البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سورتي ق والذاريات )
يونيو 2, 2021دلالة اللفظ والسياق في تفسير القرآن والحكم على الحديث
يوليو 13, 2021التوجيه الإسلامي :
التربية والأخلاق وتأثير ضعفهما على المجتمع
الإمام الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالى
لم يزدد المسلمون إلا ضعفاً ، ولم تزدد أخلاقهم على مر الأيام إلا انحطاطاً وتدهوراً ، ولا أحوالهم وشوؤنهم إلا فساداً ، حتى أصبحوا في فجر القرن الرابع عشر الهجري [1] أمةً جوفاءً ، لا روح فيها ولا دم ، وكانوا كصرح عظيم من خشب منخور قائم ، لا يزال يؤوي الناس ، ويهول من بعيد ، أو كدوحة [2] قد تآكلت جذورها ، ونخر جذعها العظيم ، ولم تنقلع بعدُ ، وأصبحت بلادهم مالاً سائباً لا مانع له ، وأصبحت دولهم فريسةً لكل مفترس ، وطعمةً لكل آكل ، وحق قول النبي صلى الله عليه وسلم فيهم :
” يوشك الأمم أن تداعى عليكم ، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ” .
فقال قائل : أو من قلة نحن يومئذ ؟
قال : ” بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل . ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن ” .
قال قائل : يا رسول الله ! وما الوهن ؟
قال : ” حب الدنيا وكراهية الموت ” [3] .
واستمر المسلمون على هذه الحال وزيادة ، حتى أغارت عليهم في القرن الثامن عشر المسيحي [4] الأمم الأوروبية ، النصرانية الجاهلية ، والمتحضرة الوحشية ، والكاسية العارية [5] ، فسلموها مفاتيح ملكهم ، واعتزلوا لمصلحتها عن قيادة العالم .
وقد بلغ المسلمون من الانحطاط الخلقي منزلةً ، أن وُجد فيهم أفراد خانوا أمتهم ، وشروا [6] بلادهم للأجنبي بثمن بخس دراهم معدودة ، وتطوعوا في جنود العدو ، يفتحون بلادهم للأجنبي على حسابهم .
ولكن هذا الهجوم الغربي كان أشد تأثيراً ، وأعمق أثراً ، وأبعد مدىً من الهجوم الشرقي ( المغولي والتتري ) ، فكاد يخمد كل جمرة في قلوبهم لم تخمدها العواصف طيلة هذه القرون ، وبقيت كامنةً في الرماد تخبو مرةً ، وتلتهب أخرى .
فتش عقلاؤهم [7] عن منابع القوة الكامنة في نفوس المسلمين وقلوبهم ، فوجدوا أن أكبر منبع للقوة والحياة هو الإيمان ، وشهدوا ما فعل الإيمان قديماً ، وما أظهر من معجزات وخوارق ، وما هو خليق بأن يفعل ، فعادوه ، وسلطوا على المسلمين عدوين ، هما أفتك بهم وأضر بهم من المغول والتتر ، ومن الوباء الفاتك :
الأول : هو الشك وضعف اليقين ، الذي لا شيئ أدعى للضعف والجبن منه .
الثاني : ما نعبر عنه بالذل النفسي [8] ، وهو أن صار المسلمون يشعرون بالذل والهوان في داخل أنفسهم وفي أعماق قلوبهم ، ويزدرون كل ما يتصل بهم من دين وتهذيب وأخلاق ، ويستحيون من أنفسهم ، ويؤمنون بفضل الأوروبيين في كل شيئ ، ويعتقدون فيهم كل خير ، ولا يكادون يعترفون بنقصهم وعيبهم في ناحية من نواحي الحياة ، ولا يصدقون بانهزامهم وفشلهم في ساعة من ساعات الدهر .
وإذا تمكن هذا الذل من نفوس أمة فقد ماتت ، وإن كنت تراها تغدو وتروح ، وتأكل وتعيش .
وابتلي المسلمون في هذه المرة – بتأثير الحضارة الغربية ، والفلسفة الغربية – بعبادة المادة وحب الدنيا ، والجري وراء النفع العاجل ، وتقديم المصالح الشخصية والمنافع المادية على المبادئ والأخلاق ، شأن الأمم الأوروبية الجاهلية ، فكانت هذه الأخلاق وهذه النفسية والتربية مانعاً من الجهاد في سبيل الله ، وإعلاء كلمته ، ومن تحمل المشاق وتجرع المرائر ، ومكابدة الأهوال والخسائر في سبيل المبدأ الصحيح والعقيدة السامية .
كانت نتيجة هذا كله أن ظهر جيل في المسلمين ، متنور الذهن ، ولكنه مظلم الروح ، أجوف القلب ، ضعيف اليقين ، قليل الدين ، قليل الصبر والجلد ، ضعيف الإرادة والخلق ، يبيع دينه بدنياه ، وآجله بعاجله ، ويبيع أمته وبلاده بمنافعه الشخصية ، وبجاه وعزة وهمية ، ضعيف الثقة بنفسه وأمته ، عظيم الاتكال ، كثير الاستناد إلى غيره : ( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ) [ المنافقون : 4 ] .
هؤلاء هم الذين نشروا في المسلمين الجبن والوهن ، وصرفوا المسلمين عن الاتكال على الله ، ثم الاعتماد على أنفسهم إلى الاعتماد على غيرهم ، والتكفف لديهم ، والالتجاء في مواقع الخطر إليهم .
وأطفأوا في قلوبهم شعلة الجهاد في سبيل الله ، والحمية للدين ، وأبدلوا الوطنية العليلة ، والجنسية الناعسة ، بجنونها الذي بعث الحكمة من مرقدها ، وأطلق العقل من إساره ، والذي تمكن مما لم يتمكن منه العقل والعلم منذ آلاف من السنين ، أبدلوا بهذا الجنون الحكيم عقلاً ناقصاً عليلاً لا يعرف إلا الموانع والعراقيل .
وقد ظهر هذا التحول العظيم في العقيدة والنفسية ، والإفلاس في الروح والإيمان في شر مظاهره في حرب فلسطين ، فكان فضيحةً للعالم العربي في القرن الرابع عشر الهجري ، كما كان انكسار المسلمين وفشلهم الذريع أمام الزحف التتري فضيحةً للعالم الإسلامي في القرن السابع .
فقد اجتمعت سبع دول عربية لتحارب الصهيونية ، وتدافع عن وطن عربي إسلامي مقدس ، عن القبلة الأولى ، وعن المسجد الثالث الذي تُشدّ إليه الرحال ، وعن جزيرة العرب والأقطار العربية التي أصبحت مهددةً بالخطر الصهيوني ، فكانت حرب فلسطين دفاعاً عن حياة وشرف ، وعن دين وعقيدة .
وكان العالم العربي بأسره إزاء دويلة صغيرة لم تستقر بعدُ ، واتجهت الأنظار إلى مسرح فلسطين ، وانتظر الناس معركةً مثل ( معركة اليرموك ) أو وقعة مثل ( وقعة حطين ) .
ولماذا لا ينتظرونها ، والأمة هي الأمة ، والعقيدة هي العقيدة ، مع زيادة فائقة في العدد والعُدد ؟
فلماذا لا ينتصر العرب وهم عالمون ؟
ولماذا لا يقضون على عدوهم وهو حفنة من المشردين ؟
ولكنهم نسوا ما فعلت الأيام وما فعلت التربية ، وما فعلت الدول والزعامة السياسية ، وما فعلت المادية بالأمة العربية في هذا العصر !
لقد تقدم العرب إلى معركة اليرموك حقاً ، ولكن بغير الإيمان الذي تقدم به أسلافهم إلى هذه المعركة في العصر الأول .
لقد تقدموا إلى وقعة كانت وقعةً حاسمةً كحطين – لو ظفر العرب فيها – ولكنهم تقدموا بغير الروح التي تقدم بها صلاح الدين وجنده المؤمن المجاهد .
تقدموا بقلوب خاوية تكره الموت ، وتحب الحياة ، وأهواء متشتتة ، وكلمة متفرقة ، ويريدون أن يربحوا النصر ، ولا يخسروا شيئاً ، وأن يحافظوا على شرفهم ، ولا يخاطروا بشيئ .
كل يعتقد أن غيره هو المسؤول عن الحرب وعن الغلبة والهزيمة ، ثم هم يقاتلون ، وحبلهم في يد غيرهم ، إذا أرخى قليلاً تقدموا ، وإذا جرَّه تأخروا ، وإذا قال : حارِبوا ، حارَبوا . وإذا قيل : اصطلِحوا. اصطلَحوا . وما هكذا يكتسب الظفر ، ويقهر العدو :
أوردها سعد ، وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل
وبقي العالم متطلعاً إلى ما قرأه في تاريخ الجهاد الإسلامي من روائع الإيمان ، وخوارق الشجاعة والصبر ، والاستهانة بالحياة ، والبساطة والبطولة والاستقبال للموت ، والتمني للشهادة ، وحسن النظام ، وروح الطاعة والإيثار ، فلم ير من ذلك شيئاً ، إلا لمعات وإشراقات للإيمان ، كانت تظهر من بعض المتطوعين في حرب فلسطين والإخوان المجاهدين ، تجندوا وتطوعوا للحرب بدافع الإيمان ، والدفاع عن الإسلام ، وحملتهم الحمية الدينية على المغامرة ، ودفعتهم إلى ميدان الحرب ، فشرّفوا الدين ، وأرعبوا القلوب ، وأعادوا التاريخ القديم ، وبرهنوا على أن الإيمان لا يزال المنبع الفياض للقوة والنظام ، وأن عنده من القوة والنفوذ والتنظيم وروح المقاومة والجهاد ما ليس عند الدول الكبيرة المنظمة [9] .
لقد ثبت مما ذكرناه في هذا المقال ، وما سردناه من الأمثلة والأخبار ، وشهادات التاريخ ، ومشاهدات هذا العصر – وما حرب فلسطين منا ببعيد – أن المد والجزر في تاريخ الإسلام وأحوال المسلمين تابعان للمد والجزر في الإيمان ، وقوة معنوياتهم التي تنبثق من الدين ، وأن منبع قوة هذه الأمة في باطنها ، وهو القلب والروح .
فإذا عمر القلب بالإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم واليوم الآخر ، وتزكت الروح بتعاليم الدين والأخلاق الإسلامية ، وجاش الصدر بالحمية الدينية جيشانَ [10] المرجل [11] ، وأخذ المسلمون عدتهم من القوة المادية ، وأعدوا للعدو ما استطاعوا وأدركوا ما عليه العالم من جور وظلم ومن جهالة وسفاهة ، وضلال في الدين والدنيا ، وعلموا أن الزمان قد استدار كهيئته يوم جاء الإسلام ، والعالم قد عاد جاهلياً كما بدأ : ( ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ ) [ الروم : 41 ] فأشفقوا عليه ، ورأوا كأن العالم في حريق ولا ماء إلا عندهم ، فسعوا به يطفئون النار التي عمت الدنيا ، ونسوا في سبيل ذلك لذاتهم وتكدر عيشهم ، وطار نومهم ، وجُن جنونهم ، فعند ذلك يتحولون قوة خارقة للعادة لا يغلبها العالم – ولو سعى بأسره وجميع شعوبه وجنوده ودوله – ويصيرون قضاء الله الغالب ، وقدره المحتوم ، وكلمته العليا : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ . إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ . وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ) [ الصافات : 171 – 173 ] ، ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ) [ آل عمران : 139 ] [12] .
[1] يبتدئ هذا القرن بسنة 1883م .
[2] الدوحة : الشجرة العظيمة .
[3] رواه أبو داود عن ثوبان رضي الله عنه .
[4] يقابله القرن الثاني عشر الهجري .
[5] المطلع على تاريخ حضارة هذه الأمم وطبيعتها يصدق هذه الصفات المتناقضة .
[6] شروا: باعوا .
[7] أي عقلاء الأعداء .
[8] وهو ما اعتاد الكتاب العصريون بتسميته مركب النقص ( Inferiority Complex ) .
[9] كما نراه الآن في فلسطين من حب المؤمنين للشهادة ، فقد تسابق إلى الجنة شباب وفتيات جددوا ببطولاتهم وجهادهم سيرة السلف الصالح . فحيا الله تلك النفوس ، وجعلها منارات ومعالم للنصر المؤزر بإذن الله .
[10] الجيشان : الغليان .
[11] المرجل : القِدر من النحاس .
[12] المد والجزر في تاريخ الإسلام ، ص 71 – 83 ، طبعة دار القلم بدمشق ضمن سلسلة ( كتب قيمة ) .