الشيخ الفيلسوف عبد الباري الندوي المولود في 1889م – المتوفى في 1976م
يونيو 2, 2021المحدث الكبير الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي
يوليو 13, 2021من وحي التنوير :
أتبين دينيه ( قبل الإسلام )
ناصر الدين دينيه ( بعد الإسلام )
( الحلقة الثانية )
بقلم : دكتور غريب جمعة ( جمهورية مصر العربية )
كان لابد من السطور التي كتبناها في الحلقة السابقة كمفتاح للدخول إلى موضوعنا ، وهي بمجرد سطور كما ذكرنا ، لأن موضوع الاستشراق كبير جداً وفيه من الخطورة الكثير ، ولكني أردت أن يعرف القارئ قدر هذا الرجل العظيم .
فهو واحد من كبار الفنانين والرسامين العالميين الذين دونت أعمالهم في معجم ( لاروس للقرن العشرين ) وتزينت جدران المعارض الفنية في فرنسا بلوحاته الثمينة وفيها لوحته الشهيرة ( غادة رمضان ) وقد أبدع في رسم الصحراء واحتل مرتبةً خاصةً في تاريخ الرسم الاستشراقي ، ولقد اتسمت لوحاته بالأصالة لتعاطفه مع الشعب الجزائري ، وقد اكسبته موهبته احترام هذا الشعب فعاش فترةً طويلةً في جنوب الجزائر . وقد شارك في عدة معارض دولية للفنون التشكيلية حيث حصل على جوائز عديدة ، منها : ميدالية قصر الصناعات عام 1884م والميدالية الذهبية لمعرض الفنون الجميلة الدولي عام 1900م وشهادة شرفية من جمعية فنون السين واللوار عام 1901م .
ومن عجيب أمر هذا الرجل أنه أديب موهوب وشاعر مرهف الحس ارتقى إبداع قلمه إلى مستوى إبداع ريشته وكأن كلماته ألوان وأضواء وظلال فيها الدفء والشمس ، وقد كتب في موضوعات متعددة مثل الرواية والقصة ومواضيع نقدية في الفن التشكيلي وتأملات في مجال الفن وموضوعات تتصل بالإسلام وقيمه وأعلامه ، ولا شك أن رجلاً يجود بكل هذا العطاء يكون آية من آيات الله في عباده حتى يروا كيف ينبع الماء الزلال من الصخر ، ويزدهر الروض في المهمه القفر ، ويطلع أطيب الثمرات من الأرض الموات ، وينبثق النور من الدَّيْجون ( الظلام ) ويفيض الإيمان من هياكل الأوثان وتشرق مصابيح الهداية من مواطن الزيغ والغواية ، وصدق الله تعالى في قوله : ” أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِى بِهِ فِى ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِى ٱلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ” ( الأنعام : 122 ) .
فهو رجل ولد في عائلة كاثوليكية في 28 مارس 1861م تلقي عنها عقيدة الصلب والفداء والتثليث التي تقوم عليها المسيحية ، وكانت عائلته من العائلات الفرنسية العريقة التي تعيش في باريس ، وما أدراك ما باريس . حيث كان أبوه رئيساً لمحكمة عليا وأمه من سلالة العائلة المالكة وكانت مولعةً بالفنون الجميلة لذا نجد ولدها يظهر ميلاً وحماسةً للرسم مبكراً . وفي الخامسة من عمره ألحقه والده بمدرسة هنري الرابع في باريس باعتباره من رجال الحاشية وقد لفت ميله إلى الرسم وموهبته التشكيلية انتباه معلميه إليه ، فلقي منهم التشجيع مما كان له الأثر الكبير في تحديد طريقه وبعضاً من ملامح مستقبله العلمي والفني ، وهذا تأكيد على دور الأم ودور المدرسة الخطير في حياة كل الأطفال ، فليتنا ننتبه إلى ذلك . ولم يكن ” دينيه ” متفوقاً في الفن فقط بل تفوق في التاريخ والجغرافيا ومنح جائزة في الأدب فيما بعد .
وبعد حصوله على البكالوريا ( الثانوية العامة بلغة الحاضر ) التحق بالجيش لأداء الخدمة الإلزامية في جرانفيل والنورماندي وكان يقضي وقت فراغه في ممارسة هوايته من الرسم والتلوين ، ولما انتهت فترة تجنيده التحق عام 1880م بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة وفي مرسم جالن كانت انطلاقته الحقيقة ، ثم سجل بعد ذلك بأكاديمية جوليان ليقضي بها أربع سنوات حيث درس على أيدي فنانين كبار ومشهورين في ذلك الوقت ، أمثال : وليم بوجيرو ، وطوني روبارفلوري وغيرها ، واكتسب خلال هذه الفترة صداقات أجنبيةً كثيرةً ، وفي أول ظهور له في الحركة التشكيلية الفرنسية قام بعرض باكورة أعماله بصالون باريس عام 1882م ونالت إعجاب واستحسان النقاد .
بدأ دينيه اتصاله بالشرق العربي الإسلامي أول مرة حين قام برحلة استكشافيه إلى الصحراء الجزائراية عام 1884م بصحبة اثنين من أصدقائه المختصين في علم الحشرات لدراسة فراشة نادرة تعيش في وادي بوسعادة الذي يبعد عن العاصمة 250 كليو متراً جنوباً ، وكانت تلك الحادثة ماثلةً في ذهنه . يرحمه الله . فكان يردد في مناسبات عديدة ويقول : ” للفراشة الصغيرة الفضل الكبير في تغيير مجرى حياتي ، لقد كان قدري بعدها أن أصير فناناً استشراقياً ” .
كانت فرنسا في ذلك الوقت قد ثبتت أقدامها بالجزائر بعد احتلالها عام 1830م وقد ظل هذا الحادث ماثلاً في ذهنه فقام بعدها برحلات عديدة إلى الجزائر ينتقل بين أرجائها ويتعرف على معالمها ويخالط أهلها وقد ساعده على ذلك رفيقه ودليله المخلص الجزائري ” سليمان بن إبراهيم باعمر ” الذي كان على دراية واسعة بالمناطق وسكانها وقد ظل على صداقته المتينة لدينيه حتى وفاته .
وقد كانت أهم الرحلات الحاسمة بالنسبة لمستقبل هذا الفنان الفرنسي الكبير عام 1886م حيث قرر بعدها الاستقرار نهائياً في مدينة ( بوسعادة ) الصغيرة التي ملكت طبيعتها الساحرة ومناظرها الخلابة وشمسها الارقة حواسه ووجدانه وشغاف قلبه ، وكذلك أخلاق أهلها من النبل والمروءة والكرم والأمانة والصدق وما طبعوا عليه من تقاليد لم يجد لها نظيراً في الغرب ، هذا بالإضافة للأثر الطيب الذي تركه فيه صديقه المسلم سليمان بن إبراهيم .
بعد زيارة دينيه لقَرنساه بلده الأصلي عام 1887م عاد إلى الجزائر ومعه كوكبة من الشخصيات والفنانين الفرنسيين المعروفين أمثال : بول لوري ، بنيامين كونستانت ، البارون آرثر وجروم وأمين متحف لوكسمبرج بالإضافة إلى ثلاثة عشر شاباً من الفنانين الفرنسيين ، وقد وجد هؤلاء جميعاً في الشرق الجاذبية والحياة الرائعة مقارنة بحياتهم في مجتمعاتهم الصناعية ، وكان لذلك أكبر الأثر في نفوسهم فتجنبوا مثالب الاستشراق الغربي وتحامله ، وعبروا في كتاباتهم وأعمالهم الفنية عن إعجابهم واحترامهم للشرق العربي والإسلامي .
وإلى حلقة قادمة مع هذا الفنان العظيم الذي قدم للإسلام الكثير ، ولنسأل أنفسنا وخاصةً المشتغلين بالفن ماذا قدمنا للإسلام ؟
لأن الإسلام ليس جهاداً بالحناجر فقط كما يقول القائل : أسمع جعجعة ولا أرى طحناً .