تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم : مصالحه وحِكَمه ( السيدة عائشة والسيدة زينب رضي الله عنهما نموذجاً )
يونيو 3, 2022الاتجاهات الحديثة في الأدب العربي : أدب المهجر
يونيو 3, 2022دراسات وأبحاث :
بين المحكم والمتشابه في القرآن الكريم
الأستاذ أسعد قاسم السنبهلي القاسمي *
مما يؤكد عليه الكتاب والسنة أن الله – سبحانه وتعالى – أنزل كثيراً من الصحف على الأنبياء والرسل ، لهداية الشعوب والأمم ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، آخرها القرآن الكريم ، الذي جاء به النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ليكون بلاغاً للناس ، ورسالةً إليهم كافةً ، فليس فيه غموض ولا عوج ، ولا تعقيد ولا شطط ، آياته بينة واضحة ، وتعاليمه صافية نقية ، وعقائده راسخة ثابتة ، وأحكامه طبيعية سهلة ، ودعوته قوية مفهومة ، تكاد تصل إلى القلوب والأذهان قبل سمعها وبصرها ، اللهم إلا آيات محدودة يسيرة ، وصفها الله سبحانه وتعالى بالمتشابهات ، وأنزلها تفخيماً لأمره ، وتعظيماً لقدره ، وإظهاراً لمعجزته ، وذلك بحث قيم في علوم القرآن ، ومهمات التفسير ، ولم يزل العلماء سلفاً وخلفاً يجهدون نفوسهم في سبيل شرحها وتحديدها ، والبحث عن حقائقها ومعانيها منذ القرون الأولى حتى العصر الحديث .
وقبل أن نخوض في أعماق الموضوع وأبعاده ، يناسبنا أن نعرِّف القراء المحكم والمتشابه لغةً ومعنىً في ضوء ما نقل الإمام الراغب الأصفهاني ( م ١١٠٦هـ ) وغيره من فقهاء اللغة ، وعلماء الأدب والأصول يقولون : حكم : أصله منع منعاً لإصلاح ، أي منع نفسه ، ومنع الناس عما لا ينبغي ، ومنه سميت اللجام : حَكمَة الدابة ، أي : جعلتُ لها حَكمَة ، وقيل حكمتُها وأحكمتُها ، وكذلك حكمتُ السفيه وأحكمتُه ، فالإحكام يستعمل في معان متعددة لكن مع تعددها ترجع إلى معنى واحد ، هو المنع ، فيقول العرب : أحكم الأمر أي أتقنه ، ومنعه عن الفساد [1] قال جرير :
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
ونظراً إلى عظمة القرآن معناه : إنه كلام منظم رصين ، متقن فصيح ، لا يتطرق إليه الخلل لفظياً ولا معنوياً ، ولا ينتابه تصدع ولا وهن ، إنه يصدق بعضه بعضاً ، ويفرق بين الصدق والكذب ، ويميز الحق من الباطل ، تتفق معانيه وإن اختلفت ألفاظه ، فإذا أمر بشيئ لم يأمر بنقيضه ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ، وأما المتشابه فهو مأخوذ من التشابه أي يشبه بعضه بعضاً ، حتى لا يتميز أحد الشيئين من الآخر ، لما بينهما من التشابه عيناً كان أو معنىً ، كما قال تعالى : ( وأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً ) [2] أي في الصورة واللون ، لا في الحقيقة والطعم ، ومنه حكاية عن بني إسرائيل ( إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) [3] فبمقتضي اللغة والأدب يشابه القرآن الكريم بعضه بعضاً في صحة المعاني ، وجزالة الألفاظ ، وجودة الأسلوب ، وحسن التركيب ، وبلوغه حد الإعجاز في الظاهر والباطن ، وفي هذا المعني ورد ما نقله السيوطي [4] وغيره عن الإمام الحسين محمد بن حبيب النيسابوري من ثلاثة أقوال : الأول : إن القرآن كله محكم ، والثاني : إن القرآن كله متشابه ، فكلاهما يعنيان الإحكام والتشابه عاماً ومطلقاً ، من ناحية اللغة والبلاغة استدلالاً بما جا ء في الكتاب المقدس ( كتَابٌ أُحْكمَتْ آيَاتُهُ ) [5] ، ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كتَاباً مُتَشَابِهاً ) [6] وأما القول الثالث : فهو إن القرآن جله محكم ، وبعضه متشابه ؛ فليس المراد بالإحكام والتشابه هناك لغوياً وأدبياً كما كان في الأول والثاني بل وإنما هو ورد شرعاً واصطلاحاً حسبما ذكره الله تعالى في قوله : ( هُوالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) [7] اختلف العلماء كثيراً في تحديد المحكم والمتشابه بآراء وأقوال ، تتقارب حيناً ، وتتباعد آخر ، لا نزعج القراء بنقلها جميعاً بل نختار من بينها ما رجحه العالم العربي الأصولي الدكتور مناع القطان في تأليفه ” مباحث في علوم القرآن ” وذلك فيما يأتي مع شرح وتفصيل :
- قال حبر الأمة سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه : إن المحكم ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً من التأويل ، وأما المتشابه فهو ما احتمل أوجهاً ، وعليه أكثر الأصوليين .
- قال سيدنا الإمام أحمد بن محمدبن حنبل ( م 241هـ ) : إن المحكم ما استقل بنفسه ، ولم يحتج إلى بيان ، وأما المتشابه فهو الذي لا يستقل بنفسه ، بل يحتاج إلى بيان ، حيناً يفسر بكذا ، وحيناً يؤول بكذا ، لوقوع الاختلاف في تأويله .
- قال العلماء – وعليه أهل السنة والجماعة – : إن المحكم ما عرف مراده ، إما بظهوره وإما بتأويله ، وأما المتشابه فهو ما استأثر الله بعلمه كالحروف المقطعة في أوائل السور ، وخروج الدابة بآخر الزمن ، وقيام الساعة [8] يعلق عليه الدكتور صبحي صالح في كتابه القيم ” مباحث في علوم القرآن ” قائلاً :
وقد حمل هذا التقابل العلماء على تعريف كل من المحكم والمتشابه ، فكثرت آراؤهم في هذا الموضوع ، وتعددت وجهات نظرهم ، ولكن آراءهم تؤول في النهاية إلى أن المحكم هو الذي يدل على معناه بوضوح ، لا خفاء فيه ، والمتشابه هو الذي يخلو من الدلالة الراجحة على معناه ، فيدخل في المحكم النص والظاهر ، أما النص فلأنه اللفظ الذي وضع للمعنى الراجح المتبادر ، ويدخل في المتشابه المجمل والمؤول والمشكل ، لأن المجمل يحتاج إلى تفصيل ، والمؤول لا يدل على معنى إلا بعد التأويل ، والمشكل خفي الدلالة [9] .
وأمثلة المحكم كثيرة شائعة في القرآن الكريم من الإنذار والتبشير ، والأمر والنهي ، والحلال والحرام ، والفرائض والحدود ، والوعد والوعيد ، والثواب والعقاب ، والأحكام والعبادة ، وقصص الأنبياء ، وأحوال الأمم ، وتقلبات الزمن ، وحوادث التاريخ ، وما إلى ذلك مما صرح به الكتاب ، وليس فيه شيئ من الإجمال والخفاء ، وأما المتشابه فقد قسّم حسين بن المفضل أبو القاسم الإمام الراغب الأصفهاني ( م ١١٠٦هـ ) على ثلاثة أضرب : الأول : الذي لا سبيل إلى الوقوف عليه ، كميعاد الساعة ، وخروج الدابة ونحو ذلك ، والثاني : الذي يمكن الوصول إلى معرفته كالألفاظ الغريبة ، والأحكام المغلقة ، والثالث متردد بين الأمرين ، يختص به بعض الراسخين ، ويخفى على من دونهم وهو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي ورد في شان ابن عمه عبد الله بن عباس ( رضي الله عنهما ) : ” اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ” [10] ثم شرحه الأصفهاني قائلاً : إن المتشابه ثلاثة أقسام : قسم يرجع خفاؤه إلى اللفظ ، والثاني ما يرجع خفاؤه إلى المعنى ، والثالث ما يرجع خفاؤه إلى كل من اللفظ والمعنى ، يكون الخفاء بالأول في المفرد ، ونظم العبارة ، كما ورد في سورة عبس وتولى ” وَفَاكِهَةٍ وَأبَّا ” فإن الأبّ متشابه هناك لغرابته ، وندرة استعماله في كلام العرب ، وأما النظم والتركيب فقد جاء مثاله بغرة سورة الكهف ” ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً ” فالخفاء في هذه الآية بين كلمة ” قَيِّماً ” وما قبلها ، لأنها تقع حالاً لصاحب حالها ” ٱلْكِتَابَ ” لكنها تأخرت عن مكانها ، فظهرت الغرابة ، وتقدير الآية ” ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ قَيِّماً وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ” وله في التنزيل أمثلة كثيرة ، عدَّها الأصفهاني في المفردات [11] ، لكن نقول وبالله التوفيق : إن ذلك القسم ليس من المتشابهات بل هو حقاً من المشكلات ، التي أفردها العلماء كموضوع مستقل في علوم القرآن .
والقسم الثاني الذي يرجع خفاؤه إلى المعنى يشمل عند العلماء ثلاث جهات : الأولى : أوائل السور التي وردت في فواتحها بحروف المعجم مثل : الم ، الر ، حم ، ص ، طسم ، وغيرها من المقطعات التي لا نفهمها أي فهم ، ولا نجد في الكتاب والسنة ما يشرحها وما يدل على معانيها ، ويشير إلى مقتضاها ، والثانية : أخبار الساعة ، وأهوال يوم النشور ، وعذاب النار ، ونعيم الجنة ، فإنها وردت بألفاظ تشابه معانيها ما هو معروف لدينا في الدنيا ، ولكن الحقائق غير ما نتصور ، وما خطر على قلب بشر ، وفي الساعة زلزلة الأرض ، ونسف الجبال ، وتكوير الشمس ، وانفطار السماء ، وتسجير البحار ، ونفخ الصور ، وبعثرة القبور ، ويكون بعد قيامها إحياء الأموات ، وحشر العباد ، وشدة الحر ، ونصب الميزان ، ومحاسبة الأمم وغيرها ، كما يواجه الكفرة والفجرة في جهنم صنوف العذاب ، من الغساق ، والحميم ، والسموم ، واليحموم ، وسرابيل القطران ، وشجرة الزقوم ، ويكون في الجنة أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [12] ، فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ، وأَكوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ونَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ، وزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [13] وفَاكهَةٍ كثِيرَةٍ ، لاَ مَقْطُوعَةٍ ولاَ مَمْنُوعَةٍ [14] وما إلى ذلك ، نؤمن بما جاء كله ، ولا نعرف حقيقته ، إلا أن الغائب أكبر من الشاهد ، وما في الآخرة أعظم مما على وجه الأرض ، فذلك كله متشابه كيفاً وحقيقةً ، لا معنىً وكلمةً .
وأما الجهة الثالثة فهي أسماء الله تعالى وصفاته العظمى ، التي وردت في الكتاب والسنة بما يشابه أعضاء العباد وصفاتهم ، مثل : الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [15] ، وجَاءَ رَبُّك والْمَلَك صَفّاً صَفّاً [16] وهُوالْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [17] ، يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [18] ، ويَبْقَى وَجْهُ رَبِّك ذُوالْجَلاَلِ والْإِكرَامِ [19] ، ولِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [20] ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [21] ، ويُحَذِّرُكمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [22] ، هذه صفات إلهية ، اختلف فيها الناس ، فقالت المشبهة : إن هذه الكلمات تجري على ظاهرها ، لا تؤول قطعاً ، وليس فيها مدخل للتأويل ، وذلك باطل عند أهل السنة والجماعة ، بينما ذهبت جماعة السلف إلى الإيمان بهذه الصفات وتفويض معانيها إلى الله سبحانه وتعالى ، كما سُئل الإمام مالك عن الاستواء فأجاب بما روي عن سيدتنا أم سلمى رضي الله عنها : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وزاد فيها الإمام ” من عاد إلى هذا السؤال عنه أضرب عنقه [23] ، وكذلك قال شيخ مالك بن أنس الإمام ربيعة بن عبد الرحمن : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، ومن الله البيان ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا الإيمان [24] ، وقد نقل الإمام الترمذي في حديث رؤية الله تعالى عن سفيان الثوري ومالك وابن المبارك ، وابن عيينه ، ووكيع ، قولهم : نروي هذه الأحاديث كما جاءت ، ونؤمن بها ، ولا نقول كيف ، ولا نفسر ولا نتوهم [25] ، فاتفق أهل السنة والجماعة من مشارق الأرض إلى مغاربها على أن الإيمان بالصفات واجب من غير تفسير وتشبيه ، كما نقل الإمام السيوطي رحمه الله .
وأما الطائفة الثالثة فهي الخلف من أهل السنة والجماعة ، إنهم يحملون الألفاظ التي يستحيل ظاهرها على معان ، تليق بذات الله سبحانه وتعالى ، فيحملون الاستواء على العلو المعنوي بالتدبير من غير معاناة ، ومجيئ الله على مجيئ أمره ، وفوقيته على العلو بغير الجهة ، وجنبه على حق الله ، ووجهه على ذاته ، وعينه على عنايته ، ويده على قدرته ، ونفسه على عقوبته ، هكذا يؤولون كل ما ورد من رضا الله وحبه ، وسخطه وغضبه ، علي سبيل المجاز ، مصرحين بأنهم لا يريدون من هذه الألفاظ والكلمات إلا بنتائجها ومستلزماتها ، وبذلك يتضح لكل ذي عين وقلب أنه لا منافاة بين السلف والخلف فيما يؤول إليه الأمر ، ويرجع الاختلاف أخيراً في معني التأويل ، الذي لا يعلمه إلا الله .
والقسم الثالث الذي أشار إليه الأصفهاني : هو ما يرجع خفاؤه إلى كل من الألفاظ والمعاني التي تتصل بالعموم والخصوص ، والندب والوجوب ، والمكان والشروط كما أشار إليه الشيخ الزرقاني في المناهل [26] لكنه في الواقع ليس من المتشابهات ، بل وإنما هو اختلاف في الكمية ، والكيفية ، والزمان ، والمكان ، والأمور والشروط ، فلا أهمية له عند العلماء ، فظهر لنا الآن أن المتشابه هو القسم الثاني فقط ، وأما الأول والثالث فلا علاقة لهما بالموضوع ، وبعد أن تم تعيين المتشابه ، وتحديد أنواعه وأقسامه يتشرف كاتب هذه السطور بأن يلخص كل ما أفاد العالم الرباني الكبير ، الشيخ أشرف على التهانوي رحمه الله من شرح الموضوع ، وجمع ما يتضمن من الأوجه والأنواع يقول في رسالته القيمة الوجيزة ” التواجه لما يتعلق بالتشابه ” : المتشابه ما لا يعلم تأويله إلا الله ، أو رسوله أيضاً على ما قال بعض العلماء ، وذلك على نوعين ، الأول : لا يتعرف أحد على معناه اللغوي ، فضلاً عن حقيقته ومراده ، كالحروف المقطعة ، وأما الثاني فقد يعرف معناه اللغوي ، لكنه يستحيل عقلاً وشرعاً كنسبة الجوارح إلى الله سبحانه وتعالى ، وذلك أيضاً على قسمين : أحدهما يدل على حقيقة ثابتة لغوياً بدون احتمال آخر ، مثل السمع ، والبصر ، والكلام ، والثاني : يدل على عدد من المعاني والمطالب لغوياً ، وله قسمان : الأول : يمكن ترجيح معنى من المعاني المشتركة بالدليل قطعياً أم ظنياً ، والآخر : لا يمكن ترجيح أحد بالدليل من المعاني والوجوه – فالحروف المقطعة يفوضها جميع العلماء إلى الله سبحانه وتعالى ، كما يجيزون تفسير السمع والبصر والكلام بما يليق بشأنه ، وإن لم يمكن ترجيح معنى من المعاني المشتركة وجب فيه السكوت ، كما لزم تعبيره باللفظ المنصوص إذا أمكن الترجيح لأحد منها مثل : استوى كما يليق بشأنه لكن هناك نظريتين : الأولى للسلف الذين يحملونه على المعنى الحقيقي ، وإن تعين مفهومه بالدليل القطعي أو الظني كما فسر بعضهم كلمة ” استوى ” بالعلو والاستقرار والاستيلاء والإقبال ، حسبما ورد في كتب اللغة وتفسير الإمام الطبري ، لكن يحمل معناه الحقيقي أي لا كاستقرارنا في الحاوية ولا كعلونا المقتضى للجهة ، ولا كاستيلائنا المسبوق بالعجز ، ولا كإقبالنا المسبوق بإدباره ، وأما الأخرى : فهي للخلف الذين يحملونها على المعاني المختلفة من المجاز والكناية ، ليدافعوا عنها الشبهات ، ويسهلوا مفاهيمها لدي ضعفاء العقول ، فيجب علينا – ونحن المقلدين – السلوك مسلك العلماء سلفاً وخلفاً كي لا نحيد قيد شبر عن الصراط المستقيم [27] .
وبعد الفراغ من توجيه المتشابه لغةً واصطلاحاً ، ومن شرح أقسامه وأنواعه ، ومن نقل ما أفاد العباقرة وأعلام التفسير لا يفوتنا التعرض لما وقع الخلاف بينهم في إمكان معرفة المتشابه ، والاطلاع على معناه ، أيمكن ذلك أم لا ؟ يرجع ذلك كله إلى اختلاف الوقف في الآية المذكورة أنه على ” وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ ” ، أم على ” وَٱلرَّاسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ ” ، والواو هناك للاستيناف أم للعطف ؟ فذهب بعض من التابعين إلى أن الوقف على ” ٱلرَّاسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ ” والواو عاطفة لأن الله سبحانه وتعالى لم يكلف الناس ما لا يعلمون ، ولم ينزل في القرآن إلا لينتفعوا به ، فلو كان المتشابه لايعلمه إلا الله لزم به عدم معرفة الرسول التي لا تسوغ في العقل والنقل ، فإن جاز أن يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم جاز أن يعرفه الراسخون من صحابته ، والمفسرون من أمته ، روي ذلك عن مجاهد واختاره النووي ومال إليه الإمام بدر الدين الزركشي .
هذا ، ومن جهة أخري رفضه كثير من الصحابة والتابعين ، قائلين : إن الوقف على ” وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ ” والواو للاستيناف ، وما بعدها جملة مستأنفة لا معطوفة ، لأنه يجوز عندهم أن يكون في القرآن ما لا يعلم تأويله إلا الله إظهاراً لرفعة شأنه ، وتفخيم أمره ، وتعظيم مكانته ، فإن الآية يدل أسلوبها على ذلك حيث يثني علي من يفوض المتشابه إلى الله ، ويسلم إليه معناه ، كما يصف من يتبع المتشابه بالزيغ وابتغاء الفتنة ، وعليه ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وابن عباس وذهب إليه كثير من الصحابة والتابعين وجمهور أهل السنة والجماعة من المتقدمين والمتاخرين ، فلا ينبغي لمن له إلمام بعلم التفسير اتباع المتشابهات ، والبحث عما تتضمن من الحقائق والمفاهيم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر عنه المسلمين فيما أخرج الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ إلى قوله ” وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ ” ، قالت : قال : إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله ، فاحذروهم ، وعن أبي مالك فيما رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خصال : أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا ، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله [28] ، كذلك ما أخرجه ابن مردويه عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً ، فما عرفتم منه فاعملوا ، وما تشابه فآمنوا به [29] ، وهكذا أخرج الإمام الدارمي عن سليمان بن يسار أن رجلاً ، يقال له ابن الصبغ قدم المدينة ، فجعل يسأل عن متشابه القرآن ، فأرسل إليه عمر ، وقد أعدله عراجين النخل ، فقال له : من أنت ؟ فقال : أنا عبد الله بن صبيغ ، فأخذ عمر عرجونا ، فضربه حتى دمي رأسه ………. وكتب إلى أبي موسي الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين [30] ، فثبت أن المتشابهات في القرآن الكريم سر من أسرار الله سبحانه وتعالى نؤمن بها ، ونفوض معانيها إلى الله ، ولا نخوض فيها ولا نسرف ، ومن يتبع وراءها فهو من أهل الزيغ والفتن ، الذين يفسدون العقائد ، ويزيغون القلوب ، ويغرسون فيها المطاعن والشبهات ، التي تفصل العباد عن الشريعة ، وتبعدهم عن الصراط المستقيم .
ولا يفوتنا أخيراً أن نشير إلى ما تحوي المتشابهات من الحكم والدروس ، فالأولى : تؤكد أن الإنسان ظلوم جهول ، يتلو وما يعلم ، فيعترف بعجزه ، وقصوره عن فهمها وإدراكها ، ويقول كما قال الملائكة : ” سُبْحَانَك لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّك أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكيمُ ” [31] ، والثانية : يختبر الله تعالى عباده بالمتشابهات أيؤمنون بالغيب ثقةً بخبر الصادق والمصدوق أم يشكون فيها ، ويتبعون وراءها ؟ والثالثة : إظهار إعجاز القرآن ، وبلوغه ذروة الفصاحة والبيان ، بأسلوب يعجز أصحاب القلم واللسان ، عن الفهم والبيان ، هذه نبذة مما أشار إليه الشيخ عبد العظيم الزرقاني المصري [32] ، وأطال فيها الكلام العلامة ابن اللبان محمد أحمد بن عبد المؤمن الدمشقي المتوفى 749هـ في كتابه القيم ” رد المتشابهات إلى الآيات المحكمات ” .
* رئيس قسم الإفتاء والأدب العربي ، بجامعة الإمام ولي الله مرادآباد ، الهند .
[1] مفردات القرآن للأصفهاني ، ص ٢٣١ .
[2] سورة البقرة ، الآية : ٢٥ .
[3] سورة البقرة ، الآية : ٧٠ .
[4] الإتقان في علوم القرآن ، النوع ٤٣ في المحكم والمتشابه .
[5] سورة هود ، الآية : 1 .
[6] سورة الزمر ، الآية: 23 .
[7] سورة آل عمران ، الآية : ٧ .
[8] مباحث في علوم القرآن ، للقطان ، ص ٢١٦ .
[9] مباحث في علوم القرآن ، للدكتور صبحي صالح ، الفصل الثامن ، ص ٢٨٢ .
[10] الإتقان في علوم القرآن ، النوع ٤٣ ، ج ٢/١٠ .
[11] مفردات القرآن ، للإمام الأصفهاني ، ص ٤٢٦ .
[12] سورة محمد ، الآية : ١٥ .
[13] سورة الغاشية ، الآية : ١٢ إلى ١٦ .
[14] سورة الواقعة ، الآية : ٣٢ ، ٣٣ .
[15] سورة طه ، الآية : ٥ .
[16] سورة الفجر ، الآية : ٢٢ .
[17] سورة الأنعام ، الآية : ٦١ .
[18] سورة الزمر ، الآية : ٥٦ .
[19] سورة الرحمن ، الآية : ٢٧ .
[20] سورة طه ، الآية : ٣٩ .
[21] سورة الفتح ، الآية : ١٠ .
[22] سورة آل عمران ، الآية : ٢٨ .
[23] البرهان في علوم القرآن ، النوع ٣٧ ، ج ٢/٨٩ .
[24] الإتقان في علوم القرآن ، ٢/١١ .
[25] سنن الترمذي ، أبواب صفة الجنة ، باب خلود أهل الجنة ، إلخ .
[26] مناهل العرفان للزرقاني ، ص ٥٣٦ .
[27] بيان القرآن ، آل عمران ، الآية : ٧ .
[28] مناهل العرفان ، ٢/٥٤١ .
[29] المصدر السابق .
[30] صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، آل عمران .
[31] سورة البقرة ، الآية : ٣٢ .
[32] مناهل العرفان للزرقاني ، مبحث النسخ .