” فتح البيان في مقاصد القرآن ” بين الأسلوب والميزات : سورة الفاتحة نموذجاً

الدكتورة شيرين لبيب خورشيد والقيم التربوية في قصص نبوية بأسلوب تربوي
فبراير 21, 2021
أمهات المؤمنين المحترمات رضي الله عنهن
مارس 31, 2021
الدكتورة شيرين لبيب خورشيد والقيم التربوية في قصص نبوية بأسلوب تربوي
فبراير 21, 2021
أمهات المؤمنين المحترمات رضي الله عنهن
مارس 31, 2021

دراسات وأبحاث :

” فتح البيان في مقاصد القرآن ” بين الأسلوب والميزات :

سورة الفاتحة نموذجاً

د . سعيد بن مخاشن *

الحمد لله الذي أنزل القرآن ، وأعجز به فصحاء عدنان وبلغاء قحطان ، والصلاة والسلام على سيد الأكوان أفصح العرب والعجم المبعوث بجوامع الكلم وغرر البيان ، وعلى آله الطاهرين من الرجس والأدران ، وأصحابه الذين هم نجوم الهداية والبرهان وعلى من تبعهم من الإنس والجان ، وبعد :

فإن أشرف العلوم على الإطلاق ، وأولاها بالتفضيل على  الاستحقاق ، وأرفعها قدراً بالإتفاق ، هو تفسير كلام الله الخلاق ، الذى يطبق من نوره كل الآفاق ، ويحلى من تمسك بحبله وتعلق بذيله بالفضل والشرف والأخلاق .

ولما كان هذا العلم بهذه المنزلة الشامخة الأركان ، العالية البنيان ، المرتفعة المكان ، اعتنى المسلمون أشد العناية بعلم التفسير وما يتفرع منه وما يتعلق به من علوم وفنون ، فخدموا كتاب الله المنزل خدمةً واسعةً قل نظيرها أو انعدم في غيره من الكتب ، ووضعوا الدراسات المتنوعة المطولة والمتوسطة والمختصرة وتنافسوا في ذلك فكوّنوا مكتبةً زاخرةً محتويةً على عديد من التفاسير منها على سبيل المثال دون التقصير : تفسير الطبري ، وتفسير الكشاف ، وتفسير القرطبي ، وتفسير البيضاوي ، وتفسير ابن كثير ، وتفسير الجلالين ، وتفسير النسفي وغيرها .

فتح البيان في مقاصد القرآن :

أما ما نحن في صدده فهو فتح البيان في مقاصد القرآن للشيخ الكبير المفسر الشهير المحقق المدقق الشيخ صديق حسن خان القنوجي رحمه   الله . إن تفسير الشيخ رحمه الله يتميز من بين التفاسير الإسلامية بأسلوب ميسر ، وتنظيم حديث ، وعبارات ميسورة الأخذ والفهم ، وإيضاحات جيدة مع العناية بوجوه الدراية والرواية وما إلى ذلك من روعة اللغة والبيان . إن الشيخ صديق حسن خان القنوجي رحمه الله قضى عدة أعوام بالغوص في بحار من المراجع وأمهات التفاسير دون كلل أو ملل ، فجاء بصفوتها وزبدتها ، وهو تفسير تحرى فيه المؤلف ذكر أصح الآراء وأرجح الأقوال في تفسير كتاب الله ، وجمع في هذا التفسير بين الرواية والدراية ، بأسلوب واضح ، وطريقة حديثة سهلة ، يتحدث في بداية السورة عن معناها اللغوي والاصطلاحي ، ووجه التسمية ودوافعها وأسمائها العديدة وفضيلتها الواردة في الأحاديث النبوية .

باعثة تأليف فتح البيان في مقاصد القرآن :

يتحدث الشيخ صديق حسن خان عن دافعة تفسير فتح البيان في مقاصد القرآن وما واجه في طريقه من العوائق والفادحات ، وكيف قارع المستحيل وذلل الصعاب وأتى بما يحير العقول ويدهش النفوس قائلاً :      ” وطالما يدور في خلدي أن أحرر في التفسير كتاباً يحتوي على أمرين ، ويجمع طريقين على الوجه المعتبر في الورد والصدر ، غير مشوب بشيئ من التفسير بالرأي الذي هو من أعظم الخطر ، وكنت أنتهز له الفرصة في البلاد والقرى ، وأقدم رجلاً وأؤخر أخرى لصعوبة المرام ، وعزة المقام ، فأين الحضيض من الذرى ؟ والثريا من الثرى ؟ فحال بينى وبين ما كنت أخال ، تراكم المهمات وتزاحم الأشغال ، وابتليت بتدبير مصالح العباد في مدينة بهوبال ، وانصرمت عُرى الآمال عن الفوز بفراغ البال ، وأنا أصرف جهدي والمراد ينصرف ، والمقصود يتقاعس عن الحصول   وينحرف ، والأيام تحول وتحجز ، والليالي تعد ولا تنجز ، حتى سألني جماعة من أهل العلم ممن يتحرى اتباع السنة والكتاب ، ويجتنب الابتداع في كل باب ، وألحوا علي وأظهروا الفقر إلي ولم يسعنى إلا إسعاف ما أملوه ، وإنجاح ما سألوه ، فأجبتهم معتمداً على فضل الله وتيسيره ممتثلاً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فيما يرويه أبو سعيد الخدري ويرفعه : ” إن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين ، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً ” . ( الترمذي : كتاب العلم باب 4 ) ومقتدياً بالسلف الماضين في تدوين علوم الدين ، إبقاء علة الخلق وإيفاء للحق ” [1] .

المفسرون ومناهجهم في التفسير :

يقول الشيخ رحمه الله متحدثاً عن المفسرين وميولهم في تفسير كتاب الله عز وجل : إن المفسرين يغلب عليهم طبعهم من الفن الذي يتضلعون منه والموضوع الذي يتبحرون فيه ، فالنحوي يوجه عنايته إلى الإعراب وأشكالها وخلافياتها المتنوعة ، والإخباري يركز على استيفاء القصص ولا يبالي الصحة والبطلان في إتيانها ، وأما الفقيه فيخوض في إقامة الأدلة الفقهية ويصرف جل مجهوداته في رد المخالفين ، وأما من يتبع هواه دون الكتاب والسنة ويعرض عن طريق السلف والأئمة فيقوم بالتحريف المعنوي وتسوية الآيات على منهجه الضال وفكره المضل ، والملحد فيتيه في صحراء الكفر والإلحاد وغيرهم ، كما جاء مفصلاً :   ” ثم صنف بعد ذلك قوم برعوا في شيئ من العلوم ، ومنهم من ملأ كتابه بما غلب على طبعه من الفن واقتصر فيه على ما تمهر هو فيه ، فالنحوي تراه ليس له إلا الإعراب وتكثير الأوجه المحتملة فيه وإن كانت بعيدةً وينقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته . والإخباري ليس له شغل إلا القصص واستيفاءها ، والإخبار عمن سلف سواء كانت صحيحةً أو باطلةً . والفقيه يكاد يسرد فيه الفقه جميعاً وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع الفقهية التي لا تعلق لها بالآية أصلاً ، والجواب عن الأدلة للمخالفين . والمبتدع ليس له إلا تحريف الآيات وتسويتها على مذهبه الفاسد بحيث إنه لو لاح له شارد من بعيد اقتنصه أو وجد موضعاً له فيه أدنى مجال سارع إليه . والملحد لا تسأل عن كفره وإلحاده في آيات الله وافترائه على الله ما لم يقله . ومن ذلك القبيل الذين يتكلمون في القرآن بلا سند ولا نقل عن السلف ، ولا رعاية للأصول الشرعية ، والقواعد العربية ” .

ثم يتابع قوله بذكر المفسرين الذين اعتمدوا على الرواية أو الدراية ، ومنهم من جمعوا بينهما وأتوا بصفوة التفاسير : ” ثم من المفسرين من اقتصر في تفسيره على مجرد الرواية ، وقنع برفع هذه الراية كجلال الدين السيوطي في الدر المنثور وغيره في غيره من المسطور ، ومنهم من اكتفى بمجرد الدراية وجرد نظره إلى مقتضى اللغة العربية بصحيح العناية وهم الأكثرون ، ومنهم من جمع بين الأمرين ، وسلك المسلكين ، وقليل ما هم وقليل من عبادي الشكور .

ومن أحسن التفاسير جمعاً بين الرواية والدراية فيما علمت تفسير الإمام الحافظ القاضي محمد بن علي بن محمد الشوكاني اليمني المتوفى سنة خمسين ومأتين وألف الهجرية ، وهو تفسير كبير بالقول في مجلدات أربع ” [2] .

أهمية التفسير الجديد واحتياجه في العصر الراهن :

إن الشيخ صديق حسن خان القنوجي رحمه الله يرى حاجةً ملحةً إلى التفسير الجديد الذي يلبي دعوات العصر الحديث ويوفي متطلباته ويتصدى بتحدياته ، كما يلزم أن يتحلى ذلك التفسير بحجم بين الطويل الممل والقصير المخل بعبارة سهلة وألفاظ يسيرة مع حرص على إيراد صفوة الصفوة مما ثبت من التفسير وذلك إيقاظاً للنائمين ، وتحريضاً   للمتثبطين ، فقال :

” وليس على ما جمعوه وصنفوه مزيد ، ولكن لا بد في كل زمان من تجديد ما طال به العهد وقصر للطالبين فيه الجد والجهد ، إيقاظاً للنائمين ، وتحريضاً للمتثبطين ، فحررت بعون الله تعالى وحسن توفيقه فيما سألوه واستمنحوه ، كتاباً في أيسر زمان وأحسن تقدير ، متوسطاً بين الطويل الممل والقصير المخل ، وجمعته جمعاً حسناً بعبارة سهلة وألفاظ يسيرة مع تعرض للترجيح بين التفاسير المعارضة في مواضع كثيرة ، وبيان للمعنى العربي والإعرابي واللغوي مع حرص على إيراد صفوة الصفوة مما ثبت من التفسير النبوي ومن عظماء الصحابة وعلماء التابعين ، ومن دونهم من سلف الأمة وأئمتها المعتبرين كابن عباس حبر هذه الأمة ومن بعده من الأئمة مثل مجاهد وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة وأبي العالية والقرظي والكلبى والضحاك ومقاتل والسدي وغيرهم من علماء اللغة والنحو كالفراء والزجاج اوسيبويه والمبرد والخليل والنحاس ” [3] .

ثم استطرد قائلاً : ” وقد جاء بحمد الله كنزاً مدفوناً من جواهر الفوائد ، وبحراً مشحوناً بنفائس الفرائد ، في لطائف طالما كانت مخزونةً ، وعن الإضافة مصونة ، بتقارير ترتاح لها نفوس المحصلين الكاملين ، وتنزاح منها شبه المبطلين ، وتحريف الغالين ، وتأويل الجاهلين ، وتضحي أنوارها في قلوب السعداء ، وتطلع نيرانها على أفئدة الأعداء لا يعقل بيناتها إلا العالمون ، ولا يجحد بآياتها إلا القوم الظالمون وسميته ” فتح البيان في مقاصد القرآن ” وهو اسم له تاريخي ، مستمداً من الله سبحانه بلوغ الغاية ، والوصول بعد هذه البداية إلى النهاية ، راجياً منه جل جلاله أن يديم به الانتفاع ، ويجعله من الذخائر التي ليس لها انقطاع ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ” [4] .

أسلوب تفسير الشيخ القنوجي رحمه الله في فتح البيان :

إن الشيخ صديق حسن خان القنوجي كان يعتمد في تفسير القرآن الكريم أولاً على كتاب الله عز وجل لأنه تبيان لكل شيئ ، وبعضه يفسر بعضه وهو أوثق مصدر للتفسير كما قال تعالى : ” وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ” [5] . ثم على الأحاديث النبوية على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التسليمات لأنها من أوثق المصادر الإسلامية التي نبعت على لسان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى :     ” وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ” [6] . ثم تفاسير علماء الصحابة المختصين برسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم تشرفوا بصحبته ومرافقته ليلاً بنهار صبحاً بمساء فعلموا منه ما ظهر منه وما بطن مباشرةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما من بعدهم من التابعين والمفسرين فيمعن الشيخ النظر فيه بطريقه الخاص في قبول تفسيرهم ، كما يتحدث بذلك مفصلاً : ” إن التفسير الذي ينبغي الاعتداد به والرجوع إليه هو تفسير كتاب الله جل جلاله باللغة العربية حقيقةً ومجازاً إن لم تثبت في ذلك حقيقة شرعية ، فإن ثبتت فهي مقدمة على غيرها ، وكذلك إذا ثبت تفسير ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أقدم من كل شيئ بل حجة متبعة لا يسوغ مخالفتها لشيئ آخر ، ثم تفاسير علماء الصحابة المختصين برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يبعد كل البعد أن يفسر أحدهم كتاب الله تعالى ولم يسمع في ذلك شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى فرض عدم السماع فهو أحد العرب الذين عرفوا من اللغة دقها وجلها . وأما تفاسير غيرهم من التابعين ومن بعدهم فإن كان من طريق الرواية نظرنا في صحتها سواء كان المروي عنه الشارع أو أهل اللغة ، وإن كان بمحض الرأي فليس ذلك بشيئ ولا يحل التمسك به ولا جعله حجة ، بل الحجة ما قدمناه ، ولا نظن بعالم من علماء الإسلام أن يفسر القرآن برأيه ، فإن  ذلك مع كونه من الإقدام على ما لا يحل بما لا يحل قد ورد النهي عنه في حديث ” من فسر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ، ومن فسر القرآن برأيه فأخطأ فقد كفر ” . ( الترمذي كتاب التفسير الباب الأول بلفظ : من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ ) .

إلا أنا لم نتعبد بمجرد هذا الإحسان للظن على أن نقبل تفسير كل عالم كيفما كان ، بل إذا لم نجده إلى الشارع ولا إلى أهل اللغة لم يحل لنا العمل به مع التمسك بحمل صاحبه على السلامة ، ونظير ذلك اختلاف العلماء في المسائل العلمية ، فهو إن كان أحسان الظن مسوغاً للعمل بما ورد عن كل واحد منهم لوجب علينا قبول الأقوال المتناقضة في تفسير آية واحدة أو في مسألة علمية ، واللازم باطل فالملزوم مثله ” [7] .

أسلوب الشيخ القتوجي رحمه الله في ذكر الأحاديث في فتح البيان :

واعتمد الشيخ رحمه الله في ذكر الأحاديث البنوية على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التسليمات ، على متنها دون سندها لأنه اعتمد على الأصول الثابتة في أخذها ، واقتفى فيه نهج المفسرين الكبار ، فمن بينهم ابن جرير والقرطبى وابن كثير والسيوطي في تفاسيرهم ، حيث قال : ” وأذكر الحديث معزوا إلى راويه من غير بيان حال الإسناد ، لأنى آخذه من الأصول التي نُقل عنها ، كذلك كما يقع في تفسير ابن جرير والقرطبي وابن كثير والسيوطي ، ويبعد كل البعد أن يعلموا في الحديث ضعفاً ولا يبينوه ، ولا ينبغي أن يقال فيما أطلقوه أنهم قد علموا ثبوته ، فإن من الجائز أن ينقلوه من دون كشف عن حال الإسناد ، بل هذا هو الذي يغلب به الظن لأنهم لو كشفوا عنه فثبتت عندهم صحته لم يتركوا بيان    ذلك ، كما يقع منهم كثيراً التصريح بالصحة والحسن ، فمن وجد الأصول التي يروون عنها ويعزون ما في تفاسيرهم إليها فلينظر في أسانيدها موفقا إن شاء الله تعالى ” [8] .

أسلوب بداية تفسير السورة :

يتصدى المفسر الكبير الشيخ صديق حسن خان القنوجي رحمه الله في بداية السورة أولاً بمعناها اللغوي والاصطلاحي ، ووجه التسمية ودوافعها وأسمائها العديدة وفضيلتها الواردة في الأحاديث النبوية كما جاء في بداية سورة الفاتحة :

” أي فاتحة الكتاب ، معناها أول ما من شأنه أن يفتتح به الكتاب ، ثم أطلقت على أول كل شيئ كالكلام ، والتاء للنقل من الوصفية إلى الإسمية ، أو هي مصدر بمعنى الفتح أطلقت عليه تسمية للمفعول باسم المصدر ، وإشعاراً بأصالته كأنه نفس الفتح ، والإضافة بمعنى ” اللام ” كما في جزء الشيئ لا بمعنى ” من ” كما في خاتم فضة ، لما عرفت أن المضاف جزء من المضاف إليه لا جزئي له ، وسميت بذلك لأن القرآن افتتح بها إذ هي أول ما يكتبه الكاتب من المصحف ، وأول ما يتلوه التالي من الكتاب العزيز ، وإن لم تكن أول ما نزل من القرآن ، وقد اشتهرت بهذا الإسم في أيام النبوة ” [9] .

أسلوب نهاية السورة بزبدتها وصفوتها :

ثم يأتي الشيخ في ختام السورة بزبدة السورة وصفوتها وما تحتوي من الدقائق والأسرار بأدلة عديدة ، كما تكلم مفصلاً في ختام سورة الفاتحة وأشار إلى ثلاثين دليلاً : ” فهذه ثلاثون دليلاً مستفادة من سورة الفاتحة باعتبار ما يستفاد من تراكيبها العربية مع ملاحظة ما يفيده ما اشتملت عليه من تلك الدقائق والأسرار التي هي راجعة إلى العلوم الآلية ، وداخلة فيما تقتضيه تلك الألفاظ بحسب المادة والهيئة والصورة مع قطع النظر عن التفسير بمعنى خاص قال بعض السلف ، أو وقف عنده من بعدهم من الخلف ” .

ثم استطرد قائلاً : ” وبالجملة فهذه ثلاثون موضعاً في فاتحة الكتاب يفيد كل واحد منها إخلاص التوحيد مع أن فاتحة الكتاب ليست إلا سبع آيات ، فما ظنك بما في سائر الكتاب العزيز ، فذكرنا لهذه المواضع في فاتحة الكتاب كالبرهان على ما ذكرناه من أن في الكتاب العزيز من ذلك ما يطول تعداده وتتعسر الإحاطة به ” [10] .

ميزات فتح البيان في مقاصد القرآن :

من أهم الميزات التي تميز بها تفسيير الشيخ ” فتح البيان في مقاصد القرآن ” هي أنه زبدة التفاسير الأخرى وصفوتها ، وهو تفسير يستند على الكتاب والسنة ، ويخلو عن الأفكار الشخصية والآراء الذاتية ، ويبعد كل البعد عن الابتداع في كل باب ، وشُبه المبطلين ، وتحريف الغالين ، وتأويل الجاهلين ، ويحتوي في طياته على فوائد عديدة وعوائد غزيرة تكاد تكون التفاسير الأخرى خاليةً منها ، كما يتحدث بذلك الشيخ رحمه الله : ” وقد تلقيت هذا التفسير بحمد الله من تفاسير متعددة عن أئمة ظهرت وبهرت مفاخرهم ، وانتشرت واشتهرت مآثرهم ، جمعني الله وإياهم وجميع المسلمين ومن أخلفهم في مستقر رحمته من فراديس جنته .

فهذا التفسير وإن كبر حجمه فقد كثر علمه ، وتوفر من التحقيق قسمه ، وأصاب غرض الحق سهمه ، مفيد لمن أقبل على  تحصيله ، مفيض على من تمسك بذيل إجماله وتفصيله ، وقد اشتمل على جميع ما في كتب التفاسير من بدائع الفوائد ، مع زوائد فرائد وقواعد شوارد ، من صحيح الدراية وصريح الرواية .

فإن أحببت أن تعتبر صحة هذا فهذه كتب التفسير على ظهر البسيطة أنظر تفاسير المعتمدين على الرواية ثم ارجع إلى تفاسير المعتمدين على الدراية ، ثم انظر في هذا التفسير بعد النظرين ، فعند ذلك يسفر الصبح لذي عينين ، ويتبين لك أن هذا الكتاب هو لب اللباب وعجب العجاب ، وذخيرة الطلاب ونهاية مآرب أرباب الألباب ، وأسوة المتبعين ، وقدوة السالكين ، وهدى للمتقين ” [11] .

ومنها : ” فتح البيان ” تفسير يخلو عن الطويل الممل والقصير   المخل ، ومجرد عن القصص والأعاريب المملة والأقوال غير المرضية ، كما تحدث به الشيخ رحمه الله :

” ووطنت النفس على سلوك طريقة ، هي بالقبول عند الفحول حقيقة ، مقتصراً فيه على أرجح الأقوال ، وإعراب ما يحتاج إليه عند السؤال ، وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية ، وقصص وأعاريب محلها كتب العربية ” [12] .

ومنها : فتح البيان تفسير جامع بين الرواية والدراية :

ومن أبرز المزايا التي يتحلى بها ” فتح البيان ” أنه تفسير جامع بين الرواية والدراية ، كما يتضح ذلك جلياً حينما أتى الشيخ رحمه الله بالدراية والرواية في تقييد يوم الدين في آية ” مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ ” بقوله : ” قال الخطيب : والتقييد بقوله ” يوم الدين ” لا ينافي الاستمرار ، لأنه من غير اعتبار حدوث في أحد الأزمنة انتهى . واليوم في العرف عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها من الزمان ، وفي الشرع عما بين طلوع الفجر الثاني وغروب الشمس ، والمراد هنا مطلق الوقت ، والدين : الجزاء ، خيراً كان أو شراً ” [13] .

وحينما وصل إلى ” إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ” ، قال : ” ومما اختص به هذا الموضع أنه لما ذكر الحقيق بالحمد والثناء وأجرى عليه تلك   الصفات ، تعلق العلم بمعلوم على الذات ، سمي الصفات ، حري بالثناء وغاية التذلل والاستعانة في المهمات ، فخوطب ذلك المعلوم للتميز بتلك الأوصاف ، فقيل إياك من هذه صفاته نعبد ونستعين لا غيرك ، والمجيئ بالنون في الفعلين لقصد الإخبار من الداعي عن نفسه وعن جنسه من العباد أو عن سائر الموحدين ، وفيه إشعار على التزام الجماعة . وقدمت العبادة على الاستعانة لتوافق رؤوس الآي ولكون الأولى وسيلة إلى    الثانية ، وتقديم الوسائل سبب لتحصيل المطالب ، وإطلاق العبادة والاستعانة لقصد التعميم لتتناول كل معبود به ومستعان فيه ، واستحسنه الزمخشري وقال لتلاؤم الكلام ، وأخذ بعضه بحجزة بعض ، وتكرير الضمير للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة منهما ولإبراز الالتذاذ بالمناجاة والخطاب ” [14] .

لكننا نرى الشيخ القنوجي رحمه الله اعتمد على درايته الشخصية وآرائه الذاتية في بعض الأمور الثابتة من الأحاديث النبوية الصحيحة مع أنه لا يستحق به أحد إذا جاء الحديث في أي باب فهو مذهب الجميع ، كما يقول في قضية جهر البسملة في الصلاة بعد تنقيح البحث والكلام استدلالاً ورداً وتعقباً ودفعاً :

” وأحاديث الترك وإن كانت أصح ، ولكن الإثبات أرجح مع كونه خارجاً من مخرج صحيح ، فالأخذ به أوفى ولا سيما مع إمكان تأويل الترك ، وهذا يقتضي الإثبات الذاتي أعني كونها قرآناً ، والوصفي أعني الجهر بما عند الجهر بقراءة ما يفتتح بها من السور في الصلاة .

والحاصل أن البسملة آية من الفاتحة ومن غيرها من السور ، وحكمها من الجهر والإسرار حكم الفاتحة فيجهر بها مع الفاتحة في الصلاة الجهرية ، ويسر بها مع الفاتحة في الصلاة السرية ، وبهذا يحصل الجمع ” [15] .

ومنها : البحوث اللغوية :

إن الشيخ القنوجي رحمه الله زود فتح البيان بالبحوث اللغوية كما تحدث في شرح ” بسم الله الرحمن الرحيم ” بقوله : ” ومتعلق الباء محذوف وهو أقرأ أو أتلو ، وتقديم المعمول للاعتناء به والقصد إلى التخصيص ، ويظهر رجحان تقدير الفعل متأخراً في مثل هذا المقام ولا يعارضه قوله تعالى : ” ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ” ، لأن المقام مقام القراءة فكان الأمر بها أهم ، وأما الخلاف بين أئمة النحو في كون المقدر اسماً أو فعلاً فلا يتعلق بذلك كثير فائدة ، والباء للاستعانة أو للمصاحبة تبركاً ، ورجح الثاني الزمخشري ” [16] .

ومنها : القراءات المختلفة :

إضافةً على ذلك ، زود الشيخ رحمه الله تفسيره بالقراءات المختلفة من السبع المشهورات ، وأتى بالأقوال والأعاريب لقوة مداركها أو  لورودها ، كما قال : ” وحيث ذكرت فيه شيئاً من القراءآت فهو من السبع المشهورات إلا ما شاء الله ، وقد أذكر بعض أقوال وأعاريب لقوة مداركها أو لورودها ، وإذا قرع سمعك ما لم تسمع به من المحصلين ، فلا تسرع وقف وقفة المتأملين لعلك تطلع بوميض برق إلهي ، وتألق نور رباني من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة على برهان له جلي أو بيان من سلف صالح واضح وضي ” [17] .

وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه   أجمعين .

* أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية وآدابها ، جامعة مولانا آزاد الأردية الوطنية ، البريد الإلكتروني  sayeed_makhashin@yahoo.com

[1] صديق حسن خان القنوجي : فتح البيان في مقاصد القرآن ، دولة قطر ، إدارة إحياء التراث الإسلامي ، 1989م ، ص 24 .

[2] نفس المصدر : ص 20 .

[3] نفس المصدر : ص 20 – 21 .

[4] المصدر السابق : ص 24 .

[5] النحل ، الآية : 89 .

[6] النحل ، الآية : 44 .

[7] نفس المصدر : ص 18 .

[8] نفس المرجع : ص 22 .

[9] ص 31 .

[10] المصدر السابق : ص 61 .

[11] نفس المصدر : ص 23 .

[12] ص 23 .

[13] ص 47 .

[14] ص 49 .

[15] ص 40 .

[16] ص 40 .

[17] ص 23 .