاعر الحسين بن مطير يرثي معن بن زائدة :
فيا قـــبـــر مـــعــن أنت أوّل حفرة من الأرض خطت للسماحة مضجعا
ويا قبر معن كيف واريت جوده وقـــد كــان مــنـه البرّ والبحر مترعا
فالعرض من تكرار عبارة ( يا قبر معن ) هو إظهار الحسرة والأسى على معن بن زائدة .
(هـ) طول الفصل : وهو تكرار الكلام لداعي الإطالة ؛ يعني أن يأتي في بداية الكلام لفظ ثمّ بعده يأتي كلام طويل مرتبط به ، ويحدث هذا كثيراً في أحاديث الناس ؛ لأنّ طول الفصل قد ينسى السامع ما كان فيه المتكلم ، فيكرّر العبارة لربط الكلام السابق باللاحق ، ومن الأمثلة على هذا النوع : ( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ . قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِى وَلِىَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ ) [6] ، ومثاله قوله تعالى : ( لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [7] . فكرّر ( فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ ) لطول الفصل بين الأوّل ومتعلّقه وهو بمفازة من العذاب .
وذاك خشيةً من أن يكون الذهن قد غفل عمّا قيل في بداية الكلام . ( فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ ) لطول الفصل بين الأوّل ومتعلّقه ، وهو بمفازة من العذاب ، وذلك خشية من أن يكون الذهن قد غفل عمّا قيل في بداية الكلام [8] .
(و) التلذذ بذكره : مثل كقول مروان بن أبي حفصة :
سقى الله نجداً والسلام على نجد ويا حبذا نجد على القرب والبعد [9]
نبذة من حياة طه حسين :
ناقد مصري أديب وروائي وباحث طه حسين الذي لقب بعميد الأدب العربي ، رغم أنه فقد بصره لكنه أضاء العالم من حوله بكتاباته ، اسمه الكامل طه بن حسين بن علي بن سلامة ، عاش من عام 1989م إلى 1973 من الميلاد ، أمه رقية وأبوه حسين بن علي ، إنه دخل الأزهر في عام 1902م من الميلاد للدراسة الدينية واللغوية بها ، وبقي به حتى عام 1908م . وأعجب هناك بالشيخ سيد علي المرصفي . ولزم دروسه التي كان يقرأ فيها ” الكامل ” للمبرد و ” الأمالي ” لأبي علي القالي و ” الحماسة ” لأبي تمام ، فلما فتحت الجامعة المصرية أبوابها من عام 1908م من الميلاد ( التي أصبحت جامعةً حكوميةً من عام 1925م ) ، فالتحق بالجامعة . كان طه حسين أول المنتسبين إليها ، وبقي فيها من عام 1908م إلى 1914م من الميلاد ، حين تقدم برسالته عن ذكرى أبي العلاء ، وكانت أول رسائل الدكتوراه في الجامعة المصرية . ثمّ التحق بالجامعة مونبلية في أوروبا حيث درس الأدب الفرنسي ، واللّغات الفرنسية واليونانية واللاتينية [10] . حيث نال الدكتوراه الثانية في الفلسفة على رسالته ، فلسفة ابن خلدون الاجتماعية ، ونال شهادة الدراسة العليا في التاريخ ثم عاد إلى مصر وتولّى التدريس بالجامعة المصرية من عام 1925 من الميلاد . ويتوزع إنتاجه الثري والمتنوع بين الدراسات والتأليف القصصي عنده إلى تخييلي ومرجعي .
ومن بين كتبه التي اشتهر بها طه حسين نجد كتاب ” الأيام ” الذي يتمحور حور سيرته الذاتية التي لاقت انتشاراً واسعاً من طرف الملتقين ، وهي قصة جميلة حياتية موضوعية ، تتسم بالتواضع والاعتراف بالأخطاء والصبر على مصائب الحياة .
توفي طه حسين في عام 1973م عن عمر ناهز ٨٤ عاماً .
ملخص الأيام ( الجزء الأوّل ) :
الأيام أشهر كتب السيرة الذاتية في القرن العشرين الميلادي ، كتاب عن أيام أتت وولّت على طه حسين يسردها في هذا الكتاب ليقص بها قصة حياته : طفولته وقريته حتى بزوغ نجمه ، فيه الكثير من الكفاح والحزن ، ويشتمل هذا الكتاب على ثلاثة أجزاء ، تضمن الجزء الأول تصويراً لطفولته المعذبة التي عاشه فيها . وتناقش أيضاً عن الجهل في الريف المصري في الماضي والعادات والتقاليد الحسنة والسيئة في ذلك الوقت ، على الرغم من أنه فقد بصره وانطوى على ذاته إلا أنه لا يزال يمتلك البصيرة التي جعله يشعر بما حوله بأحاسيسه الدقيقة . وهو يتحدث لنا أحداثاً ممتعةً عن ذكريات بيته ووالده وأسرته وأساتذته في الكتاب والمساجد وحلقات الذكر وغيرها في أسلوب جذاب مختلط بالسخرة الحادة عن عادات مصر في ذلك الوقت .
أما خصائص طه حسين في رواية السيرة الذاتية : فهي : مخاطبة القارئ ومجادلته والتأثير فيه ، والإيقاع الموسيقى الناتج عن الجمل القصيرة ، ويتحدث بضمير الغائب ، وليس المتكلم ليتحاشى موقف المعلق والمفسر من زاوية الصبي وحده بتلوين صورة تلائم التطور النفسي والعقلي للطفل ، واعتماده على حواس غير البصر ، مثل السمع ، ويكثر في أسلوبه الإطناب والاستطراد وأفكاره تعتمد على التحليل والاستقصاء .
التكرير ومظاهره في الأيام ( الجزء الأول ) :
(1) ” لا يذكر لهذا اليوم اسماً ، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنّة ، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتاً ، وإنما يقرّب ذلك تقريباً ” [11] . يقول مؤلف الكتاب في هذه الجملة أنّه لا يمكن له أن تقرر هذا اليوم كما يحدد الله تعالى الأيام والأشهر وغيرها ، إنما يقرّب لذلك تقريباً فقط . لا يحتاج هنا زيادة اللفظ ، لأنّ الجملة ” لا يذكر لهذا اليوم اسماً ” كامل المعنى ، لكن الكاتب أراد أن يوّكد أكثر .
(2) ” إذا كان قد بقي له من هذا الوقت ذكرى واضحة بينة لا سبيل إلى الشك فيها فإنما هي ذكرى هذا السياج الذي كان يقوم أمامه من القصب والذي لم يكن بينه وبين باب الدار إلا خطوات قصار ، هو يذكر هذا السياج كأّنه رآه أمس ، يذكر أن قصب هذا السياج كان أطول من قامته . . . قصب هذا السياج . . . السياج . . . ” [12] . كرر الأديب اللفظ ” هذا السياج ” أكثر من مرة وبنفس المعنى ، فدلالة السياج هنا وعلى حسب التأثير النفسي الذي تركته في نفسية الأديب تدل على السجن ، فيكتشف القارئ أو المتلقي لهذه العبارات أن الروائي يعمد التكرار ليؤكد المعنى ويقويه أكثر ويوضح للمتلقي أن فقدانه للبصر بمثابة سجن مظلم إضافة إلى غرض الاسترجاع والتذكير بالألم والحبس والحزن والتحصر والأسى في نفس الكاتب .
(3) ” ولم يكن هذا الماء نقيّاً دائماً ، ولم يكن هذا النوع من ريِّ الظمأ ملائماً للصحة ، فانتهى به الأمر إلى أن أصبح ممعوداً ، وما استطاع أحد أن يعرف لذلك سبباً ” [13] . غرض التكرير في هذه الجملة طول الكلام والتأكيد على القارئ ، و ” لم يكن هذا الماء نقياً دائماً ” ، هو نفس المعنى في قوله : ” لم يكن هذا النوع من ريِّ الظمأ ملائماً للصحة . . . ” .
(4) ” وبينما كان صاحبنا يرشو ويرتشي ، ويَخدع ويُخدع ، كان القرآن يمحي من صدره آيةً آيةً ، وسورةً سورةً ، حتى اليوم المحتوم . . . ويا له من يوم ! . . . ” . ففي هذا المثال تكررت عدة ألفاظ لكن بمعنى متحد فمثلاً ” آية ، آية ، وسورة ، سورة ، يوم ، يوم ” ، فطه حسين بتكراره قد أشار وبّين صفات في صاحبه تكمن في الرشوة والخداع ، وهذا ما جاء القرآن يمحي من صدره وهذا النوع من التكرار غرضه شدة التوضيح بالمهجو وتوكيد الكلام في هذا الموضع .
(6) ” وهو ينتظر أنّ تدور به الأرض وينشقّ له الحائط ، ويمثل الخادم بين يديه ، ولكنّ شيئاً من ذلك لم يكن . وخرج الصبيّ إلى صاحبه هادئاً مطمئناً فأخبره أن قد دارت الأرض وانشقّ الحائط ومل الخادم بين يديه وسمع منه حاجته ” [14] . غرض الكاتب من هذا التكرار في قوله هو توضيح المعنى أكثر على القارئ وتأكيده .
(7) ” وأخذ الصبيّ يقرأ القرآن على المفتش من أوله ، وأخذ المفتش يعلّمه مواضع الوقف والوصل . وأخذ الصبيّ يقلِّد المفتش في ترتيله يحاكي نغمه ، وأخذ يقرأ القرآن على هذا النحو في الكُتّاب ” [15] . غرض الأديب من هذا التكرار هو توضيح المعنى والتأكيد أكثر .
(8) ” وما هي إلاّ أن استحال الحديث إلى لعب ، إلى لعب كلعب الصِّبيان لا أكثر ولا أقلّ ، ولكنّه كان لعباً لذيذاً ” [16] . في هذه الجملة غرض الكاتب بتكرير اللفظ ” لعب ” هو تقرير المعنى في نفس القارئ .
هنا نختتم بالقول في الأخير أنّ طه حسين كان رجلاً أعمى ، فلم يكتب سيرته الذاتية بنفسه لكنّه أملاها ، ولم يستطع قراءة ما يمليه عليه ، لذلك هناك توجد كثير من تكرار الجمل والألفاظ في سيرته الذاتية ” الأيام ” .
[1] ابن الأثير ضياء الدين ، المثل الثائر في أدب الكاتب والشاعر ، دار النهضة مصر لطبع والنشر ، ج 3 ، ص ٢٥ .
[2] سورة التكاثر ، الآية 3 – 4 .
[3] سورة غافر ، الآية ٣٨ – ٣٩ .
[4] أحمد قاسم محمد ، محي الدين ديب ، علوم البلاغة البديع والبيان والمعاني ، ط 1 ، 2003م ، ص 363 .
[5] سورة الرحمن ، الآية 13 .
[6] سورة طه ، رقم الآية 17 – 18 .
[7] سورة آل عمران ، الآية 188 .
[8] عبد العزيز عتيق ، علم المعاني في فلسفة البلاغة العربية ، الإسكندرية ، منشورات كلية الآداب – جامعة الإسكندرية : ص 323 .
[9] فيصل حسين طحمير العالي ، البلاغة الميسرة في المعاني والبيان والبديع ، ط 1 ، دار الثقافة للنشر والتوزيع ، عمان : الأردن ، 1995م ، ص 194 .
[10] أمين ، أحمد ، حياتي ، ( مقدمة الكتاب ) ، مكتبة إحسان ، لكناؤ ، ص ٩ .
[11] حسين ، طه ، الأيام ، مكتبة إحسان ، لكناؤ ، مايو 2010م ، الجزء الأوّل ، ص 3 .
[12] المرجع نفسه ، ص ٤ .
[13] المرجع نفسه ، ص 23 – 24 .
[14] حسين ، طه ، الأيام ، مكتبة إحسان ، لكناؤ ، مايو 2010م ، الجزء الأوّل ، ص 120 – 121 .
[15] المرجع نفسه ، ص 122 .
[16] المرجع نفسه ، ص 125 .