البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سورة الرحمن )
سبتمبر 4, 2021البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سورتي الواقعة والحديد )
أكتوبر 12, 2021التوجيه الإسلامي :
فضل البعثة المحمدية على الإنسانية
للعلامة الإمام الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالى
( الحلقة الأولى )
[ محاضرة أُلقيت في دولة الكويت بدعوة من اللجنة الوطنية الكويتية للاحتفال بدخول القرن الخامس عشر الهجري ، عن ” الإسلام والحضارة الإنسانية ” ، وهو موضوع منير ، مثير ، وثيق الصلة بواقع الحياة وحاضر الإنسانية ومستقبلها ، التحرير ]
أيها السادة ! من أصعب العمليات وأدقها إنما هو تحليل الحضارة التي اختمرت تحليلاً كيمياوياً ، وفرز العناصر التي دخلت فيها في عهود مختلفة وفترات تاريخية معينة ، وإرجاعها إلى أصلها ومصدرها ، وتحديد مقاديرها ومداها من التأثير والقبول . وتبيين من يرجع إليه الفضل في هذا العطاء الحضاري والتغيير الجذري ، فقد دخلت هذه العناصر والتأثيرات في الهيكل الحضاري والمجتمع البشري وتغلغلت في أحشائهما وجرت منهما مجرى الروح والدم ، وتفاعلت . وتكون منهما مزاج خاص لهذه الحضارة ، شأن عوامل التكوين والتربية والبيئة والأغذية في حياة الفرد ، وتكوين شخصيته الخاصة ، وإلى الآن لم يخترع معمل كيمياوي يباشر عمل التحليل التاريخي ، ولا مجهر ” الميكروسكوب ” ( Microscope ) . يضخم هذه الأجزاء الدقيقة التي لعبت دورها في تكوين الحضارة تكويناً خاصاً ، إذاً لا بد من دراسة عميقة واسعة لتاريخ الشعوب والأمم والبلاد والمجتمعات ، حتى نستطيع أن نقارن بين ماضيها وحاضرها ، ونهتدي إلى عمل الدعوة الإسلامية والبعثة المحمدية في تغيير العقيدة وإصلاحها والقضاء على آثار الجاهلية والفلسفات الوثنية ، والتقاليد الموروثة ، وتحويل التيار الفكري من جهة إلى جهة ، والتغيير الثوري في القيم والمثل ، وتناول المدنيات بالتهذيب والتحسين ، وذلك يحتاج إلى دراسات مضنية وإجهاد نفسي وعقلي ، ولكنه عمل مفيد إذا لم توفق له مؤسسة علمية كيونسكو ( Unesco ) أو مجمع في أوربا وأمريكا بطبيعة الحال فلا بد أن يخصص له مجمع علمي في إحدى عواصم الشرق الإسلامي ، أو جامعة من الجامعات الإسلامية ، ولا شك أنه أنفع وأجدى من كثير من الأعمال العلمية التي تضطلع بها هذه المجامع والجامعات ، وتجند لها طاقاتها ووسائلها .
إن تحديد مجالات التأثير الإسلامي في الحضارة الإنسانية صعب وغير عملي تقريباً ، لأن هذا التأثير قد اختلط بجهاز الحضارة ، اختلاط الدم باللحم ، وعادت هذه الشعوب والأمم لا تشعر بهذه التأثيرات ولا يخطر ببالها في حين من الأحيان أنها عناصر دخيلة أجنبية ، فقد أصبحت جزءاً من أجزائها وتفكيرها ومدنيتها ، وحياتها ، وهنا أستعير ما سبق أن قلته في كتابي : ” ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ” وأنا أتحدث عن المدنية الإسلامية وتأثيرها في الاتجاه البشري :
” صارت طباع الناس وعقولهم تتغير وتتأثر بالإسلام من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون ، كما تتأثر طبيعة الإنسان والنبات في فصل الربيع ، وبدأت القلوب العاصية الجافة ترق وتخشع ، وبدأت مبادىء الإسلام وحقائقه تتسرب إلى أعماق النفوس وتتغلغل في الأحشاء ، وبدأت قيمة الأشياء تتغير في عيون الناس ، والموازين القديمة تتحول وتخلفها الموازين الجديدة ، وأصبحت الجاهلية حركةً رجعيةً ، كان من الجمود والغباوة المحافظة عليها كما لا يخفى ، وصار الإسلام شيئاً راقياً عصرياً ، كان من الظرف والكياسة الانتساب إليه ، والظهور بمظاهره ، وكانت الأمم بل كانت الأرض تدنو رويداً رويداً إلى الإسلام ، ولا يشعر أهلها بسيرهم كما لا يشعر أهل الكرة الأرضية بدورانهم حول الشمس ، يظهر ذلك في فلسفتهم وفي دينهم وفي مدنيتهم ، وتشف عن ذلك بواطنهم وضمائرهم ، وتنم عنه الحركات الإصلاحية التي ظهرت فيهم حتى بعد انحطاط المسلمين ” [1] .
ولكن إذا كان لا بد من تحديد جوانب ومجالات في حياة الأمم والشعوب والحضارة ، ظهرت فيها التأثيرات الإسلامية في أجلى أشكالها ، نحددها في عشرة من المعطيات الهامة والمنح الأساسية الغالية التي كان لها الدور الأكبر في توجيه النوع البشري وإصلاحه وإرشاده ، ونهضته وازدهاره ، والتي خلقت عالماً مشرقاً جديداً لا يشبه العالم الشاحب القديم في شيئ ، وهي كما يأتي :
- عقيدة التوحيد النقية الواضحة .
- مبدأ الوحدة الإنسانية والمساواة البشرية .
- إعلان كرامة الإنسان وسموه ، ورد الاعتبار إلى المرأة ، ومنحها حقوقها وحظوظها .
- محاربة اليأس والتشاؤم وإزالة إساءة الظن بالفطرة البشرية واعتبار الإنسان مذنباً بالولادة يحتاج إلى ” فداء ” خارجي ( كما فعلت المسيحية ) ، وبعث الأمل والرجاء والثقة والاعتزاز في نفس الإنسان .
- الجمع بين الدين والدنيا ، وتوحيد الصفوف المتنافرة ، والمعسكرات المتحاربة .
- تعيين الأهداف وميادين العمل والكفاح للسعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة .
- إيجاد الرباط المقدس الدائم بين الدين والعلم ، وربط مصير أحدهما بالآخر وتفخيم شأن العلم والحث عليه وإيجاد حركة علمية وتأليفية لا يوجد مثيلها في تاريخ الأمم والملل والمدنيات التي قامت على أساس الدين والرسالات السماوية .
- استخدام العقل والانتفاع به حتى في القضايا الدينية والحث على النظر في الأنفس والآفاق والتفكير في خلق السماوات والأرض ، والاهتداء به إلى الحقيقة الكبرى ، ( وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هٰذَا بَاطِلاً ) .
- العثور على الوحدة في الوحدات الكونية المبعثرة والوحدات العلمية المنتشرة ، والتي تبدو أحياناً متناقضةً متناحرةً ، وهي وحدة الإرادة الإلهية في الوحدات الكونية ، ووحدة المعرفة الإلهية والدلالة على فاطر الكون في الوحدات العلمية ، وهو الاكتشاف الهائل الذي غيّر مصير الإنسانية ومجرى فكر البشرية .
- حمل الأمة الإسلامية على قبول مسئولية الوصاية على العالم والحسبة على الأخلاق والاتجاهات وسلوك الأفراد والأمم ، وتحمل مسئولية القيام بالقسط ، والشهادة لله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واعتبار نفسها أمةً قرنت بعثة نبيها ببعثتها لقول الله تعالى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ) ، وقول نبيها : ” إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ” .
وتدخل تحت كل عنوان قصة طويلة ، واستعراض تفصيلي للحضارات والعصور الجاهلية التي سبقت البعثة المحمدية ، والإنسان الذي وُلد بعد البعثة ، استعراضاً دقيقاً أميناً ، وكل عنوان من هذه العناوين موضوع كتاب مستقل قد يمتد على مئات من الصفحات [2] ، ونكتفي هنا ببعض شهادات المنصفين من علماء الشرق والغرب :
يقول ( Robert Briffault ) في كتابه (The Making of Humanity ) :
” ما من ناحية من نواحي تقدم أوربا إلا وللحضارة الإسلامية فيها فضل كبير وآثار حاسمة لها تأثير كبير [3] .
ويقول : ” لم تكن العلوم الطبيعية ( التي يرجع فيها الفضل إلى العرب ) هي التي أعادت أوربا إلى الحياة ، ولكن الحضارة الإسلامية قد أثرت في حياة أوربا تأثيرات كثيرةً ومتنوعةً منذ أرسلت أشعتها الأولى إلى أوربا ” [4] .
ويقول جوليفه كستلو ( Jotivet Castelot ) في كتابه ” قانون التاريخ ” ( La Lo Hde L. Histoire : ) :
” كان التقدم العربي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عظيماً ، جرى على أسرع ما يكون ، وكان الزمان مستعداً لانتشار الإسلام ، فنشأت المدنية الإسلامية نشأةً باهرةً ، قامت في كل مكان مع الفتوحات بذكاء غريب ، ظهر أثره في الفنون والآداب والشعر والعلوم ، وقبض العرب بأيديهم خلال عدة قرون ، على مشعل النور العقلي ، وتمثلوا جميع المعارف البشرية التي لها مساس بالفلسفة ، والفلك ، والكيمياء ، والطب والعلوم الروحية ، فأصبحوا سادة الفكر ، مبدعين ومخترعين ، لا بالمعنى المعروف ، بل بما أحرزوا من أساليب العلم التي استخدموها بقريحة وقادة للغاية ، وكانت المدنية العربية قصيرة العمر إلا أنها باهرة الأثر ، وليس لنا إلا إبداء الأسف على اضمحلالها ” .
ويتقدم ويقول : ” ولئن كان سادة البلاد أصحاب أثرة ، فإن العمل الذي تم حولهم كان أسمى منهم ، ومنه نشأت مدينة مدهشة ، وإن أوربا لمدينة للحضارة العربية بما كتب لها من ارتقاء ، من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر ، وعنها أخذت الفكرة الفلسفية العلمية التي سرت إليها سرياناً بطيئاً ناقصاً في القرون الوسطى ، وإن أوربا لتتجلى لنا منحطة جاهلة أمام المدنية العربية ، وأمام العلم العربي والآداب والفنون العربية ، أوربا تدين بالهواء النافع الذي تمتعت به تلك العصور للأفكار العربية ، وقد انقضت أربعة قرون ولا حضارة فيها غير الحضارة العربية وعلماؤها هم حملة لوائها الخفاق ” [5] .
ويقول لبون ( Gustave Lebon ) : ” ينسب الناس إلى باكون ( Francis Bacon ) قاعدة التجربة والملاحظة ، المنطق الاستقرائي ( Inductive Logic ) وهما الأصل في أساس البحث العلمي الحديث ، بيد أن الواجب أن يعترف اليوم بأن هذه الطريقة كلها هي من مبتدعات العرب ” .
( للحديث بقية )
[1] ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، الطبعة الثالثة عشرة ، ص 137 .
[2] قد تحدثنا عن السبعة الأولى من هذه العناوين في شيئ من التفصيل في كتابنا ” السيرة النبوية ” في فضل البعثة المحمدية على الإنسانية والمنح العالمية الخالدة ، ص 378 – 418 .
[3] أيضاً ، ص 190 .
[4] أيضاً ، ص 202 .
[5] الإسلام والحضارة العربية ، للأستاذ محمد كرد علي ، ج 2 ، ص 543 – 544 .
م 5 أحاديث صريحة .