نماذج من مجالات الوقف في الحضارة الإسلامية
سبتمبر 15, 2020قضية تعليل الأحكام عند الأصوليين والمتكلمين
يناير 6, 2021الفقه الإسلامي :
فقه النوازل : حاجته وأهميته
بقلم : الدكتور مصطفى البعزاوي ، المغرب الأقصى
قبل الحديث عن أهمية النوازل أو الفتاوى وكيفية التعامل معها ، لا بد من الوقوف على تعريف النوازل أو المفتي ، وسأقتصر على تعريف الشاطبي لكونه يرتبط بعقليته المقاصدية التي ستقربنا من إدراك قيمة الفتوى وأهميتها .
يقول الشاطبي : ” المفتي مخبر عن الله كالنبي ، وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي ، ونافذ أمره في الأمة بمنشور [1] الخلافة كالنبي ، ولذلك سموا أولي الأمر ، وقرنت طاعتهم بطاعة الله وطاعة رسوله في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ ) [2] ، والأدلة على ذلك كثيرة ” [3] .
إن المتأمل في هذا التعريف ، يدرك بلا ارتياب شرف الفتوى والقائمين عليها ، فهل هناك شرف أعظم وأجل من أن يخبر الإنسان عن الله عز وجل ويوقع على أفعال المكلفين عن الله ، وينفذ أمره بدون خاتم ، وتقرن طاعته بطاعة الله ؟
يقول ابن القيم رحمه الله : ” وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ، ولا يجهل قدره ، وهو من أعلى المراتب السنيات ، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات ؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته ، وأن يتأهب له أهبته ، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به ، فإن الله ناصره وهاديه ، وكيف لا ، فذلك هو المنصب الذي تولاه بنفسه ، رب الأرباب فقال تعالى :
( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى ٱلنِّسَآءِ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ) [4] وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفاً وجلالةً ، إذ يقول في كتابه العزيز : ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى ٱلْكَلاَلَةِ ) [5] – [6] .
فضلاً عما سبق ، فإن النوازل الفقهية تتجلى أهميتها فيما يلي :
- إنارة السبيل أمام الناس بإيضاح حكم النازلة ، حتى يعبدوا الله على علم ، لأنه لا يجوز الإقدام على أمر حتى يعلم حكم الله فيه .
- التصدي لدراسة فقه النوازل من أهل الحل والعقد عند وقوع الواقعة ، لإظهار حكمها الشرعي ، وبيان كمال الشريعة وصلاحها لكل زمان ومكان ، لقول الله عز وجل : ( ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأِسْلاَمَ دِيناً ) [7] .
- كسب الأجر والمثوبة من الله عز وجل ، فإن الدارس ” للنازلة ” المتجرد الذي يريد أن يصل إلى حكمها الشرعي ، إذا بذل جهده وأصاب ، فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر واحد .
- الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله ، فإن دراسة هذه النوازل من تبليغ العلم والعمل به ، وتبليغ العلم مأمور به في الشريعة الإسلامية ، يقول الله تعالى : ( وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ) [8] . وقال سبحانه وتعالى : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) [9] .
- إن موضوع النوازل الفقهية من المسائل التي اهتم بها الفقهاء قديماً وحديثاً ، ونالت من الفقهاء في كل عصر وجيل قسطاً كبيراً وحظاً وافراً من العناية والتمحيص ، والدراسة والتحقيق ، فعملوا على إمعان النظر فيها ، وبذلوا مجهوداً مشكوراً في جمعها وكتابتها ، وتحريرها وتدوينها ، وتصنيفها وترتيبها ، حتى يسهل تناولها والاستفادة منها ، والرجوع إليها من قبل الفقهاء والقضاة ، والمهتمين في المجالات الأخرى كعلم الاجتماع والتاريخ ، علماً أن النوازل والفتاوى تعتبر صورةً ومرآةً صافيةً تعكس واقع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية للناس ، وتقتضي التعمق في البحث والنظر ، للتعرف على الحكم الشرعي والاهتداء إليه في النازلة المعروضة .
وفي هذا المجال ، يقترح الأستاذ ” عبد الله العروي ” بطريقة أكثر جلاء ، ضرورة توظيف الفتاوى في كتابة التاريخ المغربي قائلاً : ” إن فقه النوازل هو الكفيل بأن يقربنا أكثر من واقع الأوضاع السياسية والاجتماعية ، لكن هذا النوع من الكتابات ما زال لم يدرس دراسةً شاملةً ” [10] .
ومن هنا ، تكون كتب النوازل منجماً غنِياً بمعلومات موازية يستفيد منها المؤرخ والقانوني وعالم الاجتماع … ، وهذا ما أكده “J. Schacht جوزيف شاخت ” في كتابه ( تطورالقانون الإسلامي ) ، حيث يرى أن كتب النوازل هي : منجمٌ بِكْرٌ يجب على من أراد فهم المجتمع الإسلامي أن يَظَلَّ رهيناً بمدى فهم ودراسة هذه النوازل والاستفادة من مادتها الخام ” [11] ؛ لأنها تمكننا من قراءة جديدة للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي للمغرب الوسيط ” [12] .
خلاصـة القــول :
تعد كتب النوازل من الذخائر النفيسة التي لا يستغني الفقيه عن الاستفادة منها ، في تبين معالم منهج الفقهاء في استنباط الأحكام وكيفية تنزيلها على وقائع الناس المختلفة ، والشيئ نفسه بالنسبة إلى الأدوات التي ينبغي أن يمتلكها الفقيه النوازلي ، من الإحاطة بنصوص الوحي بشقيه ، وما معها من نصوص اجتهادية ، وإلمام بالقواعد والضوابط الفقهية والأصولية ، ومراعاة الظروف والملابسات التي تحيط بالنازلة ، وإذا كان الأصوليون في الأقيسة يقولون : ” يدور الحكم مع علته وجوداً وعدماً ” ، كان حقاً على فقهاء النوازل أن يقولوا : ” تدور النازلة الفقهية مع ظروفها وملابساتها وأحوالها وجوداً وعدماً ” .
[1] المنشور : هو ما كان غير مختوم من كتب السلطان ، ينظر ، اللسان لابن منظور ، 14/258 مادة ؛ ( ن ش ر ) .
[2] سورة النساء ، الآية 59 .
[3] الموافقات في أصول الشريعة ، لإبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي ، تحقيق ، محمد عبد الله دراز ، دار الكتب العلمية ، 1425هـ 2004م ، 4/179 .
[4] سورة النساء : الآية 127 .
[5] نفسها ، الآية 176 .
[6] إعلام الموقعين عن رب العالمين ، لابن قيم الجوزية ، تحقيق ، طه عبد الرؤوف سعد ، دار الجيل ، بيروت ، الطبعة الأولى 1973م ، 1 /10 .
[7] سورة المائدة : الآية 3 .
[8] سورة طـه : الآية 114 .
[9] سورة الزمر : الآية 10 .
[10] الفتاوى والتاريخ ( دراسة لمظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية في موريتانيا من خلال النوازل ) ، محمد المختار ولد السعد ، دار الغرب الإسلامي ، الطبعة الأولى 2000م ، ص 29 .
[11] SCHACHT, J, Esquisse d’une Histoire du Droit Musulman, édit, Max 67 Bessson, paris 1953, p34 .
[12] القبائل والأرياف المغربية في العصر الوسيط ، ابن حسن محمد ، دار الرياح الأربع ، الطبعة الأولى ، تونس ، مارس 1986م ، ص 32 .