العطور والأزهار في المنظور الإسلامي : دراسة عامة

الشيخ المحدث عبد الرشيد النعماني الندوي
سبتمبر 4, 2021
الواقع العِلمي بين عوامل النهضة وأسباب الركود
أكتوبر 12, 2021
الشيخ المحدث عبد الرشيد النعماني الندوي
سبتمبر 4, 2021
الواقع العِلمي بين عوامل النهضة وأسباب الركود
أكتوبر 12, 2021

دراسات وأبحاث :

العطور والأزهار في المنظور الإسلامي : دراسة عامة

د . أبو سمية محمد إدريس الندوي *

يتجمل تاريخ الثقافة العربية والإسلامية بأنواع من العطور والأزهار منذ العصر الجاهلي إلى العصور الإسلامية ، كمادة كمالية يتأنق ويتجمل بها الإنسان ، وزاد الإسلام أهميتها ورفع مكانتها وأعطاها منزلةً ساميةً في حياة المسلمين ، ولكن المستشرقين تناولوا العرب وثقافتهم بالدراسة لتشويه وجوههم وتضليل هويتهم ، ووجهوا سهام النقد إلى الحياة العربية في العصر الجاهلي واصفين إياها بحياة بدوية ، قذرة ، بعيدة كل البعد عن مظاهر الزينة ، ولم تكن تعرف استعمال الطيب والبخور والعطور والأزهار الذكية الرائحة . ولكن الأمر ليس كذلك ، بل كان على العكس من ذلك ، لأن العطر كان عنصراً بارزاً من تقاليدهم ، وأنهم كانوا مولعين به ، ومشغوفين بحبه ، ويستهدف هذا المقال محاولة للرد على هذه الشبهات ، وإبراز ما كان لدى العرب والمسلمين من أهمية للعطر ، ويتضمن الاستدلال على ذلك بقصائد تحتوي على ذكر ألوان من الأزهار والعطور التي كانت توجد آنذاك في المجتمع العربي ، وكذلك يضم ما ورد في الآيات الكريمة والأحاديث النبوية صلى الله عليه وسلم مما يحث على اتخاذ أنواع من الروايح الطيبة ، وقد رحّب بها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته المباركة ، واهتدى بهديه وسلك من سلك على دربه من صحابته الكرام ومن اقتفى آثارهم من التابعين وأئمة المسلمين .

لا شك أن الإنسان مفطور على حب الجمال والحسن والكمال ، تميل طبيعته وتنجذب إلى كل ما تفتتن به من الأشياء الجميلة والمناظر الطبيعية الخلابة المنتشرة في السماوات والأرض وما بينهما من شروق الشمس والقمر وطلوع النجوم المتلألئة والجبال الشامخة والأنهار الجارية ، والبحار بأمواجها ، وخرير مياهها ، والطيور وأغاريدها ، واهتزاز الأشجار وحفيف الرياح ، وأريج الأزهار الكثيرة الألوان التي تملأ العين حسناً ، والنفس بهجةً وسروراً ، والحياة سروراً وسعادةً ، وحبوراً ورخاءً ، هكذا يهتز الإنسان ويطرب ويشم نوعاً من الطيب ، ويستشعر بالراحة والنشوان ، ومن خواص الطيب والعطور أنها تشحذ الذهن وتبعد السآمة والكلل ، وتزيد الجسم قوةً وحركةً ، وتستأنس بها الروح وتطمئن بها القلب . وتزول عن الإنسان همومه ، واستخدامها تلبية للفطرة ونداء لها ، ورمز للطبيعة النفيسة ذات الذوق الرفيع ، ولذلك فإن الإسلام منحها أهميةً ومكانةً مرموقةً . فالملائكة تحب العطور وأمكنتها ، وحدائقها وبساتينها ، وتكره الرائحة الكريهة النتنة ومكانها وأرضها ، كما ورد في زاد المعاد أن ” الملائكة تحبه والشياطين تنفر عنه ، وأحب شيئ إلى الشياطين الرائحة المنتنة الكريهة ، فالأرواح الطيبة تحب الرائحة الطيبة ، والأرواح الخبيثة تحب الرائحة الخبيثة ” [1] .

فالطيب عبارة عن كل ما تستلذه الحواس ، فما أجمل أن يتطيب الرجل ويستخدم الطيب والبخور والعطور والأزهار الذكية الرائحة زينةً له في حياته ، ويهتم بذلك ، فالله سبحانه وتعالى أرشد إلى ذلك في قوله عزوجل : ( خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَكُلِّ مَسْجِدٍ ) [2] . يعني من السنة أن يأخذ المؤمن زينته إذا ذهب للصلاة ، يعني : ملابسه الحسنة الجميلة ، واحتج بها العلماء أيضاً على وجوب ستر العورة ، ولكن الآية فوق ذلك تدل على أن الشرع يشرع له مع ستر العورة أخذ الزينة وأن يلبس الملابس الحسنة الجميلة عند قيامه بين يدي الله سبحانه وتعالى .

العطور في الأدب الجاهلي :

قد ورد ذكر العطور والطيب والأزهار الزكية في الشعر  الجاهلي ، ومن أمثلة ذلك قول امرئ القيس :

(1) ويُضــْحي فتيتُ المسك فوق فِراشِــها نؤوم الضـحى لم تنْتَطِق عـن تـفضـُّلِ [3]

معناه تنتبه من النوم في ضحوة النهار . فتيت المسك : ما تفتت    منه ، أيُّ تحات عن جلدها في فراشها ، وقيل : معناه كأن فراشها فيه المسك من طيب جسدها ، لا أن أحداً فت لها فيه مسكاً [4] . وأراد الشاعر بهذا البيت أن يصف مظاهر الترف والنعمة التي تنعم بها هذه المرأة ، وأن يبين صورة العطر الفواح ، وتضوع المسك منها ، إذ يقول :

(2) إذا قامتا تضوع المسك منهما  نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل [5]

يقول : إذا قامت أم الحويرث وأم الرباب فاحت ريح المسك منهما كنسيم الصبا إذا جاءت بعرف القرنفل ونشره . شبه طيب رياهما بطيب نسيم هب على قرنفل وأتى برياه [6] .

واستعمل العرب في ذلك الزمن القديم ” العبير ” وهو نوع من  الطيب ، يشهد على ذلك قول الأعشى :

(3) وتبرد برد رداء العرو  س في الصيف رقرقت فيه العبيرا [7]

أي تبرد هذه المرأة في الصيف برداً مثل برد رداء العروس إذا رقرقت فيه العبير أي صبغته بالزعفران ، وصقلته أي قد جمعت في الصيف البرد وطيب الرائحة [8] ، فالعبير هو الزعفران ، وقيل ضرب من الطيب [9] .

كذلك يفيد التاريخ أن أسواق العرب في الجزيرة العربية مثل       ” عكاظ ” ، و ” ذي المجنة ” ، و ” سوق عدن ” كانت تأتي إليها البضائع للتجارة من أنحاء العالم كله ، ومن أجود البضائع التي تعرض فيها العطور والطيب ، والعرب مولعون بالعطور والزهور ، وكانوا يتنزهون بها ويعطرون مجالسهم منذ الجاهلية حتى يومنا هذا ” [10] ، وكان من عادتهم عند الزواج أن أهل الخطبة يرتدون خير ما عندهم من الملابس الفاخرة ويتضمخون أجسادهم بالزهور والعطور والعبير ، وهذا من علامات الفرح والسرور والغبطة والحبور ، وكل ذلك يظهر حسب مكانة أهل البنت . لذا رأينا أن خديجة الكبرى رضي الله عنها لما خطبها النبي صلى الله عليه وسلم استأذنت أباها فأذن لها ، وقال : ” هو الفحل لا يقرع أنفه ” فنحرت وخلقت أباها بالعبير أي ضخمت لباس أبيها وكسته برداً [11] ، وعطرت ثيابه حتى فاح المسك من الأردان [12] ، كما قال قيس بن الخطيم :

وعمرة من سروات النسا  ء تنفخ بالمسك أردانها الكم [13]

ومن علامات حرص العرب على استخدام المسك والطيب أنهم حينما كانوا يغادرون للحرب تكرمهم النساء بالطيب والعطور حتى نجد ” وما يوم حليمة بسر” [14] مثلاً في توثيق هذه القصة بأن حليمة أعطاها أبوها طيباً ومسكاً ، وأمرها بأن تطيب الفرسان للثأر من عدوه ، وكذلك ” عطر منشم ” [15] يضرب به المثل أشأم من عطر منشم ! ” منشم ” اسم امرأة كانت تبيع في الجاهلية العطور في الحروب ، إذا نشب القتال بين الأحياء من العرب ، غمسوا أيديهم في هذا العطر ، ثم أعلنوا الحرب بينهم ، ثم إذا حميت الحرب بينهم ، غمسوا أيديهم فيها مرةً أخرى ، فتشتد الحرب بينهم أعظم ما تكون ، فضُرب الشؤم بهذا العطر وبهذه العطارة [16] .

العطور في القرآن الكريم :

ذكر الله عز وجل عدداً من أسماء العطور والطيب في عدد من الآيات الكريمة ، منها : المسك ، قال سبحانه وتعالى : ( خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ) [17] ومنها : الريحان ، ( وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ . فَبِأَىِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) [18] ومنها : ( فَرَوۡح ، وَرَيحَان ، وَجَنَّتُ نَعِيم [19] ، ورد ذكر الريحان مرتين في القرآن الكريم ، في سورة الواقعة : ( فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ) كما ورد ذكره في سورة الرحمن : ( وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ   وَٱلرَّيْحَانُ ) . وقد ذكر المفسرون أنَّ الريحان ورد في القرآن الكريم بأكثر من معنى ، فالريحان هو كل نبات طيب الرائحة . ” وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ ” معناه ذو الورق ، وقيل أيضاً : العصف ساق الزرع ، والريحان ورقه . وجاء في حديث شبه فيه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين ابنى علي رضى الله عنهم بريحانتين ، قال : ” هما ريحانتاي من الدنيا ” ( فالريحان : كل نبت طيب الريح من المشموم )[20] ومنها : الكافور : قال تعالى : ( إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ) [21] ( كَافُورًا ) : قيل : هي عين في الجنة . والكافور نبت له نَور أبيض كنور الأقحوان طيب الرائحة [22] . والكافور : اسم لسائل طيب الرائحة ، أبيض اللون ، تميل إليه النفوس [23] . وقال الأستاذ الشيخ محمد حسن الشريف في كتابه         ” معاني كلمات القرآن الكريم كلمة كلمة ” في تفسير ” إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً ” فالكافور : هو من الطيب [24] ، هكذا ورد في القرآن الكريم كلمة ” الزنجبيل ” وهو نبات ينبت في بلاد العرب بأرض عمان ، ونباته شبيه بنبات الرأس ، والعرب تصف الزنجبيل بالطيب ، وهو مستطاب عندهم جداً ، وقد ورد هذا الطيب في الشعر الجاهلي مقروناً بالعطور الأخرى ، وكثيراً ما يقرن بالقرنفل ، يقول قيس بن الخطيم :

كأَنَّ القَرَنْفُل والزَّنْجَبِيل  وذَاكِي العَبِيرِ بِجِلْبابِها [25]

كما وصف القرآن الكريم في خمر الجنة ( وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً ) ، والعرب تصف الزنجبيل بالطيب ، وهو مستطاب عندهم جداً .

الطيب في الحديث النبوي :

تؤكد جميع الأحاديث التي صحَّت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أريد للأمة الإسلامية أن تكون أمةً عطرةً ، زكية الرائحة ، لا سيما في تلك المناسبات التي تلتقي فيها جماعة المسلمين ، حرصاً على أن يكون هذا اللقاء لقاءً محبباً إلى نفس كل فرد من أفراد الجماعة ، وحتى يكون التعطر أبرز سمات هذه الجماعة ، وأيضاً تعطر الزوجين وتزيُّن كل منهما للآخر ، ما يضمن أجواءً من الإقبال والأريحية والسعادة ، ومن ثم الاستقرار للأسرة التي هي قوام المجتمع المسلم . ولهذه الأسباب   وغيرها ، ولما للطيب والعطور بشكل عام من وقع طيب في النفس ، فليس عجيباً أبداً أن نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتفي بالتطيب أيما احتفاء ، بل يحرص على أن يبرز هذا التعلق منه صلى الله عليه وسلم بالطيب ، بل يوصي أمته بالتطيب . فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : ” ما شممت عنبراً قط ، ولا مسكاً ، ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم ” [26] ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يتطيب بأطيب ما يجد من الطيب . وهذه عائشة رضي الله عنها تقول : كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم بأطيب ما وجد ، حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته ” [27] . وقالت أيضاً رضي الله عنها : ” كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت ” [28] ، وبينما يصف أنس بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم نجده يقول : ” كَانَ رَبْعَةً مِنْ القَوْمِ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلا بِالْقَصِيرِ ، أَزْهَرَ اللَّوْنِ لَيْسَ بِأَبْيَضَ أَمْهَقَ وَلا آدَمَ ، لَيْسَ بِجَعْدٍ قَطَطٍ وَلا سَبْطٍ رَجِلٍ ، أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَهُو ابْنُ أَرْبَعِين ، فَلَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ ، وَقُبِضَ وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعَرَةً بَيْضَاءَ قَالَ رَبِيعَةُ فَرَأَيْتُ شَعَراً مِنْ شَعَرِهِ فَإِذَا هُو أَحْمَرُ ، فَسَأَلْتُ فَقِيلَ احْمَرَّ مِنْ الطِّيبِ ” [29] .

أما حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على التطيب فنراه في حديث أنس رضي الله عنه قَال : ” قَال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ ” [30] . ويؤكده ، أيضاً حديث عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ الأَنْصَارِيُّ يقول أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ : الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ وَأَنْ يَسْتَنَّ وَأَنْ يَمَسَّ طِيباً إِنْ وَجَدَ . قَالَ عَمْرو أَمَّا الْغُسْلُ فَأَشْهَدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَأَمَّا الاسْتِنَانُ وَالطِّيبُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَوَاجِبٌ هُو أَمْ لا وَلَكِنْ هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ ” [31] . وعن سعيد بن المسيِّب سُمع يقول : ” إن الله طيب يحب الطيب ، نظيف يحب النظافة ، كريم يحب الكرم ، جواد يحب الجود فنظفوا أفنيتكم ” [32] ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ” لو كنت تاجراً ما اخترت غير المسك ، إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه ” [33] .

العطر في الفقه الإسلامي :

وردت في القرآن والحديث تصريحات عن الزينة بشكل عام ، وعن عائشة أم المؤمنين قالت : كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام ، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهاها ” [34] . فقد قال شراح الحديث عن فقهه : ثبت به جواز تطيب النساء [35] ، وكانت تفعله بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فقد ذكرت إحدى صاحبات    عائشة : أنها كانت تُغَلِّف رأس عائشة أم المؤمنين بالمِسْك والعَنْبَر عند الإحرام [36] ، وروى عبد الرحمن بن القاسم ، عن أمه – وهي بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق – يقول : رأيت عائشة تنْكُث في مفارقها الطيب ثم تُحْرِم [37] .

فالتطيب وطلب الرائحة الطيبة مطلوب ومحمود عند الله   والرسول صلى الله عليه وسلم ، وغاية مقصودة في دين الإسلام . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين ببناء المساجد في الدور ( الأحياء ) ، وأن تنظف وتطيب [38] ، وكذلك اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بالسواك  والتطييب ، والتزين ، وسار سلفنا الصالح على درب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، واستناروا بسيرته النيرة واهتدوا بهديه . فمن ذلك خصلة استخدام الطيب والتطيب ، فهذا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يعرف بريح الطيب ، وكان من أجود الناس ثوباً ، ومن أطيب الناس ريحاً ، وكان يُعرف بالليل بريح الطيب ، إذا قام إلى  الصلاة [39] ، وقال أبو بكرة : ” قدم علينا ابن عباس البصرة وما في العرب مثله حشماً وعلماً وثياباً وجمالاً وكمالاً ” . وكان يُكثِر من الطيب حتى إذا مر بطريق تقول النساء : هذا ابن عباس أو رجلٌ معه مسك [40] ، وذلك سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه يحب التطيّب ، فلا يذهب الجمعة أو العيد إلا وقد دهن وتطيّب [41] ، وقال عثمان بن عبيد الله : ” رأيت ابن عمر ، وأبا هريرة ، وأبا قتادة ، وأبا أسيد الساعدي يمرون علينا ونحن في الكُتّاب فنجد منهم ريح العبير وهو الخلوق ” [42] ، هكذا كانت اهتماماتهم بالتطيب والزينة والعطور . وقال الشافعي رحمه الله : أُحب الغسل والطيب والنظافة [43] ، وكان الإمام مالك رحمه الله يُعنى بلباسه عنايةً تامةً ، وقد كان يلبس أجود اللباس وأغلاه وأجمله ، قال الزبيري : كان مالك يلبس الثياب العدنية الجياد ، والخراسانية والمصرية المرتفعة البِيض ، ويتطيب بطيب جيد ويقول : ” ما أُحب لأحد أنعم الله عليه إلا أن يُرى أثرُ نعمته عليه ” [44] .

خلاصة القول :

توصلنا من خلال هذا البحث إلى أن التطيب والتعطر مظهر ثقافي عربي منذ قديم الزمان ، ورفع الإسلام قدره ومنزلته ، وأهميته حيث ورد ذكره في القرآن الكريم والسنة النبوية – على صاحبها الصلاة والسلام – واستخدمه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأمر بذلك المسلمين أن يهتموا في كل مرحلة من مراحل الحياة . والشريعة الإسلامية لم تفرق في أمر التطيب بين النساء والرجال ، فالمرأة المسلمة تستطيع أن تتعطر في بيتها ولزوجها فقط أو لأخواتها وصواحبها ضمن منزلها ولا تتعطر وتمشي في الطرقات بين الرجال لتثير الشهوات وتجذب إليها الأنظار . وحُلي المقال بذكر أحوال بعض الصحابة الكرام والتابعين والأئمة العظام الذين اهتموا بالطيب والعطور والمسك وغيرها ، وها نحن اليوم في أشد حاجة في عصرنا المعاصر إلى استخدام ذلك والاهتمام بالنظافة والتزين ، والعناية بالروائح والأطايب ظاهراً ، كاعتنائنا بالباطن والروح ، ليتحقّق التوازن المنشود في الشخصيّة المسلمة ، من جمال الظاهر والباطن ، وجمال السلوك والأخلاق .

*  لكناؤ ( الهند ) .

[1] زاد المعاد لابن القيم ، 4/256 ، مؤسسة الرسالة للنشر والطباعة ، لبنان ، الطبعة الثالثة ، 1998م .

[2] سورة الأعراف : 31 .

[3] شرح المعلقات العشر للزوزني ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، لبنان ، 1973م ، ص : 54 .

[4] فتح الكبير المتعال اعراب المعلقات العشر الطوال ، لمحمد علي طه الدره ، مستفاد من موقع ” نورين ميديا ” ، 2015م ، ص : 101 .

[5] شرح المعلقات العشر للزوزني ، ص : 34 ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، لبنان ، 1973م .

[6] شرح المعلقات السبع للزوزني ، ص : 43 .

[7]  ديوان الأعشى ، ص : 86 ، التاج واللسان : عبر .

[8] شرح أدب الكاتب ، لموهوب بن أحمد ، أبو منصور ابن الجواليقى ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، ج : 1 ، ص : 109 .

[9] لسان العرب ، 1 – 15 ، ج 4 .

[10] أسواق العرب في الجاهلية ، سعيد الأفغاني ، نور حوران لدار العراب للدراسات والنشر والترجمة ، 2017م ، ص : 36 .

[11] أم المؤمنين خديجة بنت خويلد لإبراهيم محمد الجمل ،مستفاد من : مكتبة النور ،       ص : 91 .

[12] حياة الحيوان الكبرى للدميري ، الجزء : 2 ، ص : 278 ، وتهذيب اللغة للأزهري . ماخوذ من : موقع الوراق . ص : ( 2/106 ) .

[13] أخبار النساء في العقد الفريد ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، ص : 172 .

[14] زهر الأكم في الأمثال والحكم ، الحسن اليوسي ، تحقيق ، محمد حجي ومحمد الأخضر ، دار الثقافة ، الطبعة 1 1981م ، ج 2 ، ص : 242 .

[15] معلقة زهير بن أبي سلمى ، البيت 18 .

[16] كتاب مجمع الأمثال لأبي الفضل الميداني ، الباب الثالث عشر فيما أوله شين ، أشأم من منشم . ج : 1 ، ص : 381 .

[17]سورة المطففين : 26 .

[18] سورة الرحمن : 12 – 13 .

[19] سورة الواقعة : 89 .

[20] صحيح البخاري ، كتاب فضائل الصحابة ، باب مناقب الحسن والحسين رضي الله  عنهما .

[21] سورة الإنسان : 5 .

[22] المعجم المفصل في تفسير غريب القرآن الكريم ، الدكتور محمد التونجي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 2003م ، باب الكاف ، ص : 421 .

[23]‫ التفسير الوسيط للطنطاوي ، تفسير الآية 17 من سورة الإنسان ، ” و.. كان مزاجها كافورا ” .

[24] معاني كلمات القرآن الكريم كلمة كلمة ، لمحمد حسن الشريف ، النسخة الإلكترونية ، الصادرة من مجمع الملك فهد بالمدينة المنورة ، 2013م .

[25] صحيح مسلم ” كتاب الفضائل ” باب طيب رائحة النبي صلى الله عليه وسلم ولين مسه والتبرك بمسحه ، رقم  2330 .

[26] فتح الباري شرح صحيح البخاري ، ” كتاب اللباس” ، باب الطيب في الرأس واللحية ،  379 .

[27] رواه البخاري ، فتح الباري شرح صحيح البخاري ، ” كتاب الحج” ، باب الطيب عند الإحرام ، ص : 465 .

[28] رواه البخاري ، فتح الباري شرح صحيح البخاري ، ” كتاب المناقب ” ، 657 .

[29] رواه النسائي ( 3939 ) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .

[30] فتح الباري شرح صحيح البخاري ، ” كتاب الجمعة ” ، باب الطيب للجمعة ، ص : 423 .

[31] تحفة الأحوذي ، ” كتاب الأدب ” ، باب ما جاء في النظافة ،ص : 67 .

[32] شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ، دار الكتاب العربي ، بغداد ، الطبعة الأولى 2007م ،  ج : 19 ، ص : 342 .

[33] ربيع الأبرار ونصوص الأخبار لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ، لبنان ، الطبعة الأولى 1992م ، الجزء 2 : ص : 399 .

[34] سنن أبي داود ، الصفحة أو الرقم : 1830 .

[35] رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار ( 2/131 ) وابن سعد في الطبقات الكبرى ( 8/486 ) .

[36] رواه ابن أبي شيبة ( 13659 ) .

[37] المرأة والجمال في لغة العرب ، عرفان محمد حمور ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، 1971م .

[38] رواه أحمد في مسنده ( 19671 ) ، ورواه الترمذي ( 594 ) .

[39] الطبقات الكبرى لابن سعد ، عبد الله بن عمر بن الخطاب (7) ، نسخة محفوظة ، 09 نوفمبر 2017م ، على موقع واي باك مشين .

[40] تاريخ المبرزين من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم ، قحطان حمدي ( 2007 ) ، دار الكتب العلمية، ص : 273 .

[41] الطبقات الكبرى لابن سعد ، عبد الله بن عمر بن الخطاب (7) ، نسخة محفوظة ، 09 نوفمبر 2017م ، على موقع واي باك مشين .

[42] كتاب الأم ، الإمام الشافعي ، ج : ١ ، ص : 226 .

[43] مصنف بن أبي شيبة ، ( 2/305 ) ، والآداب الكبرى ( 3/529 ) .

[44] الديباج المذهب ، ابن فرحون ، إبراهيم بن علي بن محمد ، ابن فرحون ، برهان الدين اليعمري ، ج : 1 ، ص : 92 .