البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سورة الشورى )
يناير 6, 2021البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سورتي الزخرف والدخان )
فبراير 21, 2021التوجيه الإسلامي :
محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
الرسول الأعظم وصاحب المنة الكبرى
( الحلقة الأولى )
بقلم : سماحة العلامة الشيخ السيد أبي الحسن الحسني الندوي ( رحمه الله تعالى )
سادتي ! إن هذا العالم الذي نعيش فيه ، ونقوم فيه بأداء واجباتنا ومسئولياتنا المنوطة بنا وفق عقائدنا وأذواقنا ، وصلاحياتنا ووسائلنا ، وإمكانياتنا بكل حرية وانطلاق ، ونتعايش فيه مع المواطنين ، بل فوق ذلك مع جميع المعاصرين ، معايشةً كريمةً ، هادئةً ، مطمئنةً ، رخيةً ، ونسهم بالإضافة إلى ذلك حسب ما أوتينا من مواهب ، وصلاحيات ، وعزائم في المجالات التعليمية والدراسية ، وفي ميادين التأليف والبحث والتحقيق ، والتجارب العلمية والكشوف والاختراعات ، ونتمنى أن تكون حياتنا وبيئتنا أسلم وآمن ، وأفضل وأرقى ، وأكثر طمأنينةً ورفاهيةً ، وأعلى مستوىً ، وأرفع مكاناً .
لم تكن هذه الكرة الأرضية التي نسكنها ، ونعيش فيها مستعدةً ومتهيئةً – دائماً – لحياة متزنة ، هادئة ، وقورة ، ولم يكن يتسع صدرها – دائماً – للقيام بإنجازات علمية وفكرية ، ومشاريع بنائية ، وحياة كريمة نعيشها وفق معتقداتنا ومذاهبنا والاحترام المتبادل فيما بيننا ، والتعايش السلمي ( Co-Existence ) بين جميع أفراد البشر .
فقد شهد التاريخ هذا الجيل البشري على هذه الكوكبة الأرضية مراراً وتكراراً مشمراً عن ساقه تهيؤاً للانتحار ، والدمار ، والاحتراق بالنار ، ومرت عهود وأدوار في تاريخ هذا العالم فقدت فيها السلالة البشرية جدارتها للبقاء والحياة ، وتحوّلت مكان أفراد يتميزون بالعقل والتفكير ، والضمير الحي البصير ، إلى حيوانات ومواش وسباع ضواري ، وأناس في صورة ذئاب يفترسون أبناء جنسهم وبني جلدتهم .
واحتضرت الحضارة والمدنية ، والثقافة والفنون ، والأخلاق ، والمثل ، والأنظمة ، والقوانين ، والأصول والضوابط الإنسانية ، وغشيتها سكرة الموت .
ومعلوم أن عملية تدوين التاريخ البشري تأخرت قروناً ، وقروناً ، وأن عهد ما قبل التاريخ أطول وأوسع وأبعد مدى من عهد ما بعد التاريخ ، ثم إن قصة انحطاط الإنسانية وسقوطها ، وعهود الوحشية والهمجية ، لم تكن فيها من المتعة وأسباب الفخر والاعتزاز ما يدفع المؤلفين والكتاب والمؤرخين ليبذلوا مواهبهم الإنشائية في عرضها وتقديمها .
ولذلك فإننا نجد خلال فترات طويلة وأحقاب متباعدة شهادات ووثائق تاريخيةً عن سقوط المجتمع البشري ، وانهيار الحضارات والمدنيات ، وزوال الحكومات ، والدول ، والأنظمة السياسية ، مبعثرةً منشورةً في صفحات التاريخ العلمي ، وتبدأ سلسلة هذه القصة السوداء أكثر من ذي قبل من القرن الخامس المسيحي ، وأكتفي هنا بذكر بعض الفترات منها :
لقد أحسن المؤلف الإنجليزي المعروف هـ – ج ولس ( H.G.Wells ) تصوير هذا العصر ، فقال وهو يبحث في الظروف السائدة في عهد الساسانية والبيزنطية ، في القرن السادس للميلاد :
” كانت العلوم والفلسفة والسياسة في حالة احتضار في عهد هذين النظامين المتحاربين والمتجهين إلى الانحطاط ، فقد كان الجيل الأخير من فلاسفة ( أثينا ) ( Athens ) عاضّاً على المؤلفات الأدبية العتيقة بالنواجذ ، بكل احترام وحب ، ولو بدون فهم لها ، فلما انقرض هذا الجيل لم تبق طبقة ولا أفراد أحرار وشجعان ، يتزعمون حرية الفكر ، وحرية التعبير ، ولا الذين يحتفظون على الأقل بتراث فكر حر ، وبحث نزيه جدي ، على دأب القدماء السابقين ، وبجانب ما كان للفوضى السياسية والاجتماعية من دور كبير في القضاء على مثل هذه الطبقة ، كان من العوامل التي ساعدت على شلل الفكر الإنساني ، وتجمد القرائح البشرية . إن هذا العصر كان عصر العصبية وعدم التسامح في ظلال الحكومتين الإيرانية والبيزنطية ، فقد كانت هاتان الحكومتان دينيتين نوعاً ما ، وقد كانتا فرضتا قيوداً على العقل البشري [1] .
وبعـد ما قصَّ الكاتب قصة زحف الإمبـراطورية الإيرانية على الإمبراطورية البيزنطينية ، ثم انتصار البيزنطيين على الإيرانيين في شيئ من التوسع ، عاد إلى وصف التدهور الاجتماعي ، والخلقي السائد في أواخر القرن السادس المسيحي فقال :
كان يسوغ لمتتبع – غير محنك ناضج الفكر – للأوضاع السائدة في أوائل القرن السابع المسيحي أن يتنبأ بسهولة ، وبثقة بأن أوربا وآسيا ستقعان تحت رحمة المغول الوحوش في غضون بضعة قرون قادمة ، فلم تكن في أوربا الغربية أمارات للأمن والنظام وحكم القانون ، وقد كانت المملكتان البيزنطينية والإيرانية ، مشغولتين في حرب إبادة وتدمير ، بينما كانت الهند في حالة تورع وبؤس [2] .
ويقولRobert Briffault :
” لقد أطبق على أوربا ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر ، وكان هذا الليل يزداد ظلاماً وسواداً ، وقد كانت همجية ذلك العهد أشد هولاً ، وأفظع من همجية العهد القديم ، لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تفتتت ، وقد انطمست معالم هذه الحضارة ، وقضى عليها بالزوال ، وقد كانت الأفكار الكبيرة ازدهرت فيها هذه الحضارة ، وبلغت أوجها في الماضي ، كإيطاليا ، وفرنسا ، فريسة الدمار ، والفوضى ، والخراب ” [3] .
ويقول J. H. Denison عن سقوط الحضارة التي تمت ، وترعرعت في أحضان الديانات القديمة :
” لقد أشرف العالم المتحضر في القرنين الخامس والسادس المسيحي على فوهة الفوضى والدمار ، وكان يخيل لكل راء أن الحضارة التي نمت وازدهرت وأثمرت في ظرف أربعة آلاف سنة تكاد تنتهي وتزول ، ويرجع الإنسان مرةً ثانيةً إلى تلك الوحشية والبربرية التي تتناحر فيها القبائل ، وتشتعل الحرب بين الفرق والأحزاب ، ويفقد الأمن والسلام بتاتاً ، لقد كانت الأنظمة القبلية القديمة انتهت قوتها ، وزالت سلطتها ، وكانت التقاليد والطقوس التي تبنتها المسيحية ، وحافظت عليها ، تؤدي إلى التشثت ، والتمزق ، والهلاك ، بدل الوحدة والتماسك والنظام ، كان ذلك العصر محزناً مؤلماً ، فقد كانت الحضارة التي أظلت العالم كشجرة باسقة وارفة الظلال ، والتي أثمرت أغصانها العلوم والفنون والآداب كادت تلفظ نفسها الأخير ؛ لأنها كانت منخورةً متآكلةً ” [4] .
فحين كان الجيل البشري ، والحضارة والمدنية في هذه الحالة من الاحتضار والإشراف على الدمار ؛ إذا بمالك هذا الكون يسعد جزيرة العرب بكائن إنساني عظيم ، ووكل إليه ليس مهمة الحفاظ على الجيل البشري فحسب ، بل مهمة الوصول بالإنسانية إلى أعلى قمة متصورة ، وهي مهمة صعبة دقيقة ، لم تتناولها تجارب المؤرخين الواسعة ، ولا أخيلة الشعراء والأدباء الخصبة ، ولولا وجود وثائق وشهادات تاريخية موثوق بها لا يمكن جحودها ، ولولا التواتر في نقلها وروايتها ، لما كان لنا إلى اليقين والقطع بها من سبيل .
لقد كانت هذه الشخصية العظيمة محمد – صلى الله عليه وسلم – التي ظهرت في القرن السادس المسيحي ، وكان أول مآثره – صلى الله عليه وسلم – أنه رفع ذلك السيف المصلت على رقبة الجيل البشري التي كانت كل لحظة تنذر بفنائه وانقراضه ، ووهبه الرسول – صلى الله عليه وسلم – هدايا غاليةً وتحفاً ثمينةً أعادت إليه حياةً جديدةً ، وشحنةً بهمة عالية ، وقوة فتية ، وعزة كريمة ، ومنحته هدفاً عالياً جديداً لرحلته الشاقة الطويلة ، وبدأ بعهده الميمون السعيد دور جديد للإنسانية ، والحضارة ، والمدنية ، والعلوم ، والفنون ، والإخلاص ، والروحانية ، وبناء الإنسان من جديد ، إنه قدم للمجتمع البشري ثروةً عظيمةً تعتمد عليها الإنسانية لخيرها ، ورشدها ، وبركتها ، وتستفيد منها المدنية لازدهارها ، ورقيها .
وهذه الثروة الغالية هي ثروة عاطفة حب الخير ، وكراهة الشر ، العاطفة المقدسة الجليلة ، والعزيمة الصارمة ، لمقاومة قوى الشرك وتحطيم مراكزه ، والتضحية بكل غالٍ ونفيس لنشر الخير ، وتقويته ، ورفع مناره . إن هذه العاطفة النبيلة المقدسة ، وهذه الهمة العالية والطموح الذي لا يعرف الكسل والتواني ، هو أساس كل أنواع رقي الإنسان ، ورفعته ، وكرامته ، ومآثره العظيمة الخالدة ؛ وذلك لأن جميع الوسائل ، والإمكانيات المادية ، والعدّة والعتاد ، ومؤسسات البحث والدراسة والتحقيق تابعة لإرادة الإنسان وعزيمته ، فقد بدل القسوة والبهيمية برحمة ، ورأفة ، وإنسانية ، ونشر تعاليمه السامية ، وبذل في سبيلها الجهود العظيمة المتواصلة ، ولم يبال في طريقها بأي تعب ، وجهد ، ومشقة ، وضحى في سبيلها براحته ، وعافيته ، وحياته ، وكرامته .
ونتيجةً لهذه الجهود المستمرة المضنية وُجد من بين الحيوانات العرية عن العواطف البشرية والسباع المفترسة الضارية ، أفراد طيبون صالحون ، تعطرت الدنيا بأنفاسهم الزكية ، واكتست من جمالهم وروائهم الرونق والبهاء ، فاقوا الملائكة في سموهم ، وارتفاعهم ، ونالت الحياة التي أشرفت على الهلاك والدمار قسطاً جديداً من البقاء والاستمرار ، وانتشر العدل والرخاء ، وانتصف الضعفاء من الأقوياء الظالمين ، وأصبحت الذئاب تحرس الغنم ، وتحافظ عليها ، وهبت النسائم العليلة البليلة ، وفاحت روائح الحب والحنان ، وقامت سوق السعادة واليقين ، وازدانت الدنيا بمشاهد الجنة الرائعة الجميلة ، وهبّت رياح الإيمان ونفحات اليقيـن ، وتحرّرت النفوس البشرية من أغـلال الأهواء والشهوات ، وانجذبت القلوب إلى الخير والمعروف كما تنجذب القطع الحديدية إلى المغناطيس .
ويحلو لي هنا أن أذكر بشيئ من الاختصار والإيجاز – تلك المنح الأساسية الغالية التي كان لها دور كبير بارز في قيادة الجيل البشري ، وإصلاحه وإرشاده ، وازدهاره ، والتي ولدت عالماً مشرقاً جديداً رائعاً ، ما يشبه العالم الشاحب القديم في شيئ ، وهي كما يلي :
- عقيدة التوحيد النقية الواضحة .
- مبدأ الوحدة الإنسانية ، والمساواة البشرية .
- إعلان كرامة الإنسان ، وسموه .
- رد الاعتبار إلى المرأة ومنحها حقوقها وحظوظها .
- محاربة اليأس والتشاؤم ، وبعث الأمل ، والرجاء ، والثقة ، والاعتزاز في نفس الإنسان .
- الجمع بين الدين والدنيا ، وتوحيد الصفوف المتناحرة والمعسكرات المتحاربة .
- إيجاد الرباط المقدس الدائم بين الدين والعلم ، وربط مصير أحدهما بالآخر ، وتفخيم شأن العلم ، والحث عليه ، وتوجيهه إلى علم هادف نافع موصل إلى الله .
- استخدام العقل والانتفاع به حتى في القضايا الدينية ، والحث على النظر في الأنفس والآفاق .
- حمل الأمة الإسلامية على قبول مسؤولية الوصاية على العالم والحسبة على الأخلاق ، والاتجاهات ، وسلوك الأفراد والأمم ، وتحمل مسؤولية القيام بالقسط ، والشهادة لله .
- الوحدة العقائدية الحضارية العالمية .
وهنا يتسنى لنا أن نقدم شيئاً من انطباعات المؤلفين ، والمفكرين ، والأدباء ، والمؤرخين الغربيين ، واعترافاتهم ، وشهاداتهم بدلاً من أن نقول من عند أنفسنا شيئاً .
إن قوام هذا العالم وبقاءه ، وقيمة الحضارة والتاريخ والأخلاق والآداب ، والشعر والفن ، ليست إلا بالاعتراف بالحقائق الثابتة ، والتسليم بالواقع ، وإظهاره ، والتعبير عنه ، وتقدير الفضل والكمال ، والإشادة بهما وشكر المحسنين ، وأصحاب الفضل والعطاء ، والاعتراف بمنتهم ، وحين يتجرّد هذا العالم ، وتتجرّد الآداب ، والأخلاق ، وكفاءاتنا الأدبية والفنية وحرية التعبير التي نملكها عن هذا العنصر الكريم ، وتحرمه بتاتاً ، فلا لذة في العيش في هذا العالم ، ولا كرامة ، وتتحول الدنيا إلى حظيرة للوحوش والأنعام السائمة ، حيث لا يبقى من الدوافع والقوى المحركة إلا شهوة ملء البطون وقضاء المآرب الجنسية ، والأهواء والنزعات الحيوانية ، ولا تبقى أي صلة بين الأستاذ والتلميذ ، والمعطي والآخذ ، والمريض والطبيب ، حتى بين الأبناء والآباء والأمهات ، ولا يبقى أي شعور بالفارق بين السارق والحارس ، والخائن والأمين .
ونقدم هنا مقتطفاً مقال الأستاذ وليم داويدسن Willium H. Davidson أحد الباحثين الكتاب في موسوعة الأخلاق والديانات حول عاطفة الشكر والاعتراف بالمنة المركوزة في فطرة الإنسان ، وهو يدل دلالةً واضحةً على أن هذا العنصر في الإنسان عنصر فطري عالمي لا بد أن يبقى في كل عصر .
يقول الباحث :
” إن عاطفة الشكر والتقدير حسب ما يقول توماس براون Thomas Brown في عاطفة الحب المريحة المنعشة التي نشعر بها إذا حصلنا على فوائد ومنافع من أحد الأفراد ، وإن هذه العاطفة هي نفسها جزء من تلك المنافع التي ينالها المرء .
إن الشكر والاعتراف بالمنة إنما هو رد فعل إيجابي تجاه معاملة كريمة يحمل في نفسه الإخلاص الكامل ، والبشاشة ، والفرح ، ويكون رد الفعل هذا عاجلاً وفطرياً ، ويدل ذلك على أن فطرة الإنسان قد أنشئت ، وكونت تكويناً خاصاً تحتل فيه خصلة التحاب والانسجام فيما بين الناس كصفة أساسية ، وإن العداوة والبغضاء – بجميع علائمها وأسبابها – منافية للفطرة البشرية ، ومفسدة للأخلاق الإنسانية ” [5] .
وإن أكبر مظهر للتسفل الخلقي واللؤم الفطري وموت الضمير ، وحمل الخزي والعار ، والحرمان من أي أثر من آثار الشرف الإنساني حتى الرمق الأخير منه ، هو التنكر والجحود للقادة الدينيين ، وبناة الإنسانية ، وأصحاب المنة والفضل على العالم البشري كله ، والبلادة في القول ، وسلاطة اللسان ، واستخدام الأسلوب الشائن الرزي بأهله ؛ الذي لا يليق بأدنى شخص ، وأرذل إنسان ، والذي لا يجرح شعور مئات الملايين من البشر من أتباعهم ، ومحبيهم ، والمستميتين دونهم والذين يؤثرونهم على أنفسهم ، وأهليهم ، وأموالهم ، ويكلم عواطفهم الإيمانية الجياشة في أنفسهم فحسب ، بل يقتل الحقائق ، ويذر الرماد في العيون ، ويحاول طمس الواقع ، ولا يجوز لأي مجتمع كريم يعرف قيمته ومكانته ، ولا لأي بلد متحضر لا يريد أن يعيش في الجهل والنكران للجميل ، أن يصبر على وجود هؤلاء الأنذال ، واللؤماء الذين باعوا ضمائرهم ، وتخلوا عن إنسانيتهم ، وتنكروا للجميل والمعروف ، إنهم رجس يجب أن تتطهر الأرض منهم .
بالعكس من هذا الجانب المظلم الأسود ، يمكننا أن نعرض نماذج رائعةً من انطباعات كبار المؤلفين المحققين المنصفين ، والأدباء الفضلاء الواقعيين ، وأفكارهم وآرائهم ، من عدد من البلدان الراقية .
يقول أديب فرنسا الشهير لامارتين ( Lamartine ) وهو يعترف بعظمة محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – ونجاحه المنقطع النظير في مهمته الجليلة : ” إن إنساناً لم ينهض أبداً – متطوعاً أو غير متطوع – لمثل هذا الهدف الأسمى ، لأن الهدف كان فوق طاقة البشر ، لقد كان تحطيم تلك الحواجز من الأوهام والأحلام ؛ التي حالت بين الإنسان وخالقه ، والأخذ بيد الإنسان إلى عتبة ربه ، وتحقيق عقيدة التوحيد النقية المعقولة ، الساطعة في ضباب هذه الوثنية السائدة ، والآلهة المادية ، هو ذلك الهدف الأسمى والأعلى ، إنه لم يحمل إنسان مثل هذه المسؤولية الضخمة ، والمهمة العظيمة الجليلة ، التي تخرج عن طوق البشر ، بمثل هذه الوسائل الحقيرة الضئيلة ” .
إلى أن قال :
” وأروع من ذلك أنه هز تلك الأصنـام ، والآلهة ، والأديان ، والتصورات والعقائد، والنفوس الإنسانية هزةً عنيفةً ، إنه بني على أساس ذلك الكتاب الذي يعتبر كل كلمة منه مصدر التشريع ، قوميةً ربانيةً ، آلفت بين أفراد كل جيل ، وسلالة ، ولغة . إن الميزة الخالدة لهذه الأمة ، التي كونها لنا محمد – صلى الله عليه وسلم – أنها شديدة المقت والتقزز من الآلهة الباطلة ، شديدة الحب لله الواحد الذي يتنزه عن المادة وشوائبها ، وهذا هو الحب الذي يدفعه إلى الثأر والانتصاف من كل إهانة توجه إلى الذات الإلهية ، وهذا الحب يعتبر أساس سائر الفضائل عند هذه الأمة .
لقد كان إخضاع ثلث العالم لهذه العقيدة الجديدة من مأثرته بلا ريب ، لكنَّ الأصح أنه كان معجزة العقل ، لا معجزة فرد واحد ، إن الإعلان بعقيدة التوحيد في زمن كانت تئن فيه الدنيا تحت وطأة أصنام لا حصر لها ، كان معجزةً مستقلةً بذاتها .
ما لبث محمد – صلى الله عليه وسلم – أن أعلن هذه العقيدة أمام الملأ ، حتى أقفرت المعابد القديمة من عبادها ، فلا داع فيها ولا مجيب ، وتكهرب ثلث العالم بحرارة الإيمان ” [6] .
ويقول جان وليم دريبر ( John Willium Draper ) وهو بصدد تاريخ أوربا الفكري والعالمي :
” لقد ولد في مكة إحدى مدن جزيرة العرب عام 569م بعد أربعة أعوام من موت جستينين ( Justinian ) شخص عظيم كان له أكبر تأثير على الجيل البشري كله ” [7] .
ويزيد قائلاً :
” إنه قد كانت اجتمعت في محمد – صلى الله عليه وسلم – من الخلال والصفات التي غيرت مصاير الشعوب والأمم والحكومات والدول ، إنه أكد على الحقائق الثابتة الدائمة بدلاً من الخوض في بحوث ما وراء الطبيعة ، ونذر نفسه عن طريق العناية والأمر بالنظافة ، والطهرة ، والجد والصوم ، والصلاة لترقية الحياة الاجتماعية للناس ” [8] .
ويقول المؤرخ الفيلسوف ( A,Toynbee ) في كتابه الحضارة في الامتحان : (Civilization on Trial ) :
إن القضاء على الفوارق السلالية والعصبيات الجنسية والدموية من أعظم مآثر الإسلام ومفاخره ، أما العصر الحالي الذي نعيش فيه فإن هذه الفضيلة هي كبرى حاجات هذا العصر ، إنه مما لا شك فيه أن الشعوب الناطقة باللغة الإنكليزية قد حققت بعض النجاح في ربط الشعوب بعضها ببعض ، وعادت على العالم الإنساني بخير ورحمة ، ولكن الحقيقة الراهنة التي يجب الاعتراف بها ، أنها أخفقت فيما يتصل بالعواطف السلالية والجنسية ” [9] .
وإن من عجيب المصادفات أن توماس كارلائل (Thomas Carlyl ) قبل مئتي سنة اختار محمداً – صلى الله عليه وسلم – من بين الأنبياء جميعاً كبطل أعظم ، والآن في آخر القرن العشرين وضع مائكيل هـ هارت ( Michael H. Hart ) اسم محمد – صلى الله عليه وسلم – برأس القائمة لأسماء أولئك العظماء الذين تركوا آثاراً عظيمةً في تاريخ العالم البشري [10] .
ونقدم فيما يلي تلك المنن العظيمة الجسيمة التي لا ينساها التاريخ لمحمد – صلى الله عليه وسلم – وأتباعه وأمته التي رباها ، وخرّجها في مدرسته على الجيل البشري بأجمعه ، وما قامت به من دور فعال كبير في ترقية الحضارة والمدنية واستمرارها وتسلسلها ، نختصر الحديث في صورة واقعين تاريخيين معروفين .
( للحديث صلة )
( البقية في العدد الثاني القادم بمشيئة الله تعالى )
[1] H.G. Wells, A. Short History of The World (London, 1924) pp. 140 – 41
[2] H.G. Wells, A. Short History of The World (London, 1924) p. 241
[3] Robert Briffault, The Making Of Humanity (London – 1919) P. 164
[4] J. H. Denison, Emotion As The Basis of Civilization (London – 1928 p. 265
[5] Encyclopedia of religions and (Endinburqm 1913) vol-6 p. 391
[6] Lamartine, Histoire De La Turquie, Paris-1854, Vol. 2,pp. 276-277
[7] John William Draper, A History of the intellectual Development of Europe, (London 1875) Vol. I p.229
[8] John William Draper, A History of the intellectual Development of Europe, (London 1875) Vol. l p 330
[9] A. J. Toynbee, civilization on Trial, (New york-1949) p. 205
[10] Hart Michael H, The 100- A ranking of the Most influential persons in History-New-york-1978, p. 26