67/ عاماً في مجال الصحافة العربية الهادفة
يناير 2, 2022مخاطر التشبث بالأيدلوجية
مارس 15, 2022صور و أوضاع :
وجهان لعُملة واحدة
محمد فرمان الندوي
الجمهورية وعناصرها :
يجري في أكثر بقاع العالم نظام الجمهورية ، وهو نظام حديث لمهامّ الحُكم وسياسة البلدان ، وهو حكومة الشعب ، فالشعب هو العامل الرئيسي في إدارة هذا النظام وتسيير عجلته ، والجمهورية كما عرّفها الرئيس الأمريكي السادس عشر أبراهام لنكن : حكم الشعب ، للشعب ، وبالشعب ، فالشعب هو جماهير الناس ، ولهم آراء مسموعة وكلمات نافذة في هذا النظام ، فالحكومات ذات الجمهورية تُنشأ وتؤسس بكثرة أصواتها وزيادة آرائها ، وإنها تسقط بقلة المؤيدين والمساندين لها ، وقد انتقد هذا النظام الجمهوري بعض الفلاسفة أمثال سقراط ، فقال : لا بد أن يكون لصياغة الآراء رجال يعرفون الفرق بين الحسن والقبيح ، وقال الدكتور محمد إقبال : مما يؤسف له أن الجمهورية نظام يُعدُّ فيه الناس على الأصابع ، ولا يُنظر إلى مؤهلاتهم ، وقد ذكر الخبراء السياسيون للجمهورية أربعة عناصر : وهي السلطة الإدارية ، والمجالس التشريعية ، والمحاكم ، والصحافة . فالجمهورية تنجح وتتقوى وفقاً لتأثير هذه العناصر .
ظلت جمهوريات عديدة على وجه الأرض في القرن العشرين بوجه خاص ، والجمهوريات تنقسم إلى نظام برلماني ونظام رئاسي ، ففي بريطانيا نظام برلماني ، وفي الولايات المتحدة نظام رئاسي للجمهورية ، وفي بعض الدول والبلدان نظام مزدوج من البرلماني والرئاسي مثل الهند ، وحسب نظام الجمهوريات تُشرع قوانين الدول ، وتُسنُّ دساتيرها ، فلكل دولة قانون ودستور ، ودستور بريطانيا أقدم دساتير العالم للجمهوريات ، وأما أطول دساتير الجمهوريات وأجمعها فهي دستور جمهورية الهند ، الذي صاغه لفيف من الإخصائيين في رئاسة الدكتور أمبيدكر ، وساهم فيه عدد من المسلمين ، كما كان أوجز دساتير العالم للجمهوريات دستور الولايات المتحدة الأمريكية .
ظاهره فيه الرحمة :
هذا نظام الجمهوريات في العالم الذي يكون فيه رعاية تامة للشعوب وعامة الناس ، وقد كان وضعه وترتيبه لتوفير الأمن والسلامة في البلدان ، لكن حينما نسرح أنظارنا على الساحة العالمية فنرى أن الأوضاع الحالية تعكس صورةً أخرى للجمهوريات ، كأن الجمهوريات وآراء الناس والشعوب قد فقدت أصالتها ، وجاء فيها تعديل من كبرى الدول والبلدان . وقديماً شهد الناس نظام الملوكية ، وكان في نظام الملوكية استبداد بالرأي ، وسيطرة القوي على الضعيف ، واستيلاء طبقة حاكمة على طبقة ضعيفة ، فكان الناس في ذلك الزمن ممثلين لهذا المثل العربي : ” الناس أتباع من غلب ” ، فلا رأي ، ولا حكومة ، ولا قانون ، ولا دستور إلا دستور الملك الحاكم ، وكان نظام الملوكية قد أتى بخسائر كثيرة في الأرواح والأموال ، فتوخى الناس بديلاً عنه ، وظلت الجمهوريات بديلاً عنه إلى حد ، لكن حينما انكشف الغبار عرف الناس أن هذا البديل ليس بديلاً في الواقع ، بل هو صورة أخرى للملوكية ، ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب ، وقد ذاق السكان والمواطنون مرارة هذا البديل في دول كثيرة . نذكر على سبيل المثال دولة السودان ، فإن أوضاعها وظروفها قد تفاقمت وتأزمت بفقدان الجمهورية الحقيقية ، ولا يزال يذهب ضحية الحوادث المروِّعة عدد كبير من النفوس من الرجال والشباب والأطفال ، اقرؤوا تاريخ الصراع في السودان وخنق الجمهورية القائمة على العناصر الأربعة .
السودان دولة إسلامية في جنوب شرق إفريقيا ، يعيش المسلمون فيها حوالي سبعة وتسعين في المأة ، وصل الإسلام إلى السودان في الخلافة الراشدة ، وكانت في الزمن العثماني ولاية من ولايات مصر ، ثم أقامت فيها بريطانيا مستعمرات ، وتحررت السودان عام 1956م من الاستعمار البريطاني ، وتشكلت دولة جمهورية بقيادة أول رئيس وزرائها إسماعيل الأزهري ، وما زالت تقوم فيها حكومات جمهورية على أساس دساتير البلاد ، وخاصةً في زمن جعفر النميري الذي أنشأ حكومةً إسلاميةً ، مما أقض مضاجع الغرب ، وقد جرت محاولات فصل جنوب السودان بعد تحريرها من قبل الانفصاليين ، فتحققت غايتهم عام 2011م ، وتشكلت حكومة جنوب السودان ، ونالت عضويةً في هيئة الأمم المتحدة في أقرب مدة ، ولم يكن وراء هذا التقسيم إلا إسرائيل التي بذرت بذوراً في كل من كينيا ، وأثوبيا ويوغندا وغيرها ، واعتبرت الولايات المتحدة السودان في قائمة الإرهاب ، وفرضت عليها قيوداً اقتصاديةً ، وأخيراً تم فصل جنوب السودان كدولة مستقلة .
اللافت للنظر أن عمر البشير الذي كان حاكماً إلى مدة طويلة ، فقد ثار الجيش السوداني ضده ، وانفجر الانقلاب العسكري ، وانتقل الحكم إلى وزير الدفاع أحمد عوض بن عوف ، ثم إلى الجنرال عبد الفتاح البرهان وعبد الله حمدوك في حكومة انتقالية ، وكان كلاهما موالين للغرب ، بحيث اعترف أولهما بإسرائيل زمن تطبيع العلاقات الدولية ، ونسخ ثانيهما جميع القوانين الشرعية ، وقرر البلاد كدولة علمانية ، ثم بدأ صراع بينهما ، فاستخدم الجنرال عبد الفتاح القوة العسكرية ضد حمدوك ، واعتقله في البيت ، فأبدى الاتحاد الأوروبي غضبه الشديد ضد هذه العملية ، وطالب باستعادة الحكومة الانتقالية ، رغم أن الجنرال البرهان أعلن عن تاريخ الانتخابات وإجراء الأمور حسب دستور البلاد ، لكن موجة الغضب من الاتحاد الأوربي التي شهدها العالم كان موضع استغراب شديد ، وقد عُلم أن عبد الله حمدوك لم يكن رئيساً منتخباً ، بل كان رئيساً انتقالياً ، فليست استمراريته على السلطة شرعيةً بحيث تجري لها الاحتجاجات ، هذا في جانب ، وفي جانب آخر أن قيس سعيد ( رئيس جمهورية تونس ) حينما عطل الحكومة المنتخبة في تونس ، وجمدها تجميداً ، فلم ينبس الاتحاد الأوربي ببنت شفتيه .
وكذلك حينما ثار الجنرال عبد الفتاح السيسي في مصر على الحكومة المنتخبة في جمهورية مصر العربية ، فكانت الدول الأوربية كلها مع السيسي ، وكانت صامتةً وساكتةً ، ولم تؤيد نظام الجمهورية التي تهتف بأصولها ودساتيرها ، وتقدم هذا النظام كحل جامع للأزمات والمشكلات ، فأين الجمهورية الحقيقية في هذه البلدان ؟ وأين أدعياؤها الغربيون ؟ وأين صانعو قراراتها العالمية ؟
وجهان لعملة واحدة :
هذا موقف مزدوج للغرب ، إذا كانت حكومة البلاد حسب سياستها العالمية ، اعترفت بها وقدمت لها جميع مساعداتها ، وأدرجت أسماءها في سجلات هيئة الأمم المتحدة ، وإذا كان الأمر بالعكس فلا تنال الحكومات المنتخبة من الشعوب وجماهير الناس أي لفتة من توجهات الغرب ، كم سنةً مرت على كوسوفا وقبرص وفلسطين والشيشان ، لكن لم تنل هذه الحكومات عضويةً في هيئة الأمم المتحدة ، وما قضية أفغانستان بسر ، فإن سكانها ومواطنيها قد أنشأوا حكومةً بآرائهم واتجاهاتهم ، لكنها لا تنال من الاتحاد الأوربي لفتةً أو عنايةً ( فَٱللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ ) .
هذا دليل على أن الغرب له اتجاهان : اتجاه للبلدان التي تخدم مصالحه ، وتنفذ مخططاته ، وتقوم بجميع البرامج التي رسمتها لهذه الدول ، واتجاه آخر للدول التي كان إنشاؤها على أساس الجمهوريات المعترف بها عالمياً ، لكن هذه الدول لا تقبل استراتيجتها ، ولا تخضع أمام مشاريعها ، فيُضيَّق عليها الخناق ، وتُفرض عليها قيود وأغلال تكون مكبلةً من داخلها ، كأن هناك عملة واحدة لها وجهان . وقال الله تعالى : ( وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة : 8 ) .