حجـة الـوداع آية بينـة ومعجـزة خـالدة

البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( سور البروج والطارق والأعلى والغاشية والفجر والبلد والشمس والضحى والشرح والتين والعلق والقدر والبينة والعاديات والقارعة )
يونيو 3, 2022
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( سور التكاثر والهمزة والفيل وقريش والماعون والكافرون والنصر والمسد والصمد والفلق والناس )
يوليو 11, 2022
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( سور البروج والطارق والأعلى والغاشية والفجر والبلد والشمس والضحى والشرح والتين والعلق والقدر والبينة والعاديات والقارعة )
يونيو 3, 2022
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( سور التكاثر والهمزة والفيل وقريش والماعون والكافرون والنصر والمسد والصمد والفلق والناس )
يوليو 11, 2022

التوجيه الإسلامي :

حجـة الـوداع

آية بينـة ومعجـزة خـالدة

بقلم : الإمام الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي

مما أكرم الله به الأمة الإسلامية من بين أمم العالم ، وخص به الإسلام من بين الأديان هذا الحج الذي لم يُعرف في تاريخ الديانات والنظم والشعوب والأمم نسك يضاهيه في التأثير والإصلاح ، وربط القلوب بالله ، وإثارة الحنان والأشواق ، وتسليتها ، وتحقيقها بالطريق الأمثل ، وتجديد الصلة بأصل الملة ومؤسسها ، وشحن النفوس بالقوة والإيمان الجديد ، وإشعال مجامر القلوب بالحب والحنان ، والتمرد على الأوضاع والعادات ، والتحرر من ربقة الأعراف ، والدعوة إلى التوحيد والدين الخالص ، والتجرد من كل مظاهر الشرك والوثنية ، والسمو على الحواجز المكانية ، والفوارق الإنسانية ، وفي تحقيق مقاصد التعليم والتربية ، والتبليغ والدعوة ، وفي عصمة هذا الدين عن التحريف ، وفي وقاية هذه الأمة عن الانحراف العام ؛ وعن وقوعها فريسةً لتحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، وفي المحافظة على أصل واحد ونبع واحد ، وفي توطين النفوس على المشاق والمكاره ، وأن تبقى هذه الأمة طوع إشارة ، ورهينة أمر ، لا تتشبث بعادة ، ولا تعبد مألوفاً [1] ، ولا أبلغ من قوله تعالى : ( لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ) [ الحج : 28 ] .

وقد كانت حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين من الآيات البينات والمعجزات الخـالـدات ، فقد كانت فريدةً من بين سيـر الأنبياء وعباداتهم ، ومناسكهم فضلاً عن سائر الناس ، وقد كانت فريدةً من نواح كثيرة ، كانت فريدةً من الناحية التعليمية والبلاغية ، فريدةً من الناحية الإصلاحية والتربوية ، فريدةً من الناحية الباطنية والروحية ، فريدةً في مدى اهتمام الناس الذين أكرمهم الله بالسير في ركابه ، وحضور الموسم معه بتتبع آثاره ، وحفظ أخباره ، ومراقبة حركاته وسكناته ، وتسجيل غدواته وروحاته ، وفي مدى اعتناء طبقات الأمة من السلف إلى الخلف بكل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم في هذا السفر من قول ، أو عمل ، أو عادة ، أو عبادة ، أو نفي ، أو إثبات ، أو تقرير ، أو إنكار ، فقهاً واستنباطاً للأحكام . واستخراجاً للجزئيات ، وتفريعاً للفروع ، وعلت في ذلك هممهم ، ودقت فيه أفهامهم ، ورق فيه شعورهم ، حتى عصروا في ذلك أذهانهم ، وعقولهم ، وبلغوا في الدقة والتفصيل غايةً ما وراءها غاية ، ولم يكن الفضل في ذلك وحده للعلم ، ولا للعقل وحده ، وقد جربنا نشاط العلم والعقل ، ومدى وفائهما لموضوعهما في تدوين رحلات العلماء وتاريخ الزعماء ، فقد فاتهم الشيئ الكثير الذي ليست له قيمة علمية ، أو أهمية تاريخية ، بل كان في ذلك نصيب كبير للحب الذي لا يغفل ، ولا يلهو ، ولا يمل ، ولا يني ، ولا يتخلى عن شعرة من الشعرات ، ولا يتنازل عن ذرة من الذرات ، بل يتمسك بها ، كأنها أفضل بضاعة ورأس مال ، بل كأنها حشاشة نفس ، وحبة قلب .

وقد رافق الحب العقل في هذه الرحلة الطويلة المباركة منذ أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج ، وأقبل إليه المسلمون من كل صوب ، وتهافتوا عليه تهافت الفراش على سراج منير ؛ فلم يفترقا ، حتى عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وقد راقبا سيره ،   ووقوفه ، وأقواله ، وأفعاله ؛ فحفظا للأمة والأجيال القادمة سجلاً   دقيقاً ، وكتاباً ناطقاً ، بل صورة مشرفة لهذه المرحلة الكريمة ، يرى فيها المسلم مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ،    فمنى ، فعرفات ، ورجوعه صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، ثم قفوله للمدينة ، يراه يطوف ، ويسعى ، ويسمعه يفتي ، ويعلِّم ، ويخطب ، ويتكلم ، ويشهد المشاهد كلها ، كأنه رأي عين ، وحديث أمس ، فيعوض ذلك عن هذا الركب الميمون ، وعن إدراكه لهذه السعادة العظمى ، ويمثل له الغائب ، ويعيد إليه الماضي ، فيتعزى بذلك ، ويحمد الله ، ويعترف لأولئك العشاق المتيمين ، والرواة الأمناء المدققين بالفضل والإحسان ، ويدين لهم بالشكر والامتنان ، فما صنعت أمة بنبيها مثل هذه الأمة ، ولا حرصت على تخليد آثاره ، ورواية أخباره ، ونقل دقائقه وجلائله مثل ما حرصت هذه الأمة ، ولا اعتنى علماء دين بدراسة عبادة من عبادات أنبيائهم ، مثل ما اعتنى علماء هذه الأمة بهذه الحجة ، ولا تعمقوا مثل تعمقهم في ذلك .

وقد دلت كل القرائن على أن هذه الحجة كانت مقصودةً من الله بهذا التفصيل ، ولم تكن فلتةً من الفلتات ، بل جاءت في وقتها المناسب ، وقد جعل الله لكل شيئ قدراً . وكانت في تأخيرها إلى هذا الوقت حكمةً بالغةً ، ومصلحة راجحة ، فقد انتشر الإسلام في جزيرة العرب ، وكثر المسلمون ، وقوي الإيمان ، وشب الحب ، واستعدت النفوس للتعلم والاستفادة وهفت ، ورنت العيون إلى المشاهدة والمراقبة ، ودنت ساعة الفراق فألجأت الضرورة إلى وداع الأمة ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحج البيت ، ويلقى المسلمين ، ويعلمهم دينهم ومناسكهم ، ويؤدي الشهادة ويبلغ الأمانة ، ويوصي الوصايا الأخيرة ، ويأخذ من المسلمين العهد والميثاق ، ويمحو آثار الجاهلية ، ويطمسها ، ويضعها تحت قدميه .

فكانت هذه الحجة تقوم مقام ألف خطبة ، وألف درس ، وكانت مدرسةً متنقلةً ، ومسجداً سياراً ، وثكنةً جوالةً ، يتعلم فيها الجاهل ، وينتبه الغافل ، وينشط فيها الكسلان ، ويقوى فيها    الضعيف ، وكانت سحابة واحدة تغشاهم في الحل والترحال ، هي سحابة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وحبه وعطفه ، وتربيته ، وإشرافه .

وقد كان من آثار نضج المسلمين العقلي ، وقوة حبهم ، وشدة تعلقهم بكل ما يصدر عن هذه الشخصية الحبيبة المفدَّاة أن سجلوا كل دقيقة من دقائق هذه الرحلة ، وكل حادث من حوادثها الصغيرة ، لا يحتفل بأمثالها في رحلات العظماء والرؤساء ، والملوك والأمراء ، والعلماء والنبغاء ، وذلك شأن المحب الوامق ، والعاشق الصادق ، الذي يرى كل شيئ لمحبوبه حسناً ، فيتلذذ بذكره ، ويسترسل في حديثه ، لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا يحصيها ؛ ولا دقيقةً نادرةً إلا يستقصيها .

يتطيب رسول الله عند إحرامه فيذكرون من باشر هذا التطيب ، ويذكرون نوع هذا الطيب ، فيقولون : ” ثم طيبته عائشة بيدها بذريرة [2] وطيب فيه مسك ، حتى يرى وبيص المسك في مفارقه ولحيته صلى الله عليه وسلم ، وشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه ، فيذكرون تفصيله ، وتحديده ، هل كان في الجانب الأيمن ، أو الأيسر ، وكيف سلت عنها الدم . ويذكرون احتجامه ، والاحتجام فعل طبي طبعي لا صلة له بمناسك الحج ، فيحددون مكانه من الجسم ، وموضعه من الطريق ، فيقولون : ” واحتجم بملل ؛ وملل موضع بين مكة والمدينة على سبعة عشر ميلاً من المدينة ” ، ويقولون : واحتجم على رأسه بلحى جمل ( وهو موضع في طريق مكة ) . وتهدى له قطعة لحم ، وهي حادثة عادية ، تتكرر ، ولا تسترعي الاهتمام في عامة الأحوال ، فيذكرونها بالتحديد    والتفصيل ، فيقول الراوي : ” حتى إذا كانوا بالأبواء أهدى له الصعب بن جثامة عجز حمار وحشي ” . ويحددون المنازل بين المدينة ومكة ، ويعدون أيامه في السفر ، وذلك في زمان لم يعرف الناس فيه كتابة اليوميات ، وتدوين المذكرات ، ولكن الحب يهم ويخترع ، فيقول الراوي : ثم نهض إلى أن نزل بذي طوى ، فبات بها ليلة الأحد لأربع خلون من ذي الحجة ، وصلى بها الصبح ، ثم اغتسل من يومه ، ونهض إلى مكة . ولم تفتهم شاردة ولا نادرة في هذه الرحلة التي كثرت فيها الشواغل ، وتعددت فيها المنازل ، واشتد فيها الزحام ، فلم يفتهم أن يقيدوا خروج حية في هذا المشهد الحافل ، وإفلاتها من القتل ، فيقول الراوي ، وهو يذكر ليلة منى : ” وخرجت حية وأرادوا قتلها فدخلت في جحرها ” . ويذكرون كل من كان رديف [3] رسول الله في هذه الرحلة ؛ ويذكرون اسم الحلاق ، وكيف قسم شعره ، ومن خصهم بالشق الأيمن ، ومن خصهم بالشق الأيسر ، وهذه كلها تفاصيل و دقائق لم يكن مصدرها إلا الحب العميق .

ومن العبث وإضاعة الوقت أن يبحث نظائرها في رحلات القادة ، وتاريخ المشاهير ، وقد أخلّت أمم كثيرة بحياة أنبيائها وسيرهم وأخبارهم ، ومراحل حياتهم ، وضيعوا منها الشيئ الكثير الذي لا تكمل حياتهم ، ولا يتم تاريخهم إلا به ، ولم يحافظوا إلا على النزر اليسير من أخبارهم وأحوالهم ، فجل ما نعرف من حياة سيدنا المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام هو أخبار السنوات الثلاث الأخيرة من سيرته وأخباره ؛ وهنالك أصحاب رسالات وديانات في بلاد متمدنة عريقة في العلم لم تبق إلا أسماؤهم ، ونتف من أخبارهم ، لا تشفي العليل ، ولا تروي الغليل ، ولا تقود الأجيال ، ولا تنير السبيل .

وقد كان الحج بطبيعته ، ووضعه الخاص ؛ الذي يمتاز به عن سائر الأركان ، وانتقاله من طور إلى طور ، ومن فعل إلى فعل ، ومن نسك إلى نسك ، ومن مكان إلى مكان ، وما يتعلـق بـه مـن الأحكام والآداب والجزئيات ، وتنوع أحوال الناس فيه من أوسع أبواب الفقه ، وأكثرها أحكاماً ، ومسائل وأدقها ، ولذلك عُني به العلماء قديماً وحديثاً ، انفرد بعلمه والإفتاء فيه علماء مختصون من التابعين ، وأتباع التابعين بعدهم ، وكان يُشار إليهم بالبنان ، وقد يعينهم الخلفاء ومن بيدهم الحل والعقد ؛ فيعلن : ” لا يفت في الموسم إلا فلان وفلان ” وجرت سنة الخلفاء الراشدين وخلفاء بني أمية وبني العباس بتعيين أمير الحج ، وإرساله للحج [4] .

أكثر علماء الإسلام وفقهاء الأمصار والمؤلفون الكبار البحث فيه ، وتوسعوا فيه توسعاً لم يعرف لغيره من أبواب الفقه ، ومنهم من أفرد له تأليفاً ، وألف كتاباً خاصاً في المناسك ، وإذا أفردت هذه الكتب التي ألفت المناسك وأحكام الحج في عصور مختلفة ، وفي بلاد مختلفة ، وفي لغات مختلفة ؛ كونت مكتبةً كبيرةً ، ومن المؤلفين من اختص بمذهبه ومنهم من ذكر المذاهب الأخرى ، واستعرض دلائلها ، وبحث بحثاً مقارناً ، ومنهم من أفرد كتاباً بحجة الوداع .

وكل ذلك يدل على مكانة الحج في الإسلام ، ومدى عناية الأمة به ، وقد كانت هذه الفريضة التي تفرض مرةً في العمر ، وما ورد فيها من الفضائل ، وما وعد الله عليها وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم من الأجر العظيم ، والثواب الجزيل ، والمغفرة من الذنوب : ( من حج ، فلم يرفث ، ولم يفسق ؛ رجع كيوم ولدته أمه ) ، وما يستتبع هذا السفر عادةً من الاهتمام الزائد ، وتحمل المشاق ، وركوب البحار حيناً ، وقطع البراري والقفار حيناً آخر ، وتجشم الأخطار ، والتعرض للمخاوف ، وفراق الأهل والوطن ، وقبول التزامات الإحرام ومحظوراته ، والابتعاد عن الرفث والفسوق والجدال ، كان كل ذلك كافلاً بأن تتوافر الدواعي ، وتشحذ العزائم ، وتتوجه الهمم إلى معرفة فقهه وآدابه وسنته ، وبذل أقصى الطاقة في إحسانه وإكماله ، وأن تقتفى فيه آثار النبي صلى الله عليه وسلم وتتبع سننه ، ويقتدى بهديه بقدر الإمكان وإلى ما يبلغه جهد الإنسان ، فكان كل ذلك باعثاً على العناية بحجة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت ولا تزال الحجة المثالية لكل مسلم في كل عصر ومصر إلى أن يرث الله هذه الأرض ومن عليها .

[1] ليرجع في مقاصد الحج وأسراره إلى كتاب ” حجة الله البالغة ” لحكم الإسلام الشيخ ولي الله الدهلوي – رحمه الله – .

[2] وقد أفاض الشراح في وصف الذريرة وأنواعها ، وهي نوع من الطيب .

[3] وقد استوعب صاحب نسيم الرياض أسماء كل من أردفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فذكر نحو ثمانية وثلاثين رديفاً ، وزاد ابن مندة على هذا العدد .

[4] راجع البداية والنهاية ، لابن كثير وغيره من كتب التاريخ .