الإسلام وخطاب الكراهية لأهل الكتاب ( الحلقة الثانية الأخيرة )

أبو نصر الفارابي وجهوده العلمية مع إشارة خاصة إلى كتابه ” إحصاء العلوم ” ( الحلقة الثانية الأخيرة )
أكتوبر 20, 2020
الثقافة الإسلامية : معالمها وأهدافها
أكتوبر 20, 2020
أبو نصر الفارابي وجهوده العلمية مع إشارة خاصة إلى كتابه ” إحصاء العلوم ” ( الحلقة الثانية الأخيرة )
أكتوبر 20, 2020
الثقافة الإسلامية : معالمها وأهدافها
أكتوبر 20, 2020

 

الإسلام وخطاب الكراهية لأهل الكتاب

( الحلقة الثانية الأخيرة )

الأستاذ عماد الدين العشماوي ، جمهورية مصر

المبحث الثاني : حقيقة كراهية المسلمين لأهل الكتاب

تلعب المشاعر دوراً محورياً في جميع الأديان والمذاهب ، فباستثارة العواطف تتهيأ النفوس لتقبل إلى اعتناق الأفكار والالتزام بها ، فتصبح تعاليم وتوجيهات وقيم الدين جزءاً من ممارسات الفرد والمجتمع الفكرية والنفسية ويتمثلها سلوكياً وأخلاقياً ، وتصبح دافعاً للمساهمة في بناء حياة طيبة . وقد طوع القرآن مشاعر المؤمنين وخاطب فطرهم وهيأها لتكون قابلة لقواعد الاجتماع المنتج للحياة الطيبة . وبعد أن حبب الله الإيمان وزينه في قلوب المؤمنين ، لم يكره تعالى إليهم سوى الكفر والفسوق والعصيان ، وأكد أن استجماع هذا الحب والكره هو تمام الرشد لأي فرد وجماعة تريد أن تنضم إلى قافلة المسلمين على مدار التاريخ . ” وَآعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ . فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ” .

وسعى القرآن لتصفية كل أنواع الكراهية والأفعال السلبية التي تهدم المجتمعات صغيرها وكبيرها ، وسد كل منفذ من منافذ العداوات التي تنتج تلك الكراهية بين المؤمنين ، واجتث أسباب العداوة ومنع العدوان البتة ، ” وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ” [1] .

هذا هو ما قام به الإسلام منذ نشأته حتى وفاة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهو ما يحكم علاقة المسلمين بإخوتهم من أهل الكتاب على اختلاف مشاعرهم تجاه المسلمين كما سبق وبين البحث . لكن عوامل الزمن وتراكمات الواقع وانحرافات الحكومات التي حكمت مجتمعات المسلمين والدس في الحديث ودخول الإسرائيليات في صلب ثقافة المسلمين حكمت غالب الفقه الإسلامي في رؤيته للعلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب ، واجتمعت كل تلك العوامل فعظمت من جوانب الاختلاف وهمشت جوانب الاتفاق وعناصر التعاون بين المسلمين وأهل الكتاب ، وتناست في كثير من الأحيان المبادئ التي تحكم علاقة المسلمين بإخوتهم من أهل الكتاب ، فقد ناء الواقع بكلله المحمل بالحروب والصراعات والروايات المغلوطة والأفهام الكليلة والتأويلات المنحرفة على تصور تلك العلاقة فتردت في هوة العداوة بدلاً من الأخوة ، وانحرفت إلى فكر الصغار بدلاً من شعار المساواة الأخوية ، وانخرطت في تأصيل العداوة وتأجيج الكراهية بدلاً من الانغماس في تعميق التعاون ومد جسور التواصل والتعارف ، وكأن المسلمين قد تقمصوا أدوار الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله من أهل الكتاب في علاقتهم بالمسلمين فأخذوا يزينون العداوة لأهل الكتاب ويتفننون في إبراز الاختلافات حتى استحكمت .

وصارت أحكام أهل الذمة متعلقة بـ : ممن تؤخذ الجزية وحرمة أو حل ذبائحهم والزواج منهم ، وهل الجزية لعصمة الدم أم عقوبة ، وهل يجوز تكليف أهل الجزية ما لا يقدرون عليه أم لا ؟ وفي حكم عيادة أهل الكتاب ومعاملتهم عند اللقاء وشهود جنائزهم وتهنئتهم وتعزيتهم ، وفي منع أو جواز استعمال اليهود والنصارى ولايات المسلمين ، وفي سياق الآيات الدالة على غش أهل الذمة للمسلمين وعداوتهم ، وفي المعاملات المالية معهم وأحكام مواريثهم وأحكام أطفالهم في الآخرة ، وفي أحكام البيع والكنائس وما يتعلق بإظهار المنكر من أقوالهم وأفعالهم مما نهوا عنه ، وغيرها من الأحكام التي تمتلأ بها كتب الفقه الإسلامي عن أهل الكتاب [2] .

والملاحظ على هذه القضايا التي يناقشها الفقه بالرغم من أنها كانت جزءاً من الواقع الواجب معالجته لكن المشكلة الحقيقية فيها هو منطلق المعالجة التي نجدها مخالفة للمعالجة القرآنية للعلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب ، وهي معالجة تكاد تكون عكس المعالجة القرآنية وتطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم . فقد كانت المعالجة القرآنية النبوية تنطلق من الأخوة في حين تنطلق هذه المعالجة من التفرقة الدينية ، وفي حين أن المعالجة القرآنية النبوية كانت تؤكد على أهل الكتاب نجد أن هذه المعالجة تتناول أهل الذمة ، والفارق بعيد بين المنطقين ونتائجهما مختلفة وهو ما نراه في مترتبات العلاقة الأخوية حيث نجد موضوعات التعاون على كلمة سواء لعبادة الله وحده والعمل الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة الكفر والشرك والدعوة للأخوة ، وهو ما يؤدي للتعايش والتداخل والتحاب المؤدي لعلاقات راقية لا مجال فيها لتعصب أو تهميش فنجد القرآن يتحدث والرسول يطبق : علاقات اجتماعية راقية بداية من الاجتماع على الطعام وما يعنيه من علاقات اجتماع سوية تصل إلى حد الزواج والمصاهرة ما ينتج عنهما من علاقات نسب وميراث ومودة وبر متداخلة ، في حين نجد مفردات مادة أحكام أهل الذمة تكاد تتشكك في هذا كله .

وفي حين نجد مفردات المعالجة القرآنية النبوية لمن شرد من أهل الكتاب ووصل حد العداوة للمسلمين تركز على البعد عن سفسافهم والتركيز على حسن المعاملة والأخذ بالحق على أيدي هذه الفئات فقط دون التعرض لباقي أهل الكتاب ممن لا يسلكون مسلكهم ، بل وتوجه المسلمين لأن يكون الجدال معهم بالتي هي أحسن والإعراض عن الأساليب العنيفة دون داع وعدم سب الذين يسبون لله عدواً بغير علم والإعراض عنهم ، نجد أن كتب الفقه ملأى بأحكام تعم الجميع من أهل الكتب بعد أن صاروا ذميين دون تفرقة بين محب وكاره وصالح وطالح .

ومن هذا العرض المختصر جداً نجد أن جزءاً من خطاب الكراهية لدى المسلمين اليوم لأهل الكتاب لا يستند لأي نص مرجعي أو تطبيق معتمد في الإسلام كما جاء من عند الله وبلغه طبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكنه ميراث الفقه المختلط بآثار الواقع المر بعلاقاته العدائية بين المسلمين والفئات المنحرفة من أهل الكتاب ممن ناصبوا المسلمين العداء على مدار التاريخ داخل وخارج جزيرة العرب ومن بعدها في الحروب الإسلامية المسيحية ، وليس انتهاء بالاستعمار الغربي المتدثر بالمسيحية والاستعمار الاستيطاني الصهيوني المتدثر باليهودية والذي مكنت له الإمبريالية الغربية ذات الدعاوى المسيحية الأصولية ، ويضاف إليهم فوبيا الإسلام التي تنتشر كالنار في هشيم مجتمعات الغرب الباحث عن ملاذ آمن من طوفان عولمة تطيح بكل ثوابت دولة الرفاه الاجتماعي وأيديولوجيتها الجمعية وترميهم في أتون حداثة سائلة تلقي بعبء نجاة كل منهم على نفسه فقط .

فكيف يمكن أن يكون للإسلام دور في إطفاء نار الكراهية بين المسلمين وأهل الكتاب في زمن الحداثة السائلة ؟

المبحث الثالث : معالم خطاب إسلامي لنزع الكراهية المتبادلة بين المتدينين في زمن الحداثة السائلة

هل الخطاب الذي علا ضجيجه اليوم بين جنبات مجتمعات أبناء آدم في الشمال وانتقل منهم للجنوب هو خطاب مناهض فعلاً للكراهية ويحث على الحب بين أتباع الأديان ويؤدي إلى سبيل وسط يمكن لأبناء آدم إن سلكوها أن يتقدموا نحو علم الله فيهم في سابق الأجل أنهم تمكنوا من تجاوز نزعاتهم الذاتية وتحيزاتهم الضيقة الدينية والإقليمية وكفوا عن التنازع والتقاتل والحقد والغل التي ملأت قلوب ملايين منهم على طول تاريخهم بكراهية زائفة لبعضهم البعض نتيجة لاختلاف أديانهم أم لا ؟

أولاً علينا أن ننظر لجوهر تلك الرؤية التي تدعي جدتها ، هل تحقق شروط فصل المقال فيما بين رؤية الإسلام من نصه المجيد وتطبيقات نبيه رحمة الله للعالمين صلى الله عليه وسلم الممدوحة في كيفية التعامل بين المسلمين وإخوانهم من أهل الكتاب ، وتلك الرؤية المذمومة المستقاة من تاريخ النزاع بين عالم المسلمين وأهل الكتاب في واقعهم الأليم حرباً وسلماً والتي خضعت لضغوط الواقع وإكراهات الصراع وترسخت في كتب الفقه وتداولتها الأيدي جيلاً بعد آخر دون وعي بتاريخيتها وآنيتها ومحدوديتها بالمقارنة بالرؤية القرآنية النبوية . وهل حققت على أرض الواقع ما حققت دعوة الإسلام في تجربتها الأولى في مكة والمدينة ثم في تطبيقاتها العملية على طول التاريخ الإسلامي حتى اليوم ؟

بداية نجد أن خطاب نبذ الكراهية فيما يتعلق بعلاقة الإسلام ببقية أهل الأديان لا يفرق بين الرؤيتين فهو يخلط بين الرؤيتين في تناوله لخطاب الكراهية ، ليذهب أن خطاب الكراهية متأصل في الإسلام ونصوصه لا في تطبيقات خاصة بزمانها ومرتبطة بواقعها ومبتعدة عن أساسيات التعامل كما جاءت في القرآن والسنة الصحيحة . وثانياً نجد أن هذا الخطاب عملياً لم يصل لغايته في تحقيق الحب والتعاون والانصهار التي حققها الإسلام في تاريخه ، فما زال المسلمون يمثلون فوبيا لغالبية المجتمعات الغربية من أهل الكتاب تزداد يوماً بعد الآخر ، وما زال أهل الكتاب يبدون في مخيلة وواقع كثير من المسلمين كأهل ذمة ، وغالب تمثيلاتهم لديهم تماثل صور الفرق الضالة من أهل الكتاب الكارهة للمسلمين والتي تريد أن تقضي عليهم وعلى دينهم .

ولم تصل رؤية هذا الخطاب إلى مرحلة التعايش السلمي التي أنجزها الإسلام في غالب تاريخه وبيئاته ، فهو لم يتعد مرحلة التسامح بمعنى الإذن بالوجود ؛ وإن كان تجاوز عقبة المنة والمنحة إلى الحق ، لكنه في التطبيق ما زال  يحمل معنى القبول السلبي ولا زال هو الخطاب المهيمن على الفكر الأوروبي في زمن حقوق الإنسان والعولمة .

وتعود محدودية تأثير هذا الخطاب في الحد من الكراهية المتبادلة بين المسلمين وأهل الكتاب إلى  أنه خطاب مزدوج لا مصداقية فيه في غالبه ، فهو  لا يضع حدوداً على حق إبداء الرأي في عقيدة وقيم الإسلام ويجعله مطلقاً ولكنه يضع قيوداً وضوابط على التعبير عن رأي المسلمين في غيرهم وفي حقهم في التعبير عن هذا الرأي ، ومن ثم يهدر حقوقهم ويثبت حقوق غيرهم ، وهو مدخل رئيسي لخطاب الكراهية على الجانب الإسلامي الكاره لأهل الكتاب يعضده ويرفده بأقوى حجة تبرر خطاب كراهيته وتثبته ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى تبين خطورة عدم التفرقة بين الرؤيتين الإسلامية والتاريخية لعلاقة المسلمين بأهل الكتاب حيث يتوجه خطاب نبذ الكراهية الجديد بكليته لكلا النوعين على حد سواء ، فيفقد مصداقيته مع الخطاب الإسلامي القائم على الحب والمتمسك بقواعد دينه والتزاماته تجاه ربه ومعتقده ، ويفسح في المجال لخطاب الكراهية لوأد هذا الخطاب المعتدل وتسفيهه بين أبناء دينه فيتوارى في الهوامش مفسحاً الطريق لخطاب الكراهية لينمو ويسود .

ومن هنا فإن هذا الخطاب بحاجة حقيقية للتعديل ليتوافق مع حقائق الواقع ولا يصطدم بقواعد الديانات والتزامات المؤمنين فليس من المعقول أن يجرم أي حديث عن السامية أو المحرقة في حين يباح شتم الإسلام ورسوله وتسفيه آياته وتأويلها بشكل مزر بكل قيمها دون   رقيب . وهو الأمر الذي يجعل الفقرة 2 من المادة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي تقول : ” تُحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تُشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف [3] ” حبراً على ورق وتُظهر مشاكل تطبيق مفهوم خطاب الكراهية بشكل متحيز نتيجة لتباينات معايير الحكم على الحالات المختلفة .

نحو خطاب عالمي مناهض للكراهية ينطلق من الإسلام :

كانت الصورة التي رسمها البحث لخطاب الحب والكراهية في الإسلام : النص والتاريخ ، وفي عالمنا المعاصر مقدمة للإجابة على سؤال : كيف يمكننا أن نبني خطاباً إسلامياً جديداً للحب بدلاً من الكراهية يستند إلى القرآن المجيد اليوم .

ويمكن القول أنه يلزم شروط ثلاثة رئيسية لتحقيق ذلك . أولها أن يتم الفصل بين خطاب النص القرآني العام والخالد وبين التطبيقات الجزئية بنت زمانها ومكانها في تاريخ المسلمين . وأن يتم تعليل ذلك من خلال بحث في أصول الدين العام وتوجهاته العالمية . وثاني الشروط أن نعلم أن كراهية المسلمين لبعض أهل الأديان ليست كراهية تحت الجلد كما يظن كثيرون من أهلها ، ولكنها كراهية لها جذور وأسباب نتاج بيئات وأفكار وصراعات توالت وعداوات تم توارثها ومصالح يقاتل أصحابها من المتكسبين من الدين للحفاظ عليها وعلى أنفسهم من ورائها وبه . من خلال خطاب تفسيري مركب من الأسباب : الإنسانية والاجتماعية والنفسية والأنثروبولوجية ، يمكننا من فهم خطاب الكراهية حسب منطقه ، وتفهم دوافعه دون إسقاط  دوافعنا عليه ، أو الخلط بينه وبين الرؤية الإسلامية المرغوبة لعلاقة المسلمين بأهل الكتاب من قبلهم ، والتي تحمل وتبشر بعالم القيم الرئيسية التي يطرحها الدين بمفهومه التوحيدي .

وعندما يتحقق هذان الشرطان نكون وضعنا للكراهية حدها ومجالها ويتبقى لنا أن نتوجه للحفر عن أصولها وجذورها لمواجهتها بالفكر والإجراءات العملية لكشف ضلالها وزيف ادعائها من منظور الإسلام . وهو الأمر الذي سينتج تغييراً جذرياً في الرؤية التعبوية الاختزالية السائدة في علاقة أهل الإسلام بأهل الأديان .

ويتبقى لنا الشرط الثالث المتعلق بالتفرقة بين النماذج المختلفة من رؤى كل من المسلمين وأهل الكتاب لبعضهم البعض ، فالبعض لديه إدراك للتفرقة بين الرؤيتين والقلة ليس لديها ذلك وهي التي يتم التركيز عليها لتصحيح مفاهيمها وكشف زيوف منطلقاتها ، والثانية يتم تعميق مقولاتها وبسط مساحات تواجدها . وعند هذه المرحلة سنكتشف التشابه في الرؤية والمنظومات الأخلاقية بين الإسلام وبعض الرؤى في اليهودية والمسيحية في جوانبها الإيجابية فنعظمها وندخل في تحالف حقيقي معها ، والاختلاف مع بعض الرؤى الأخرى التي تحمل نفس عيوب رؤية المسلمين المشوهة فتكون مواجهتهم جميعاً من خلال إبرام عقد اجتماعي دولي لمواجهة هذه الكراهية المرفوضة .

وهذا التلاقي سيؤدي إلى نفض غبار الثقة الزائفة الذي تحلى به كذباً كثيراً من حملة خطابات الكراهية التي تدعي الحب والتسامح مستغلين حجاب الجهل المقدس الذي ألقوه على الإسلام والمسلمين من خلال نموذجهم الاختزالي لصورة الإسلام القاتل والكاره التي تعتمد على تعميم الرؤية التاريخية المستمدة من أتون المعارك  والحروب وتغييب جوهر رؤيته المستمدة من معين النص وتطبيقات المؤسس عند غالبية المخاطبين . ومن خلال استخدام العنف الناشئ عن داعش وغيرها من جماعات العنف المتكئة على تفسيرات رجعية للدين تتغذى من تراث مشوه عن الإسلام ونبيه ومجتمعاته ، وفي ظل الظلم الاقتصادي الناجم عن عولمة الفقر التي تسد أفق الغد أمام ملايين من أبناء العالمين الباحثين عن عمل أو أمان ، أو الهاربين في مراكب الموت إلى جنة أوروبا ، أو الناقمين على قتلة يقتلونهم دون سبب ، تُرسم صورة كراهية الإسلام والمسلمين لأهل الأديان لتظل    ” عالقة ” في الأذهان وتزكيها تشعلها ” إسلاموفوبيا “أخذت بمجامع نسبة كبيرة من أهل الكتاب الغربيين اليوم .

ومن خلال النموذج المعرفي الاجتهادي المستند إلى المرجعية الإسلامية والمنفتح على الرؤية الإنسانية ؛ الذي يطرحه البحث ، والمستند إلى جماعية العمل ومؤسسيته ، عبر عملية متكاملة تتم على عدة مستويات من خلال : الرصد والتصنيف والنقد التراكمي لأنماط الحب والكراهية بين المسلمين وأهل الكتاب ، سوف تتحدد الأنماط العامة الجديدة للحب والكراهية التي يتم مراكمة المعلومات في إطارها ، والتي تكشف عن جوانب كل نموذج ، ومن ثم كيفية مواجهة نموذج لكراهية وتحييده وتعظيم نموذج الحب وتسييده ، ومن هنا نبدأ بناء علاقات على أسس حب متينة بين المسلمين وأهل الكتاب وإنجاز تراكم حقيقي في مجال تجاوز الكراهية المتقابل بين العالمين الإسلامي والغربي .

خاتمة :

أن تعرف شيئاً عن دين ما ، ليس معناه أن تفهم ذلك الدين ، إذ يمكن للمرء أن يعرف الكثير عن الآخرين ، من غير أن يفهم عنهم إلا القليل . وعالمنا المنقسم على نحو خطير ، اليوم ، بسبب الكراهية الدينية المصطنعة مصداق واضح لهذه الحقيقة . فليست الكراهية بين عالمي الإسلام والأديان التوحيدية ، مثلاً ، معطى أبدياً ، وليست فرضية الكراهية التي تحت الجلد بينهم صحيحة ؛ إلا في عقول أتباع بن لادن والظواهري والبغدادي وبات روبرتسون وجيري فالويل وبوش وترامب وتيلو سارازين ونتنياهو وغيرهم من المتطرفين .

فالكراهية ، مرتبطة بالفهم الخاطئ للنصوص ، كما بعبء التاريخ الدموي الصراعي والاستعمار والظلم والمصالح الضيقة للحكام ومحتكري تفسير الدين ، وسوء الفهم المتعمد والدعايات المغرضة والتأويلات الفاسدة لمقاصد الأديان ومعاني نصوصها . والدرس المعرفي ، يؤكد لنا أن الكراهية لها تاريخ يمكن فهمه وتتبعه بين أتباع الأديان ، وأنها ليست شيئاً ميتافيزيقياً لا يمكننا إدراكه ، وأن  الأبعاد المعرفية هي أبعاد أساسية لفهم ذلك .

وإذا كان من الصحيح أن كثيراً من المسلمين ، لديهم كراهية حقيقية لأهل الأديان الأخرى ، يجعلهم يسلكون سبل كراهية تمتد من السيئ من القول إلى السيئ من الفعل بدلاً من شق طريق إلى المحبة ، إلا أن ذلك ليس نتاج اتباع هدى الله في الكتاب والسنة ، لكنه نتاج موروثات خاطئة تحكمت فيها التأويلات الفاسدة مع العادات المحلية . ونفس الأمر لدى كثير من أهل الكتاب ،الذين يعيشون حضارة في وضع قلق ، تجعلهم يخافون عدواً يريد أن يغزوهم ويحقق خلافة إسلامية في بلدانهم ، وهذا أيضاً هو إرث ممارسات مشوهة ومفاهيم مغلوطة ، يشيعها كثير من المتصدرين للحديث عن الإسلام بسوء نية في الغرب .

لذلك ، فنحن ، اليوم ، بحاجة لظهور جيل جديد من المفكرين المسلمين والغربيين المتحررين من ثقل العبء التاريخي للكراهية بين أهل الأديان ، ليخوضوا معركتنا جميعاً من أجل مستقبلنا ، وأن يجسدوا الوجه الحقيقي للإسلام والمسيحية واليهودية ، بعيداً عن التصورات الواهية والوهمية عن عدو لم يكن دائماً في حقيقته عدواً . ولتكون علاقات العالمين الجديدة ، هي بداية البحث عن أمان وتعارف وتعاون ، لا علاقات كراهية وتنافر وصراع ، ولتنتهي الحقبة الرديئة التي طالت من علاقتهما ، لتجمعهم أجنحة الإيمان بقضية عالم يعاني من أزمة شاملة ، ويقاسي من الجوع الروحي ، ويفتقد إلى مثل أعلى للأخوة الإنسانية .

وإذا كانت فكرة هذا البحث ومرافعته صحيحة ، فإن البدء من المعرفي ، سيمكننا من الإمساك بحقيقة علاقات العالمين ، وصنع بناء جديد لها ، حتى نخرج من تيه المداخل الشعبوية الدينية السياسية الاقتصادية المصلحية التي لم تزد هذه العلاقات إلا تباعداً ، وأن نستعين بجميع قنوات الاتصال الممكنة من : كلمة وصورة ومقابلة ونشاط مشترك يسهم في جسر الهوة بين العالمين ، ليختفي الكره المتقابل ، والتقاؤهما معاً على أرضية ثابتة ، تمحو كل نقاط الظلام في تاريخهما المشترك الطويل والمستمر إلى يوم الدين .

[1] سورة البقرة : 190 .

[2] انظر في موضوعات الفقه الخاص بأهل الذمة : ابن قيم الجوزية ، شمس الدين محمد بن أبي بكر . أحكام أهل الذمة . ط 1 . القاهرة : دار الحديث ، 2003م .

[3] المادة 2 من العهد الدولي ، على الرابط : https://www.arij.org/files/arijadmin/international_conventions/cescr_arabic.pdf