دلالة اللفظ والسياق في تفسير القرآن والحكم على الحديث
يوليو 13, 2021البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سور الطور والنجم والقمر )
يوليو 31, 2021التوجيه الإسلامي :
درس من الحوادث
[ هذه المحاضرة أحد دروس كتاب ” أحاديث صريحة مع إخواننا العرب والمسلمين ” للإمام الندوي ، طُبع من دار الصحوة ، مصر ، وهو أحاديث أخوية صريحة ، ونقد مخلص هادف لواقع العرب والمسلمين ، وتذكيرهم بمركزهم الدعوي القيادي ، وواجبهم نحو أنفسهم والعالم المعاصر ، قدم له سماحة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي رئيس ندوة العلماء ، ننشرها تعميماً للفائدة . التحرير ]
للعلامة الإمام الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالى
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبين محمد وآله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
فأيها السادة ! إنني في هذا الموقف الكريم ينازعني عاملان متناقضان ، فأشعر بنزاع نفسي ، العامل الأول : أن الموضوع هو موضوع الساعة ، وحين يقع الحريق – لا قدر الله وأعاذكم الله وإيانا جميعاً منه – وتلتهب النار في قرية ، فهناك تخرس الألسن وينطق الواقع ، والواقع أبلغ وأبين من ألف لسان وألف قلم ، فيستطيع الولد أن يقوم على ربوة أو يرتقي مكاناً عالياً وينادي : الحريق ! الحريق ! وكلمة الحريق هي أبلغ من ألف خطبة ومن ألف محاضرة ، لأن النار تنطق بلسانها ، وتقول : اتقوني ، احذروني ، وأعدوا لي عدتكم ، كذلك إذا جاء فيضان وتحدى القرية فإن هذا الفيضان يغني عن كل خطبة ، وعن كل محاضرة ، هذا هو العامل الأول الذي ينازعني ويقول لي : ماذا عسى أن تقول ، أليس الواقع المؤلم ، الواقع البين الظاهر مغنياً عن كل بيان ، ألسنا نعيش في حالة طوارئ ؟ ألا تحدث حولنا حوادث تنطق بخطرها ، وتنبه النائم وتعلم الجاهل ، وتنطق الأخرس .
والعامل الثاني ، هو سنوح هذه الفرصة للاعتبار والادكار ، وتلقي الدورس ، والانتفاع بالواقع ، فهناك حوادث لا تدع فرصةً ، وإنما يحضر الإنسان أو المجتمع ويكون كما قال الله تعالى : ( كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ . وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ . وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ . وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ . إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ ) ، فليس هذا هو الشأن والحمد لله الآن ، فلا نزال نعيش . ولا نزال نبصر ونعي ، ولا تزال أمامنا فرصة مفتوحة لتلقي الدروس والعظات والعبر ، فأنا أنتهز هذه الفرصة السانحة ، فقد تفوت الفرصة ولا تعود ، وقد تغلب الأمم والشعوب على أمرها ، فلا تملك من أمرها شيئاً ، ولا تستطيع أن تقدم رجلاً وتؤخر أخرى ، إنما تؤخذ على غرة ، ولسنا ندري هل تقصر هذه الفرصة أو تطول، ومتى يحال بيننا وبين الادكار والاعتبار ، وتلقي الدروس من الحوادث والأخبار .
إن مما أكرم الله تعالى به الإنسان ، وشرفه على جميع خلقه أنه منحه صلاحية الاعتبار ، وصلاحية تلقي الدرس عما حوله ، فالحجر لا ينتفع ولا يغير موقفه ، إنما هو حجر جامد ميت لا حراك به ، ولا وعي ولا عقل ، كذلك الأشجار والنباتات ، وكذلك كثير من الحيوانات والعجماوات ، ولكن من الحيوانات من يتعظ ويعتبر وينتفع بما يقع حوله ، اضرب الكلب مرةً أو مرتين لا يقصدك ، إنه يعرف من يُطعمه ، ويعرف من يضربه ، الكلب يعرف البيت الذي يجد فيه عظماً أو كسرة خبز ، ويعرف البيت الذي يستقبل فيه بهراوة وينزل عليه بالضرب ، فهو يميز بين البيتين ، ويقصد البيت الذي يجد فيه كسرة خبز أو لقمة عيش ، ويترك البيت الذي جرب مراراً أنه يضرب فيه ، أما الفرس فهو معروف بذكائه ، وخصوصا إذا كان جواداً عربياً ، فهو معروف بالذكاء الموهوب ، الذكاء غير المعتاد ، وبعض الحيوانات تنتقم وتثور فيها الغيرة فتأخذ الثأر ، والفيل والبعير مشهوران بالحقد وأخذ الثأر وبالطبيعة الموروثة ، والذاكرة القوية ، يعرف البعير من أهانه ، ومن قسا عليه قسوةً زائدةً ، فينتقم منه ، فكيف بالإنسان ؟ والله سبحانه وتعالى يمدح الإنسان بهذه الميزة فيثير فيه العقل الواعي ، ويريد أن يستخدم الإنسان عقله ، ويقول : ( إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِـأُوْلِى ٱلأَبْصَارِ ) ( فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِى ٱلأَبْصَارِ ) ويقول : ( وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ) ، ويذم الذين لا ينتفعون بما يقع حولهم من حوادث وآيات ، وهذه هي الغاية الأخيرة التي يصل إليها الإنسان في البلادة والشقاوة إذا فقد الوعي، ولم ينتفع بالدروس القاسية ، والحوادث الصارخة التي تقع حوله ، فهناك لا يمهل ، فيؤخذ ويبطش به البطش الشديد ، يقول الله تبارك وتعالى : ( وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ) ويقول : ( أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ، فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ ) .
وأرجو أن تتأملوا في الآية القارعة الزاجرة المنبهة التي وصف الله فيها الكفار ، وشنَّع فيها على غفلتهم ، وتماديهم فيما هم فيه من باطل ولهو ، وإطباقهم العين عما يقع حولهم من حوادث وزواجر ، يقول الله تعالى : ( وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ وَعْدُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ ) إن موضع الاعتبار في قوله ( أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ ) هذا هو الكتاب المعجز الذي ينطق من قبل أربعة عشر قرناً بما يقع بعد قرون وعلى مسافات بعيدة ، كأنه كتاب طري ينزل الآن ، لا يقول ( أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ وَعْدُ ٱللَّهِ ، إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ ) إلا الكتاب السماوي المعجز الذي نزل بالوحي .
فنحن كلنا يجب أن نكون على حذر من أن ينطبق علينا قوله تعالى ( وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ) وأن نتعظ بالحوادث التي تقع منا على غلوة سهم كما يقول العرب القدماء ، وأن نقرأ هذه اللوحة البارزة المكتوبة بقلم عريض أو ” الكتابة على الحائط ” ( نوشته ديوار ) كما يقول المثل الفارسي ، إنها أمارة تظهر وتبدو على الأفق القريب لا البعيد يقرؤها أمي ويفهمها غبي ، وهنالك موجات تموج حولنا، وعواصف تهب علينا ، وصواعق تنزل على مقربة منا ، قد كان زمن كنا نستطيع أن نبصر كل ذلك ببصائرنا ، بفراسة المؤمن ، وبوعي العاقل ، وبدراسة المؤرخ الدارس لنهضة الأمم وسقوطها ، والمطلع على سنن الله تعالى في الكائنات ، ولكن الحوادث الأخيرة نستطيع أن نبصرها بأبصارنا ، وبعيون رؤوسنا ، لا نحتاج في ذلك إلى ألمعية أو بُعد نظر أو فراسة صادقة .
أيها الإخوان ! إن موضع الساعة هو الموضوع الملتهب كما يقال بالإنجليزية ( Burning Topic ) وكالسيف المصلت على الرؤوس ، إن هذه الحياة التي يعيشها كثير من الناس في بلادنا الإسلامية والعربية ، حياة ما أنزل الله بها من سلطان ، وما تكفل الله لها بتأييد ونصر ، هذه الحياة لا تصلح للبقاء طبيعياً وعقلياً ، ودينياً وخلقياً ، هذه الحياة اللاهية الساهية ، هذه الحياة الباذخة المترفة ، هذه الحياة التي مثلها الأعلى المادة والمعدة ، هذه الحياة التي تدور حول فرد واحد ، أو حول أسرة واحدة ، أو حول طبقة واحدة ، هذه الحياة لا تصلح للبقاء إذا تركت وشأنها ، ولم تنزل صاعقة من السماء ، ففي هذه الحياة من عناصر التدمير ، ومن عناصر الشقاء ما يكفي للقضاء عليها ، لا تحتاج في ذلك إلى عامل خارجي ، الشرارة إذا كانت كامنةً في حطب فلا تحتاج إلى إشعال نار ، لا تحتاج إلى مروحة تحرِّك ، أو يد قوية تشعل ، الشرارة وحدها تكفي ، إن طبيعة الشرارة أن تلتهب وتحرق .
إن الحياة التي لا يشاهد الإنسان فيها إلا مسابقةً مجنونةً – كسباق الخيل المضمرة – للحصول على أكبر مقدار من الثروة ، مسابقة تتخطى المبادئ الإنسانية ، والحدود الخلقية ، جديرة بأن تزول وتنهار ، اسمحوا لي بالصراحة ، فهذا منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو المقام الذي كان ينطلق منه الإنذار ، أنا أعرف قدري ورحم الله من عرف قدره ، فأنا لا أنطق تلقائياً ، ولكن الوضع الحاضر هو الذي ينطقني ، إن الحوادث هي التي تنطقني وتمسك بتلابيبي وتقول لي : انطق وتكلم ، ولا تخف أحداً ، أنا طائر وقع على فرع شجرة وبدأ يرفرف بجناحيه ويسجع ، ثم طار ، إن هذا المجتمع الذي يساق سوقاً عنيفاً لا رحمة فيه ولا هوادة ، إلى غاية عمياء ، إلى غاية جاهلية ، مجتمع لا يدوم ، ولنا عبرة في البلاد القريبة التي ما قصرت في صيانة هذا المجتمع ، واعتمدت على كبرى الطاقات في الدنيا ، واستخدمت الطرق الحكيمة الداهية ، والوسائل الجبارة القوية ، والمخططات البارعة الدقيقة التي لم يستخدمها أي بلد وأي شعب في هذا العصر ، فماذا كانت النتيجة ؟ ( فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِى ٱلأَبْصَارِ ) إن ساعة الزمان لا تقف ، وإن عقرب الانقلاب والتحول دائم سائر ، إنه يتجه إلى بلد دون بلد ، وإذا اتجه إلى بلد في دورانه فإنه يستطيع أن يتجه إلى بلاد أخرى ، فلنكن كلنا على حذر ، ولنأخذ عدتنا قبل أن يتجه هذا العقرب إلينا ويستهدفنا ، إننا نلقي المسئولية على حوادث سياسية ، نعم إن لها تأثيراً ، وإن الانقلابات السياسية يجب أن يحسب لها الحساب .
ولكن الذي يفتح الطريق لهذه الحوادث ، ويمهد الأرض لها ، ويقرب البعيد ، ويجعل شبه المستحيل ممكناً وما لم يكن يتصوره الإنسان واقعاً ، هو الأسلوب الذي تحياه بلادنا ، وهو توفير أسباب الخذلان من الله ، والسخط من الناس ، والحياة التي لا تتفق مع الدين والعقل .
إن تاريخ حضارة الأمم ، وتاريخ نهضتها وزوالها يعلمنا أنه إذا أصيب مجتمع بشرى بالتخمة بالمدنية والرفاهية ، وابتلي بالمسابقة المجنونة في الحصول على وسائل الترفيه وترقية المدنية ، وفي رفع مستوى المعيشة ، وبلغ رجال هذه المدنية قمةً في البذخ وقمةً في الترف ، وكانت عندهم جيوش كثيفة جرارة ، والعدد والعدة التي يحاربون بها العدو ، ويقهرونه ، فإن هذا المجتمع يزول لا محالة ، وإن هذه المدنية تنهار ، لا ينقذها شيئ من هذا المصير المشئوم المحتوم والنهاية الأليمة المقدرة .
قد أصيب المجتمع الفارسي الإيراني القديم في القرن السابع المسيحي الذي كان يحكمه أهل ساسان والأسرة الكيانية العريقة في المجد والعظمة بنفس الداء ، فقد بلغت المدنية فيها أوجها ، وذروة مجدها وزهوها ، وهنالك أسماء معروفة في التاريخ الإيراني ، مذكورة بالأنساب ، كانوا يحافظون على هذه الأعراف ، ويوفون بهذه الشروط ، ولما غزا العرب المسلمون هذه المملكة الساسانية المترامية الأطراف ، التي وزعت العالم المتمدن المعمور مع الدولة البيزنطية لم ينفعهم هذا الترف ولم يغن عنهم شيئاً بل كان من أكبر أسباب زوال هذه المملكة وانهيار هذه المدنية .
إلى هذه الحال وصلت المدنية الفارسية الباذخة ، وأصبح قادتها وأبناؤها لا يستحقون رحمةً من السماء . ولا ينالون رحمةً من بني جلدتهم ، فكانوا يملقونهم إذا حضروا ، ويلعنونهم إذا غابوا . وكانوا يبغضونهم بأعماق قلوبهم ، ويمدحونهم بأطراف ألسنتهم ، رياءً ونفاقاً ، وكانت المدنية تزخر بآلاف من الشعراء ، وآلاف من الأدباء ، ومئات من المؤسسات الكبيرة ، وثروة كان يحويها إيوان كسرى وقصر المدائن ، وتبدو ثروة خيالية أسطورية لا يصدقها الواقع ولا يسيغها العقل ، ولكن هذه المدنية الراقية ، وهذه الثروة الهائلة لم تنفع أهلها ، وكان هذا الجنون لترفيه النفس ، وإشباع الشهوات ، وإرضاء الغريزة ، هو الذي كان سبب هلاكهم ، وكان من أسباب سرعة الفتح الإسلامي العربي .
إخواني ! إن هناك حياة لا تستحق التأييد والنصر من الله تبارك وتعالى ، لأن الله سبحانه وتعالى هو العدل البر الرحيم ، وهو العزيز الحكيم ، وهو رب العالمين ، ليس رب أمة وليس رب شعب ، وليس رب بلد ، وليس رب مجتمع ، إنها ليست حاجات يجوز أن تكمل ويجب أن تحترم ، إنما هي نهامة بالمال ، إنها معدة خيالية لا وجود لها إلا في التصورات ، لا وجود لها إلا في الأرقام ، وفي حسابات البنوك ، إذا تولدت هذه المعدة الخيالية في مجتمع ، وكانت هي الحاكمة ، كانت هي الآمرة الناهية ، اكتسحت المجتمع موجة عارمة من التنافس المادي والجشع المالي ، والفوضى الخلقية ، والقسوة والوحشية ، هنالك يأذن الله بزوال هذا المجتمع وينطبق عليه قوله تعالى : ( وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ) .
إن أخوف ما أخاف على هذه المناطق التي أكرمها الله بالثروات والخيرات وأدر عليها الرزق الوفير والخير الكثير ، هو ” البطر ” [1] إنني إذا قرأت قوله تعالى : ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوَارِثِينَ ) أخذتني رعدة ، وملكني الإشفاق والحذر على هذه المجتمعات السعيدة التي تعيش في عصر ” ألف ليلة وليلة ” وفي عصر الأساطير والأخيلة ، إن أخوف ما أخاف عليها ليس هو العدو الخارجي ، لكن هو العدو الكامن في النفوس ، الجاثم على المجتمع ، هو الذي أنذر به رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً في خطبته على جبل الصفا حيث قال : ” إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ” .
وما كانوا يتوقعون حين سمعوا صوته : يا صباحاه إلا أنه يخبرهم بعدو كامن ، قاعد بالمرصاد وراء جبل الصفا يغير عليهم على غرة منهم ، فيستاق إبلهم ومواشيهم وينهب أموالهم ويسبي ذراريهم ، فهذا الذي كانوا يعرفون من معنى هذا الهتاف ، ولم يجربوا إلا نوعاً واحداً من العدو ، وهو العدو الخارجي من إحدى القبائل المعادية المنافسة ، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم نبَّههم على خطر جديد ، لم يكن لهم به وهو العدو الباطني ، هو الحياة الجاهلية الوثنية التي كانوا يعيشونها بعقائدها وأخلاقها ومثلها ، إن العدو إذا وجد في داخل مجتمع ، وفي البيوت وفي المنازل ، وعشش وباض وفرح في الأخلاق ، وفي الميول والرغبات ، وفي المثل العليا ، والمفاهيم والقيم ، فهذا هو العدو الحقيقي الذي لا يؤمن حيناً ولا يفارق أبداً ، إنما هي حياة جاهلية برأ الله العرب منها قبل أن يبرئ منها غيرهم . فكانوا حاملي راية المساواة الإنسانية ، وراية الرحمة بالإنسانية المعذبة ، وراية التقشف في الحياة ، وراية الزهد في حطام الدنيا ، وراية إيثار الآجلة على العاجلة ، وإيثار الغير على النفس ، وقد وصفهم الله بقوله : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ) .
وهم الذين خاطبهم مربي الأمة وحكيمها ، الخليفة الإسلامي العربي ، عمر بن الخطاب القرشي العدوي ، في وصيته الحكيمة للعرب : ” إياكم والتنعم وزي العجم ، وتمعددوا [2] ، واخشوشنوا [3] ، واخشوشبوا [4] ، واخلولقوا [5] وأعطوا الركب أسنتها ، وانزوا نزواً [6] وارموا الأغراض ، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب [7] ” ، فكان يجب أن يكون العرب أبعد الأمم عن الحياة الرخية الرقيقة ، وأكثرها محافظةً على حياة البساطة والخشونة ، والأخذ بالعزيمة ، فإنها هي الأمة المهيأة لقيادة البشرية في كل زمان ، فكيف إذا كانت بين فكي أسد ومحاطة بالأعداء والأخطار .
إنما شقيت الإنسانية ، وشقيت المدنية دائماً بالحاجات الخيالية والغايات المختلفة والمثل الزائفة ، إنها لم تشق بالحاجات الطبيعية ، إنه لا ذنب على المعدة الحقيقية ، وقد أحسنت الشاعرة الجاهلية حين عيرت أخاها في طمعه الزائد في المال ، وقالت :
وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم ؟
إن المعدة الخيالية لا تملؤها الرمال ، ولا تملؤها الأحجار والجبال ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ” .
إن أحد نوابغ هذا العصر وكان إسرائيلي السلالة ، يهودي الديانة ، غربي النشأة ، وهو محمد أسد النمساوي الذي كان يسمى سابقاً بليوبولد ويس Leopold Veiss يحكي قصة إسلامه فيقول : إني كنت مسافراً في سنة 1926م في قطار برلين تحت الأرض ، وكانت معي زوجتي ، وهي رسامة وفنانة ، كانت ذكيةً جداً ، وقد لاحظت أن كل زملائي في هذه الدرجة مكتئبون تعلو وجوههم كآبة ، ويغشاها قتام ، وكان ما يحملونه من متاع ويلبسونه من ملابس ، ويتحلون به من خواتم ، يدل على أنهم من الطبقة المثرية في البلد ، وكان الزمن زمن الرخاء الذي عقب سنوات ” التضخم ” في أوربا ، فأنا تحيرت ، وفكرت ، وقلت : لماذا هذه الكآبة ، وما سبب هذا الحزن العميق الذي هم غارقون فيه ؟ ولفت نظر زوجتي ، وقلت : يا عزيزتي ! انظري في وجوه هؤلاء القوم ألا تشعرين بأنهم تعلوهم الكآبة ؟ قالت : نعم ، إنهم جميعاً يبدون وكأنهم يعانون آلام الجحيم ، أردت أن أفسر هذه الظاهرة ، فلم أنجح ، ورجعت إلى مكتبي ، فإذا بالمصحف على منضدتي ، فأخذته من غير قصد وفتحت من غير اختيار ، فإذا بسورة التكاثر تطالعني ، ويقول الله تبارك وتعالى :
( أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ . حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ . كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ . كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ . لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ . ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ . ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ ) .
وكنت متردداً هل أدخل في الإسلام ، أو لا أزال أشرحه ، وأعرضه في الأسلوب العلمي العصري كما كان شأني ، ولم أكن قررت بعد أن أعتنق الإسلام ، ولما قرأت هذه السورة ، قلت : والله إن هذا الكلام لا يأتي بها إلا من ينزل عليه الوحي ، هذا الكلام لا يقوله بشر قبل ثلاثة عشر قرناً ، إنه يصور المجتمع الغربي المعاصر الراقي بقسماته ومخايله ، ويتنبأ بالعذاب النفسي الذي يتميز به هذا القرن العشرون رغم رقيه الصناعي والحضاري ، ويعين مصدر هذا العذاب والشقاء الذي كان يعانيه ركاب القطار الذين رافقتهم ، ويعانيه المجتمع الأوربي بشكل عام وهو ” داء التكاثر ” لا غير ، فمن ساعتي خرجت إلى صديق لي مسلم هندي ، وقلت : يا أخي ماذا يفعل من يريد أن يدخل في الإسلام ؟ قال : يقول ” أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ” فنطقت بالشهادتين وأصبحت مسلماً [8] .
إخواني ! أنا أوصي أولاً نفسي وإياكم بعد ذلك ، أن نعتبر بالحوادث التي تقع حولنا ، وأن نغير نفوسنا قبل أن تغيرنا العوامل القاهرة ، المفروضة علينا في الداخل ، أو الواردة إلينا من الخارج التي تجوس خلال الديار ولا ترحم أحداً ، ولنجعل المثل الكامل هو الحياة الإسلامية العادلة المؤسسة على إيثار الآخرة على الدنيا ، المؤسسة على الحقائق الغيبية الدينية ، والمثل الخلقية ، والمبادئ الفاضلة ، ونحترز من الذنوب والكباير ، وقد كتب سيدنا عمر بن عبد العزيز إلى قائد جيشه فقال :
” آمره ألا يكون من شيئ من عدوه أشد احتراساً منه لنفسه ومن معه ، من معاصي الله ، فإن الذنوب أخوف عندي على الناس من مكيدة عدوهم ، إنما نعادي عدونا وننصر عليهم بمعصيتهم ، ولولا ذلك لم يكن لنا قوة بهم ، لأن عددنا ليس كعددهم ، ولا عدتنا كعدتهم ، فلو استوينا نحن وهم في المعصية كانوا أفضل منا في القوة والعدد ، فإلا ننتصر عليهم بحقنا لا نغلبهم بقوتنا ، ولا تكونوا لعداوة أحد من الناس أحذر منكم لذنوبكم ” [9] .
أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم ، وأدعو لكم وللمسلمين جميعاً ببقاء العافية وطول السلامة ، والتوفيق والهداية .
[1] قال في القاموس : البطر النشاط ، والأشر ، وقلة احتمال النعمة ، والدهش والحيرة ، والطغيان بالنعمة وكراهية الشيئ من غير أن يستحق الكراهية .
[2] تمعدد الغلام : شب وغلظ . وقيل معناه : تشبهوا بعيش معد بن عدنان ، وكان ذا غلظ وتقشف .
[3] اخشوشن : تخشن في المطعم والملبس .
[4] اخشوشب : صار صلباً كالخشب في أحواله وصبره على الجهد .
[5] تبذلوا في الملابس .
[6] نزا ينزو ونزواً : وثب ، يعني اركبوا الخيل وثباً ونزواً .
[7] رواه البغوي عن أبي عثمان النهدي .
[8] اقرأ القصة بطولها ونصها في ” الطريق إلى مكة ” لمحمد أسد ، ص 327 – 329 ، ولقد لخصتها في المحاضرة اعتماداً على ذاكرتي .
[9] سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم .