البلاغة في الحديث النبوي الشريف : الجناس وأنواعها نموذجاً

تحقيق كلمتي ” لِبَاسٌ وسُبَاتٌ ” الواردتين في القرآن الكريم ( في ضوء كلام العرب )
سبتمبر 4, 2021
الدراسات الصوتية وجهود علماء المسلمين فيها
سبتمبر 4, 2021
تحقيق كلمتي ” لِبَاسٌ وسُبَاتٌ ” الواردتين في القرآن الكريم ( في ضوء كلام العرب )
سبتمبر 4, 2021
الدراسات الصوتية وجهود علماء المسلمين فيها
سبتمبر 4, 2021

دراسات وأبحاث :

البلاغة في الحديث النبوي الشريف :

الجناس وأنواعها نموذجاً

الأستاذ محمد رياض في في *

القرآن الكريم يمثّل الرتبة الأولى في البلاغة العربية حيث عجز عن الإتيان بمثلها العرب العرباء مع شدة حرصهم على معارضته بجميع ما في وسعهم ، فصار استئناساً للقلوب والتذاذاً للنفوس ، إلى أن عمد بعض المشركين إلى الهروب أمام صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلو القرآن لئلا يسلط عليهم فيأخذ بألبابهم فيؤمنوا به . ولم يكن الحديث النبوي بعيداً عن تلك المزايا اللغوية ، لقد اشتمل كلامه على جميع ألوان البلاغة وبديعها ، ولا بدع فيما قال المصطفى : ” نُصِرْتُ بالرُّعْبِ وأُوتِيتُ جَوامِعَ الكَلِمِ ” .

وكان من أصول البلاغة النبوية عدم التكلف وجوامع الكلم واستيفاء المعاني ونصاعة الألفاظ ومراعاة حال المخاطبين ، وكان كما قال اللّه تبارك وتعالى : ( وَمَآ أَنَآ مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ ) ، يقول القاضي عياض : ” وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول فقد كان صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل الأفضل والموضع الذي لا يجهل سلاسة طبع وبراعة منزع وإيجاز مقطع ونصاعة لفظ وجزالة قول وصحة معان وقلة تكلف ، أوتى بجوامع الكلم وخص ببدائع الحكم وعلم ألسنة العرب ” .

تعريف الجناس لغةً واصطلاحاً :

ومن أنواع علم البديع الذي ترشحت به أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الجناس ، وهو لغةً : التماثل والتشابه ، الجناس والتجنيس والمجانسة كلها ألفاظ مشتقة من الجنس ، وفي الاصطلاح : أَنْ يَتَشَابَهَ اللفظانِ في النُّطْق وَيَخْتَلِفَا في الْمَعْنى .

ولإيراد الكلام على طريق المجانسة فوائد عديدة ، أهمها ميل السامع وإصغاؤه إليه لأن تشابه الألفاظ يحدث ميلاً وإصغاءً إليه ، فإذا حمل اللفظ على معنى ثم جاء نفس اللفظ مكرراً في العبارة عينها على معنى آخر كان للنفس شوق إليه واستئناس به .

أنواع الجناس وأمثالها من الحديث النبوي :

وفي هذه العجالة يقدم الباحث أقسام الجناس عند البديعيين مع أمثلتها من كلام المصطفى ليكون دليلاً على فصاحته وإعجازه ، ولقد أسند مع كل حديث مصدره ليكون القارئ على وثوق تام بالأحاديث فيها .

(1) الجناس التَامّ أو الحقيقي : وهو ما اتَّفَقَ فيه اللفظان في أربعة أمور هيَ : نَوْعُ الحُروفِ ، وشَكلُهَا ، وعَدَدُها ، وتَرْتيبُها .

المثال : عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ عَنِ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – أَنَّهُ  قَالَ : ” إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ ” . والجناس هنا بين ” الماء والماء ” فالمـاء الأول : هوالغسول الذى يغتسل به ، والماء الثاني : هو المني ، والمعنى : وجوب الاغتسال بالماء من أجل خروج الماء الدافق .

المثال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما نازع الصحابة جرير ابن عبد الله البجلي في زمامه فقال رسول الله خلوا بين جرير والجرير فقد تكررت كلمة جرير في الحديث الشريف مرتين متماثلتين في اللفظ تماثلاً تاماً ولكن أولاهما عنت اسم الصحابي والثانية جاءت بمعنى الزمام ، وهذا ما يسمى بالجناس التام أو الحقيقي .

والجناس التام نوعان : الجناس التام المتماثل والجناس التام المستوفي .

  • الجناس التام المتماثل : ما كان لفظاه من نوع واحد ، أي كونها إما اسمين أو فعلين أو حرفين .

المثال : عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : ” إن الله عز وجل يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة فيقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ” . وقع الجناس في قوله : ” عشية عرفة ” و ” أهل عرفة ” فكلمة عرفة الأولى يقصد به التاسع من ذي الحجة ، وعرفة الثانية يقصد بها جبل عرفة الموجود في المملكة العربية السعودية فجاءت اللفظتان متفقتين في عدد الحروف وهيآتها وعددها .

  • الجناس التام المستوفى : وهو ما كان لفظاه من نوعين مختلفين .

المثال : عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” قال الله عز وجل إن أمتك لا يزالون يقولون ما كذا ؟ ما كذا ؟ حتى يقولوا : هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله ” . جاءت لفظة خلق أكثر من مرة ، ولكن في الكلمة الأولى بمعنى الفعل وذلك أن الله هو الخالق ، وثانياً جاءت بمعنى العباد ، فاللفظتان جاءتا متفقتين في عدد الحروف وهيآتها وصفاتها ولكن اختلفتا في النوع ، فإن إحداهما فعل ، والأخرى اسم .

(2) الجناس غَيْرُ التَامّ :  وهو ما اخْتَلَفَ فيه اللفظان في واحدٍ مِنَ الأمور المُتَقَدِّمة الأربعة ، وهو خمسة أنواع : الجناس الناقص والجناس المحرّف والجناس المصرّف والجناس المقلوب وجناس التبديل :

  • الجناس الناقص : أن يختلف اللفظان في عدد الحروف .

المثال : عن علي رضي الله عنه أنه قال : جاء عمار يستأذن على النبي صلى الله عليه و سلم فقال ائذنوا له مرحباً بالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ .
والجناس هنا بين ” الطيب والمطيب ” ، والزيادة هنا جاءت في اللفظة الثانية حيث زيدت الميم في أول اللفظ مع الاتفاق في سائر الحروف ، وهذا النوع من الجناس يسمى بالجناس الناقص .

  • الجناس المحرف : أن يكون اللفظان مختلفين في هيئات الحروف .

المثال : عن ابن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم أحسنت خَلْقي فأحسن خُلُقي وقد وردت اللفظتان خَلقي وخُلقي متساويتين في التركيب ولكنهما مختلفتان في الوزن والمعنى ، الأولى منهما بفتح الخاء وسكون اللام وتعني الصنعة والإبداع والثانية بضم الخاء واللام وتعني السجية والخصلة .

المثال : عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجعفر بن أبي طالب : أشبهت خَلقي وخُلقي والجناس هنا بين ” خَلقي ” بفتح الخاء ، و ” خُلقي ” بضمها .

المثال : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : قَالَ اللَّهُ أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْك ، والجناس هنا بين كلمتي       ” أَنْفِقْ ” و ” أُنْفِق ” . جاء الاختلاف بينهما في هيئة الحروف ، فالأولى فعل أمر لابن آدم يأمره الله تعالى بالإنفاق ، والثانية فعل مضارع يضمن الله فيه بالإنفاق على العبد .

  • الجناس المصرف : أن يكون اللفطان مختلفين بالتركيب بحرف واحد .

المثال : عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، الجناس في قوله ” الخيل معقود في نواصيها الخير ” ، فقد وردت لفظتا الخيل والخير متشابهتين بالوزن مع اختلاف بالتراكيب بحرف واحد وهو الراء .

المثال : ما رواه حـكيم بن حزام أنه قال لرسول الله صـلى الله عليه  وسلم : أرأيـت أمــوراً كنــت أتحـنث بها في الجـاهلية هـل لي فيـها مـن  شيئ ؟ فقال : ” أسلمت على ما أسلفت من خير ” ، والجناس هنا بين   قوله : ” أسلمت وأسلفت ” ، وهو من الجناس المصرف الذي اختلف فيه اللفظان في أنواع الحروف .

ومن هذا القسم ما يسمى بالجناس المصحف وهو أن تكون المخالفة في الحروف في التنقيط فقط ، ومن أمثلته ما روي عن عبيدة بن خلف قال : ” قدمت المدينة وأنا شاب متأزر ببردة لي ملحاء أجرها فأدركني رجل فغمزني بمخصرة معه ثم قال أما لو رفعت ثوبك كان أبقى وأنقى فالتفت ، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه و سلم قال قلت يا رسول الله ! إنما هي بردة ملحاء قال وإن كانت بردة ملحاء أمالك في أسوتي فنظرت إلى إزاره فإذا فوق الكعبين وتحت العضلة ” ،  فقد جاء في هذا الحديث ” أنقى وأبقى ” متجانسين في رسم حروفها ولكنهما مختلفان في النقط فقط .

  • الجناس المقلوب : أن يكون اللفظان مختلفين في التربيب .

المثال : عن أبيه قال قلنا يوم الخندق : يا رسول الله ! هل من شيئ نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر قال : نعم اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، قال : فضرب الله عز وجل وجوه أعدائه بالريح فهزمهم الله عز وجل بالريح . فقد تساوت في هذا الحديث حروف ” عوراتنا وروعاتنا ” ولكنها اختلفت في الترتيب ، فما هو مقدم في الأول مؤخر في الثاني .

  • جناس التبديل : وهو أن يؤتي بما كان مقدماً في الجزء الأول من الكلام مؤخراً في الجزء الثاني وما كان مؤخراً في الأول مقدماً في الثاني .

المثال : عنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ” جار الدار أحق بدار الجار أو الأرض ” ،  فالجناس في هذا الكلام جاء في كلمتي ” جار الدار ودار الجار ”  فما قدم في الأول مؤخر في الآخر وبالعكس .

إنّ هذه نماذج يسيرة من بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولو أريد استيعابها لم يبلغ الإحاطة بمعشارها ، وأنشد من طلاب اللغة والبلاغة العربية أن يوجهوا أنظارهم نحو الحديث النبوي لكي يسايروا مع أفصح العرب وأتقنهم ، وأن يبرهنوا على قواعدهم ويمثلوا عليها به ويعتنوا به أكثر من اعتنائهم بالشعراء الجاهليين ، لأن لسان النبي صلى الله عليه وسلم مصفى ومنقى من جانب الله تعالى فإنه لا ينطق عن    الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى .

المراجع والمصادر :

  1. البخاري ، أبو عبدالله محمد بن إسماعيل ، الصحيح الجامع ، دار التقوى – مصر .
  2. مسلم ، ابن الحجاج ، الصحيح الجامع ، دار التقوى – مصر .
  3. القاضي عياض ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، دار الكتاب العربي – مصر .
  4. الرافعي ، مصطفى ، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ، دار الكتاب العربي – بيروت .
  5. العقاد ، محمود مصطفى ، عبقرية محمد ، بيت الياسمين للنشر – القاهرة .
  6. كمال عز الدين ، الحديث النبوي الشريف من وجهة البلاغة ، القاهرة ، دار إقراء .
  7. عبد الفتاح بسيوني ، علم البديع ، دراسة بلاغية ، مؤسسة المختار في النشر والتوزيع .
  8. الزويع ، خالد ، البلاغة النبوية في الأربعين النووية ، جامعة أم درمان – السودان .
  9. الزمخشري ، محمود بن عمر ، الفائق في غريب الحديث ، دار المعرفة – لبنان .
  10. علي الجارم ومصطفى أمين ، البلاغة الواضحة ، دار المعارف – مصر .

* قسم اللغة العربية بجامعة كاليكوت – كيرالا ، الهند .