القصة القصيرة عند الشيخ الطنطاوي : دراسة فنية تحليلية

كتابة مقدمة البحوث الأكاديمية وخاتمتها في ضوء آراء الباحثين
ديسمبر 15, 2020
إضاءات على مفهوم ” التجديد ” ومشروعيته في الإسلام
يناير 6, 2021
كتابة مقدمة البحوث الأكاديمية وخاتمتها في ضوء آراء الباحثين
ديسمبر 15, 2020
إضاءات على مفهوم ” التجديد ” ومشروعيته في الإسلام
يناير 6, 2021

دراسات وأبحاث :

القصة القصيرة عند الشيخ الطنطاوي :

دراسة فنية تحليلية

الدكتور سيد محامد الهاشمي *

إن القصة تحمل حركةً وحياةً مثيرةً انتباهات الناس وأفكارهم ، ومجددةً نشاطاتهم وحيويتهم ، وتمتاز القصة بالوحدة الموضوعية ، والمبدأ والنهاية ، وهذه هي العوامل التي تؤدي إلى تسلسل فكرتها وترابط أجزائها ، وتوفر التسهيلات لتتبعها وتواترها بشكل كامل دون أن يشتت ذهنه أو يشرد فكره [1] .

كما أن القصة تلعب دوراً هاماً في التعبير عن الحياة بكاملها ، ومعالجة المشكلات الاجتماعية والنفسية ، وتثقيف النفوس وتهذيب العقول وتطهيرها وترقيتها ، وهي الحكاية الصادقة البناءة عن آمال المجتمع وآلامه وطموحاته السائلة فيه ، وأصبحت القصة من أهم الوسائل وأكبرها لنشر الأفكار والآراء العلمية والاجتماعية والدينية ، والمبادئ الفكرية ، وبوادر اليقظة الجديدة في الأجيال الحديثة والمجتمعات المعاصرة ، وهذا كله يوجد ويبدو بوضوح تام في القصص .

اتخذ الأستاذ علي الطنطاوي القصة وسيلةً للإرشاد والتوجية والتربية والمسامرة ، وعمد بكتاباته إلى قيم سامية وأهداف رفيعة بأسلوب قصصي شيق متصل بالملامح الفكرية والتوعية ، وما أراد بإطلاق الاسم على إنتاجاته بقصة أو مقالة قصصية ، فقد استهدف بكتاباته الأغراض التربوية والأهداف الدعوية ، بالرغم من أنه اشتهر وذاع صيته بعبقرية خارقة في معالجة الواقع الكائن أو ما يمكن وقوع مثله فنياً وحسياً [2] .

وكان الطنطاوي يهتم في قصصه بالأمور الاجتماعية ، والأحداث الجارية ، والأحوال السائدة ، والأوضاع المقبلة ، واستعراض المدارك الفكرية بمعالجة جديدة : والتربية الإسلامية والإصلاح الاجتماعي ، وخدمة الدين والوطن ، واستنهاض الهمم وإثارة العواطف والمشاعر ضد الاستعمار والاستبداد ، والدعوة إلى مواجهة التحديات من أجل تحرير البلاد من براثن الاستعمار على حد تعبيره : لديَّ أشياء ما بدّلتها قط ، ولن أبدلها إن شاء الله ، وهي أني حاربت الاستعمار وأهله وأعوانه وعبيده دائماً ، وكنت مع الإسلام وقواعده وأخلاقه وآدابه دائماً [3] .

وهذا هو الشيخ علي الطنطاوي الذي عزم على توظيف القصة فيما يعبر ويكتب ويدعو إليه للشريعة الإسلامية ، وتحريض المسلمين على الفضيلة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والحث على الحرية والشورى والوحدة ، كي تسود المحبة والمؤاخاة العالمية وينتشر الأمن والسلامة في المجتمعات الحديثة والأمم المعاصرة إقليمياً وعالمياً [4] .

كما عبر الدكتور سعد أبو رضا عن هذا التيار القصصي :        ” وهذا التوجه قد يدفعه إلى الخروج عن موضوعية القصة ، فينخرط في وصف ذاتي للقيمة الإسلامية ، وأثرها الفاعل في تقدم الحياة حياة الفرد والأمة ، وقد يزكي ذلك حسه الخطابي الواضح ، مما يهدد البناء الفني للقصة ذاتها في بعض الأحيان ، لكنه في كثير من نتاجه القصصي في هذا المجال لا تفتقد القصة لديه روحها القصصية ، بل قد تتجلى فيها الحبكة الفنية ، كما قد تتسق أجزاء الحدث مشكلة لبنائها ، والشيخ فيما يكتب يجعل القيمة الإسلامية والدعوة إليها هدفه الأساسي ، من ثم يأتي البناء الفني ثانياً في اهتمامه ، وقصصه تتميز بالحبكة والتشويق ودقة الإيقاع بينما بعضها الآخر قد نفتقد فيه بعض هذه العناصر      الفنية ” [5] .

معالجة الطنطاوي للأدب القصصي :

إن الأدب القصصي له دور كبير في الأدب الحديث ، ويتجلى تأثيره الفعال في نفوس القراء مما يعطي من فكرة وعاطفة وتصوير   وبيان ، وإعطاء الكلام صورة جمالية مؤثرة لدى الكتابة والقراءة والسمع وبالنظر إلى المقدرة والبراعة في كتابة القصة تتفاوت وتتنوع ، ولذا الأديب القصصي يعلو ويسمو شأنه في مجال القصص ويتنزل ويسقط سقوطاً بالغاً فيه [6] .

إن الأستاذ الطنطاوي دائماً يحاول أن تكون أعماله القصصية القيمة بنت الواقع والخيال ، وأنها تأخذ الواقعية بحقيقتها الكاملة ولم تلتفت التفاتاً كثيراً إلى الخيال واتجاهاته العميقة ، فلننظر إلى ما أبدع الطنطاوي في وصف وادي العقيق في الحجاز وفق الواقع والخيال ،   فيقول : ” وجلست أحدق في ماء العقيق وأحن إلى أيامه الغر وماضيه  الفخم ، وأفكر في حاضره الممض وواديه القاحل ، فأطيل التحديق ، وأمضي في التفكير حتى أذهل عن نفسي ، وأنسى مكاني ، فأرى صفحة الماء تضطرب وتهتز وتختلط فيها الأنوار ، وتمتزج فيها الأضواء كأنها هي سبيكة ذهب أو قطعة ياقوت ، ألقي عليها نور وهاج ، ثم أراها قد استقرت وسكنت فإذا العقيق غير العقيق وإذا هو غارق في العطر والنور ، وإذا من حوله العشرات من القصور تضيئ كأنها الثريا في السماء فتنعكس أنوارها في الماء فتتوارى النجوم استحياء ، وتغض العين خجلاً ، ثم تستتر ببراقع الغمام وتبكي ، فيضحك العقيق لبكاء   السماء ، وتضحك الأرض لضحك العقيق [7] ، والمثال المزيج البديع للواقع والخيال بمناسبة الاحتفالات السورية ، قال فيها الطنطاوي : اسمعوا فهذه هي المدافع ترعد وتدوي وتزلزل الجوّ رجَّةً واهتزازاً ، انظروا فهذه هي الطائرات تحوم وتحمحم وتعلو وتنحط وتجيئ وتذهب ، ولكن لا تفزعوا فإنها لن تؤذيكم ، إنها ليست مدافع الفرنسيين التي تدمر ، ولا هي طائراتهم التي تصب الحمم ، لقد ذهب الفرنسيون ولن يعودوا ” [8] .

بل إنه جعل التوازن الشامل بين الواقع والخيال ، فاحتل الواقع مكاناً رفيعاً ومستوى عالياً في قصصه ، ومن حيث إن قصصه تظهر صورة بديعة من الروعة والجمال والتصوير ما يشعر الإنسان به حول العالم الساحر المبسوط من الدرر المنثورة والجوهرات النادرة ، وقام الطنطاوي بتزيين القصص بمزيد من الألوان البهيجة ، فهي تزيد البهاء ، والجاذبية من النواحي كلها بصورة شاملة ، وتجعله أديباً قصصياً إبداعياً في  العالم [9] .

كما عبر الأستاذ سعود الصاعدي عن أدبه وخصائصه تعبيراً رائعاً : ” إن أدب الطنطاوي يرتكز على محاور عدة جعلت منه أديباً محلقاً يرفرف في سماء الأدب العربي ، وهذه المحاور لم تأت في أدب الشيخ الطنطاوي اعتباطاً ، وإنما تعكس مقدرة الشيخ البيانية والأدبية والثقافية والتاريخية ، كذلك والدينية ” [10] .

وأضاف قائلاً في مقالته عن محاوره الستة بالتالي :

(1) اللغة والأسلوب . (2) الخيال المتزن . (3) الحجج العقلية المقنعة والبراهين الدامغة . (4) العاطفة الصادقة . (5) الطرف الهادفة .            (6) الهدف .

ثم يقول عن أدواته الأدبية : ” . . . هو أيضاً كاتب وروائي وقاص ، يملك أدوات الأديب المكتمل غير أنه ليس بشاعر ولا فرق بينه وبين الشاعر إلا الوزن الذي هو العمود الفقري للشعر ، وما عدا ذلك فكل ما عند الشاعر عنده ، بل وأوضح بياناً ، وأقوى لغةً ” [11] .

ويبدو جلياً أن الأستاذ الطنطاوي لا يريد خلال كتاباته القصصية إلا تقييم ( تقويم ) النماذج والبطولات والحماسات الإسلامية ، وتاريخ أمته الإسلامية ، وسيرة رجالات الإسلام الذين عاشوا لدينهم ، وأفنوا أعمارهم لخير أمتهم ، خير البشرية كلها ، والقيم الدينية ، قولاً وفعلاً في وقت يحتاج فيه الأمة إلى هذه القيم وتلك الشخصيات كي تتقدم وتزدهر فشيدت الحضارة الإسلامية الفريدة التي لم تشهد الدنيا لها مثيلاً ، وتشحذ عزائم أبناء الأمة لمستقبل مشرق وضيئ ، إنما يريد من خلال القصص روحاً تسري في نفس القارئ ، فتبعث فيه حياةً جديدةً ، تستنهض همته ، وتحرك مشاعره ، وتنير طريقه وتأخذ بيده إلى العمل الجاد المثمر ، حتى تستعيد أمتنا سالف مجدها وسابقة حضارتها كما عبر بنفسه عن الأدب وغايته : ” تهذيب الطباع وصرف العواطف إلى الخير وتنبيه الضمائر الغافلة ، ونفع الناس ” [12] .

كما قال الكاتب الكبير أنور الجندي عنه : ” يمكن أن يكون أنها تمثل صورة حياة فكرية خصبة قوامها الإيمان بأمجاد الإسلام والعروبة ولغة الضاد ، إيمان فيه حرارة وصدق وعاطفة ، وقد استطاع علي الطنطاوي أن يجمع بين الأسلوب الحديث القائم على التحليل ، وبين أمجاد الأمة العربية وكتابتها من جديد ” .

ومن ثم ذكر الأستاذ عن خصائصه قائلاً : ” فعلي الطنطاوي قد أخذ كلمات من تاريخنا ، فأصدر هذه القصص الرائعة التي تصور أمجادنا ، لكنه لم يقف عند هذا الحد ، بل نوع إنتاجه فكتب في كل فن من فنون النثر للأدب العربي : القصة والمقالة ، وكتب في الوطنية والتاريخ والإصلاح الاجتماعي والنقد الأدبي والبحث الإسلامي والصور والخواطر والرحلات ، وقد بلغ به إيمانه بأمجادنا التاريخية ، إنه يرى لو كل كاتب استطاع أن يأخذ من تاريخنا على مقدار طاقته وعلى أسلوبه وطريقته . . . لم ينقص من كنوز تاريخنا شيئ ” [13] .

إن الشيخ علي الطنطاوي لم يلتزم منهجاً خاصاً ومعيناً في رسم صوره القصصية ، ولم يهتم بقواعد المذاهب وشروطها أيضاً ، ولم يتبع ولم يرجح نفسه إلى أحد من رواد القصة ولم يرتبط ارتباطاً وصلة أدبية معه ، وهو القصاص الحر الذي يفتخر بحريته ، ويعتبر نفسه ويتمتع بقدرته الفائقة ، وعبقريته الخارقة ، فقد كان هدفه الوحيد أن يصل إلى نفس السامع أو القارئ ، وأن يترك فيهما الأثر البالغ ، إنه قد جمع في ذلك بين المذاهب والمناهج وخلط بينهما ، إنما كان يهتم بتخير الكلمة لغايته للوصول إلى نفس القارئ ، وهذه هي الغاية التي تستهدف أن تمسّ أوتار القلب ، وتخاطب العقل مع إثارة الأحاسيس والمشاعر من ناحية بصفة واضحة [14] .

كما تتميز مقدرة الطنطاوي على التصوير واستحضار الصورة وتكوينها وإعطائها الشامل من الجمالية والإبداع حتى جعلت المنهج الفني يقرب من المنهج النفسي حيث يظهر الاختلاط من الجانبين بالكمال ويشهد المزيج عجيباً وبديعاً ، هذه هي القدرة الإبداعية والموهبة الطبعية السامية ، ليس هو المنهج النفسي ، وليس هو المنهج الفني [15] .

كما عبر الكاتب نعيم حسن يافي أن الطنطاوي لم يقيّم التقييم المناسب ، واعتبرت قصصه من ذلك النوع المسمى قصة الصورة ، اعتماداً على أنها تحاول تقديم شيئ من الواقع بتفصيلاته ، وقد تقدم مواقف من التاريخ أيضاً ، وقد عُني بتفصيلات هذه المواقف ما دفع ذلك في   مجموعتيه : ” قصص من التاريخ ” و ” قصص من الحياة ” ، من ثم يجب أن ينظر إلى نتاج الشيخ القصصي في سياقه التاريخي حتى يكون الحكم عليه أقرب إلى المعالجة الفنية منه إلى التأثريه [16] .

ومع كل ما ذكرنا عن أدبه القصصي في التصوير ورسم الشخصيات والحوادث ، عرض الأفكار والمشاعر ، فإن حقيقة بارزة تظل برأسها وتنير وتشرق كالشمس في الهداية والقصص ، وهي أن التقليد والتأنق جماع الصورة والتصوير ورسم الشخصيات والحوادث والترابط ومركز التعبير الفني فيها والسمة الغالبة عليها .

خصائص أسلوب الطنطاوي في كتابه ” القصص ” :

إن الأستاذ علي الطنطاوي يستمد الفكرة الجوهرية من التاريخ لكل قصة ، لكنه يصوغها صياغةً متينةً رائعةً كما تتجلى براعته الفائقة في اللغة العربية ، يتصرف فيها تصرفاً إبداعياً جذاباً ، وقادر على تطويعها وفقاً للمتطلبات الفنية القصصية من إثراء التشويق والمزيج الشامل من الخيال والتاريخ والتصوير ورسم الشخصيات والحوادث والانطلاق في الوصف والسرد بصفة خاصة [17] .

كما عبر الدكتور يوسف القرضاوي عن أسلوبه وخصائصه بهذه العبارة الرشيقة : ” وأسلوبه هو السهل الممتنع في صورة من أندر صوره في سهولته وسلاسته ، وسلامته وبلاغته وسحره وحلاوته ، ودقته المدهشة في التصوير والتعبير ، وقدرته الفائقة على تيسير العسير ، وتقريب البعيد ، والوصول بالأفكار والمشاعر ، والحقائق والمعارف ، بطريقة بسيطة مفهومة محكمة محببة إلى الكبير والصغير والمرأة والرجل والمتعلم والعامي من مختلف طبقات الناس ” [18] .

ومن أهم خصائص أسلوبه الاستطراد ، سواء كان ذلك في الكتابة أو الحديث ، وأقرب إلى الشاعرية ، والجمال ، والشفافية ، والتشويق ، وقوة الإيحاء ، والتوهج العاطفي من ناحية ، وقوة تركيبه وتجانس مقاطعته ، وهذا كله ما اعتبره الاعلام من النقد والأدب وعبّروه خير القاصين في الأدب العربي الحديث في نظرهم ورأيهم [19] .

إن الطنطاوي قد استخدم في قصصه التجسيم معناه : إبراز المعنى في صورة حسية ، والتشخيص معناه : بث الحياة والمشاعر الإنسانية على غير العاقل من حيوان ونبات وجماد ، فنافلة القول أنه يريد بأن يلبس الأمور المعنوية لباساً حسياً ، ويسبغ عليها صفة الجمادات ، ومن التصوير التجسيمي والتشخيصي البديعان ما يوجدان في حديثه عن وصف مدينة دمشق في السرد : ” وذهبت دمشق تبتغي أن تنثر على موكبه من أزهار الغوطة جنة الدنيا ، فلم تجد في الغوطة زهرة واحدة ، لقد صيرتها الحرب قاعاً صفصفاً فنثرت على موكبه أزهار القلوب : دموع الفرح وهتاف المحبة وتصفيق الإعجاب ” ، و ” كانت دمشق يوم الجمعة صابرة تتجرع حزنها في صمت رهيب وسكون هائل فلم تحرك ساكناً ، وما دمشق بالتي تعرف أنه المكلوم واستغاثة العاجز ، ولكنها تعرف الصبر على ما لا يصبر عليه الدهر ” [20] .

كما أنه قدم في العبارات المذكورة مثالاً فذاً عن التجسيم وكونت دموع الهتاف والتصفيق جمادات مادية ، ثم يقدم المثال الواضح عن تشخيص الجمادات في صورة الإحساس والمشاعر والعواصف بصفة بشرية ، فمدينة دمشق تظهر مثل الإنسان يشعر الحزن ولا يحرك ساكناً وتعرف الصبر جيداً .

إن الصور الفنية القصصية عند الطنطاوي أكثرها اتصالاً بالذهن وتأثيراً في النفس واستثارة للمشاعر ، ولا سيما في الأمور والأحداث التي تتصل بالإسلام وعظمته وتاريخه مما ترك من الإنجازات والمفاخر ، فنحن نتمكن كثيراً بالحواس الخمس كل ما كتب في قصصه ، والمزايا كلها استعملت على لوحة شاملة امتزج فيها الشعور بالعاطفة      وبالفكر [21] ، يريد الطنطاوي أن ينقل إلينا التصوير والتعبير بالأشياء والمشاهد كما هو يحس ويعرف ببراعة ، ويقدم إحساساته النفسية الذاتية والعامة ، والفردية والجماعية والشخصية بتجربة واسعة ، كما عبر عن وصفها حينما دخل الحمام بعد سفر طويل مرهق بالسيارة إلى الحجاز : ” فدخلت فإذا أنا في حمام ، ما ظننت أني ألقى مثله في دمشق ، له ظاهر وباطن ، وفيه الماء البارد والحار والرشاش ” الدوشة ” والمناشف معلقة ، والصابون مهيئاً ، فدهشت وفرحت فرحاً ما أفرح مثله لو أعطيت مأة دينار ، مع أن لم أرها قط ولم تحتوها يدي إلى الساعة التي أكتب فيها هذه الكلمة ” ، ” وأقبلت أصب على جسمي من الماء الحار فأحس لي بعد هذا التعب بما تحس الأرض اليابسة إذا هطل عليها المطر ، حتى إذا انتهى عدت إلى أصحابي بوجه متورد وثياب نظيفة فجن جنونهم عجباً       ودهشةً ” [22] .

وقد يقدم المنهج النفسي بالمنهج الفني ، ويصور خلجات النفس وعواطفها في إطار واقعي بسيط ، حيث إنه يتسم بالجمال والتعبير اللائق وبكلمات مؤدية إلى تشكيل كل جملة بالصورة نفسها ، ولكنها تبدو لوحة واحدة رائعة مؤثرة كالتالي : ” حتى إذا نزلت السيارة جلسوا على الأرض وقد طحن الجهد أجسامهم ملأ اليأس نفوسهم وانقطع أملهم من كل شيئ إلا من الله ، وضل من يدعون إلا إياه ، فأقبلوا على الله بالدعاء والاستغفار ، وذاقوا من حلاوة الإيمان وبرد اليقين ما اطمأنت به نفوسهم وارتاحت له ضمائرهم ” [23] .

إنه أدرك قيمة الحركة في التصوير والوصف والسرد ، والبعد عن الجمود ، فالصورة المتحركة أكثر تأثيراً في النفس وأبلغ وصولاً إلى القلوب كما أنه أدرك قيمة الألوان القصصية فيها ، فقد كان يعطي التصوير والتعبير والوصف ما يناسبه من الألوان مع الفكرة والموقف ، لأن التصوير الملون تلتفّ حوله الروعة والجمال [24] .

التلوين عند الطنطاوي كثير ، ويتنوع مع الموضوع ، وخاصة فيما يكتب عن شيئ يحبه ويؤثر في نفسه ، وشوهد ذلك التلوين الرائع في الصورة التالية : ” والأشجار على ضفاف الأنهار كلها ، والشلالات تنحدر من الأعلى إلى الأدنى تتكسر على الصخور وتنحط ، تخالطها أشعة الشمس فيكون لها بريق ولمعان كلمعان الألماس ، وأين منها لمعان  الألماس ؟! وعن شمائلنا الفضاء الرحب تملؤه الغوطة كبحر ما له آخر ، أمواجه خضر ” [25] ، و ” هنالك تحت هذه السقوف التي تظهر خاشعة في ضباب الصباح ووهج الظهيرة وظلمة الليل ” [26] .

كما كتب العقاد عن أسلوبه قائلاً : ” إن أداة البيان قد تمت له لفظاً وحساً ، كما تمت له بداهة ومعنى ” ، و ” أنه أديب مطبوع ، جعل من الأدب منزلة عالية في حياة الأمة ، وأوضح سبيله ، وخاض غماره ” [27] .

إن الطنطاوي يستخدم بلاغة الالتفات بالرجوع من الغيبة إلى المشهد ، ويستهدف التفنن في الكلام ، والانتقال من أسلوب إلى أسلوب لتنشيط السامع  والقارئ ، وإيقاظاً للاستماع إليه [28] ، فلننقل وصفاً رائعاً متسماً بالالتفات والتحليق والتلميح البياني ، فيقول في دمشق وآثارها التاريخية : ” والبساتين التي يضل فيها النظر سكران من الفنون ، وهذه المنارات وهذى القباب ، والمسجد الذي تكسّرت على جدرانه أمواج القرون وهو قائم ، والتذت عنه العصور وهو شامخ ، يروي لأبناء الأرض تاريخ الأرض ، منذ أن كان معبداً وثنياً إلى أن صار كنيسة نصرانية ، إلى أن غدا جامعاً إسلامياً .

وهذا الجبل الذي يفترّ أبداً عن مثل ابتسامة الأمل في وجوه  المطالب . . ! لن تلقوا بعدها مدينة مثلها : ثيابها زهر ، ونسيمها عطر ، وحديثها شعر ، وجمالها سحر . . ! إنها أقدم مدن الأرض العامرات ، ماتت أخواتها من دهور سالمة ” [29] ، كما يوجد التنويع في المزاوجة بين الأساليب الخبرية والأساليب الإنشائية ، وكذلك بين الجمل القصيرة والجمل الطويلة [30] .

حيث إن الأستاذ يستلفت توجيه الخطاب إلى المشهد استلفاتاً كاملاً بالأسلوب المنمق ، وإحياء قوي مؤثر ، مع إطالة حبل الحديث ، والتكرار المعنوي مستهدفاً أن يكون ما تشتهي الأنفس وما تلذ الأعين ، إني اخترت هذه السطور نموذجاً : ” . . . أهاج ذلك عاطفتك يا لبنان ؟ أحرّك قلبك كل ذلك أيها الجبل التياه . . . ؟ وأنت أيها البحر الرقيق السيال ، هل أنت أرثى شعوراً وأرق عاطفة ؟ أيحزنك منظر البؤس   الشقاء ، وأنت تلتهم الأحياء ” [31] .

والشيئ الذي يمتاز به الأستاذ الطنطاوي في أسلوبه أنه يقدم العلم ( أي المعلومات ) في صورة أدبية فيمكن أن نسمي هذه الطريقة تأديب العلم كما كتب الأستاذ أنور الجندي عن الطنطاوي تحت عنوان :          ” تأديب التاريخ ” لأنه يبين في قالب أدبي [32] .

* الأستاذ المساعد ، قسم الدراسات العربية ، جامعة الإنجليزية واللغات الأجنبية ، حيدر  آباد ، الهند .

1 الموجه الفني لمدرسي اللغة العربية – للأستاذ عبد العليم إبراهيم ، الطبعة الثالثة عشرة ، بدار المعارف بمصر : ص 371 .

[2] قصص من الحياة – للشيخ علي الطنطاوي ( دار المنارة بجدة السعودية ، ط/1420هـ/1999م ) : ص 222 .

[3] من حديث النفس – للشيخ علي الطنطاوي : ص 7 ، ( دار المنارة بجدة ، ط/2 ، 1991م ) ، ذكريات : ج 1 ، ص 204 .

[4] في سبيل الإصلاح – للشيخ علي الطنطاوي : ص 17 – 18 ، الطبعة الثالثة ، سنة 1990م .

[5] مجلة رابطة الأدب الإسلامي : ج 9 ، ع 23 ، سنة 2002م ، والشرق الأوسط : ع 7610 ، 20/3/1420هـ .

[6] تاريخ الأدب العربي – لحنا الفاخوري : ص 722 – 725 ، ( الطبعة السادسة للمطبعة البوليسية بيروت لبنان ) .

[7] من نفحات الحرم – للشيخ علي الطنطاوي : ص 109 ، ( دار المنارة بجدة ، الطبعة الأولى – 1980م ) .

[8] دمشق – للشيخ علي الطنطاوي : ص 129 ، ( دار المنارة بجدة ، الطبعة الأولى –      1959م ) ، قصص من التاريخ : ص 36 ، 53 ، 128 ، ( دار المنارة بجدة ، ط 6 ، سنة 1417هـ/1996م ) .

[9] قصص من الحياة – للشيخ علي الطنطاوي : ص 222 ، ( دار المنارة بجدة ،                   ط 1420هـ/1999م ) .

[10] ملحق الأربعاء : ص 18 ، 28/2/1419هـ .

[11] ملحق الأربعاء : ص 18 ، 28/2/1419هـ .

[12] مجلة الرسالة كان يصدرها حسن الزيات : ص 199 ، العدد 1530 .

[13] المحافظة والتجديد في النثر العربي المعاصر في مأة عام – لأنور الجندي : ص 756 – 759 ، ( سنة 1961م ، القاهرة ) .

[14] رجال من التاريخ – للشيخ علي الطنطاوي : ص 167 ، ( دار المنارة بجدة ، الطبعة     1986م ) .

[15] الباب الذي لا يغلق في وجه السائل – للشيخ علي الطنطاوي : ص 5 – 15 ، ( دار المنارة بجدة – 1997م ) .

[16] قصص من التاريخ – للشيخ علي الطنطاوي : ص 10 ، ( دار المنارة بجدة ، ط 6 ، سنة 1417هـ/1996م ) .

[17] الطور الفني لشكل القصة السورية القصيرة ، مقال بمجلة الآداب بيروت ، ع 5 ، ص 44 – 46 ، سنة 1965م .

[18] الشرق الأوسط ، 20/3/1420هـ .

[19] ذكريات – للشيخ علي الطنطاوي : ج 2 ، ص 7 ، قصص من التاريخ : ص 32 ، 35 ، 65 ، 212 ، 246 . . . وغيرها .

[20] دمشع – للشيخ علي الطنطاوي : ص 61 ، علي الطنطاوي أديب الفقهاء وفقيه الأدباء – لمجاهد مأمون ديرانية : ص 83 وما بعدها ، ( دار القلم بدمشق ، الطبعة الأولى – 1421هـ/2001م ) .

[21] قصص من التاريخ – للشيخ علي الطنطاوي ، على سبيل المثال : ص 127 ، 153 ، 157 ، 162 ، 171 .

[22] من نفحات الحرم – للشيخ علي الطنطاوي : ص 65 .

[23] المرجع السابق : ص 76 .

[24] قصص من الحياة : للشيخ علي الطنطاوي : ص 233 ، ( دار المنارة بجدة ،                     ط 1420هـ/1999م ) .

[25] دمشق – للشيخ علي الطنطاوي : ص 44 .

[26] من نفحات الحرم – للشيخ علي الطنطاوي : ص 46 .

[27] مجلة الأدب الإسلامي : ج 9 ، ع 34 – 35 ، مجلة الرسالة : ع 343 ، 1940م .

[28] معجم البلاغة العربية – لبدوي طبانة : ص 614 – 615 .

[29] ذكريات – للشيخ علي الطنطاوي : ج 2 ، ص 41 – 42 ، 46 – 47 .

[30] المرجع السابق : ج 2 ، ص 263 .

[31] المرجع السابق : ج 3 ، ص 210 .

[32] المحافظة والتجديد في النثر العربي المعاصر في مأة عام : ص 756 .