كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ !
ديسمبر 11, 2019الأمة الوسط وشهادتها على الناس
مارس 1, 2020الإنسان المعاصر بين الجد والهزل
بالرغم من أن إنسان اليوم يبلغ إلى أقصى درجات الحضارة ومراحل ” الجديدية ” في معظم جوانب الحياة الفردية والجماعية ، ولكنه لم ينس عهده القديم الذي عاشه في جميع مرافق الحياة ، حيث كان يتعايش في الوحدات الأسرية الغنية عن التزامات حضارية اصطناعية ، وكان ذا معرفة كاملة بالحقوق والواجبات التي تعود عليه من خلال الفضائل الإنسانية ، يعيش في كل مكان بتمثيل النواحي الإنسانية في البيت والمجتمع ، وأداء حقه في الروابط البشرية المقدسة التي كانت تتمثل في التعاون على البر والتقوى ، والفرار من كل تعاون يغاير البر والتقوى .
أما إنسان اليوم فإنه يعيش تطورات هائلةً في جميع مجالات الحياة وأنماط الحضارات والتقنية ، كأن العلم الذي كان يراود النفوس قديماً عن كون العالم البشري حياً واحداً ، بحيث يتصل فيه كل شخص بالآخر من غير تريث أو انتظار ، فقد ظهرت فيه وسائل العلم والإعلام الجديدة التي تغلبت على الحدود الجغرافية والسياسية بكاملها ، فبإمكان كل إنسان أن يتصل بأي حيز جغرافي وسياسي في أي جزء من العالم من خلال الثورة الإعلامية التي تتخمض في القدرة التفاعلية لرسائل الإعلام والاتصالات التكنالوجية التي جمع العالم كله ، وقرّب كل بعيد لم يكن في وسع الإنسان في الأزمنة الماضية ولا يعرفه من غير أن يتحمل المشاق التي قد يعجز العقل عن تصورها فضلاً عن تحملها ، ولكنه يستطيع اليوم بفضل الإعلام التقني أن يسمع دقات قلب أي شخص ، يريد أن يتصل به ويتفاعل معه ، وقديماً قال الشاعر عن دقات القلب :
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
تذاوبت الفواصل وتقاربت المسافات البعيدة ، وأصبح كل شخص بمتناول شخص آخر ، وصارت القارات تتنفس بنفس واحد ، لكن القلوب فإنها انجمدت كأنها لم تعد المحرك الرئيسي لضخ الدم إلى جميع أجزاء الجسم ، فقد ترى في المدن العالمية الكبرى أن الساكنين في بلاط واحد لا يتعارفون فيما بينهم ، فالذي يسكن في الطابق الأرضي لا يعرف الذي يسكن فوقه في الطابق الذي يليه أو يدخل فيه من بوابة واحدة ، هكذا يعيش العالم المتمدن الحضاري اليوم بجميع أبعاده السياسية والاجتماعية والحضارية ، فرغم أن العالم من أقصاه إلى أقصاه أصبح حياً واحداً وأسرةً متكاملةً ، ولكنه يعيش في غربة لا مثيل لها في تاريخ البشر قديماً ، إلا أن الخلق الآخرين غير أفضل الخلق لم يتأثروا بهذه الغربة وبهذه الأثرة الحضارية كما قد شهد بذلك ربنا سبحانه وتعالى خالق الإنسان والأنعام ، فقال : ( أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ ) .
وقد كان الإنسان في الحضارات والديانات القديمة يعيش في حرمان من الحب الإنساني النابع من القلب ، ومن نعمة الأخوة الصادقة التي تنبع من سويداء القلب ، بل الواقع أنه كان يعيش الحزازات والعداوات ، رغم اتصاله الحضاري والديني ، فقد كان الملائكة المقربون أحسوا بهذا التباعد النفسي ونزعات الفساد وسفك الدماء فيما بين بني البشر ، وأظهروا مخاوفهم أمام رب العالمين ، حينما أخبرهم بأنه جاعل في الأرض خليفةً ، فكان ردهم من غير تأخير : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) ، لأنهم كانوا في خفاء عن الحكمة التي أرادها الله تعالى ، فقال : ( إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) ، فكان نزول آدم عليه السلام إلى الأرض مبعث وجود أبناء آدم عليه السلام في الأرض وزيادة نسل بني آدم واتساعه فيها ، ثم امتحانهم بطريق الأعمال الصالحة التي ترضي الله تعالى ، أو الأعمال السيئة التي لن يرضاها أبداً ، وبتعبير آخر بالطاعة والمعصية وبالإيمان والكفر ( فَمَن تَبِعَ هُدَاى فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .
ومن ثَم يتوزع العالم البشري على نوعين اثنين أو طائفتين متوازيتين ، بين متبعي الهدي السماوي ومكذبي آيات الله والكافرين بنعمه ، ولم يكن التطور الحضاري أو التقدمات الصناعية والحضارية مانعةً عن معرفة طرق الهداية ، والمعاصي والتمييز بينهما ، وما هذا الرقي العلمي والتطورات التقنية والتقدمات الهائلة والاختراعات المدنية إلا من رحمة الله تعالى على الإنسان بالإيمان وبالتوفيق الغالي الذي أُكرم به ، وذلك لكي يتعرف بأن هذا العالم البشري ليس إلا من قدرته الخارقة ، وفوق كل ذلك خلق السماوات والأرض الذي هو أكبر من خلق هذا الجنس البشري ( لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) .
أما في عصرنا المعاش فقد اختلفت المقاييس ، وتوزع الناس حسب رغباتهم وأهوائهم بين طوائف كثيرة وجماعات متباينة ، فمنهم من يرى أن الناس في العصور المنصرمة لم يكونوا يتطلعون إلى منافذ الحرية المطلقة باسم التطور الحضاري والتقني حيث ينطلق المرء إلى أي عمل غير طبيعي بحجة أن ذلك حق طبيعي للإنسان الذي جاء إلى هذا العالم لكي يطوره من جميع النواحي دون تقيد بالشرائع المزعومة والديانات البائدة التي كانت تغل الإنسان بأغلال من قوانين مصطنعة تفرضها على المجتمع البشري ، وتخضعه أمام رغبات تقليدية عرفها الناس من المجتمعات الإنسانية الأمية العائشة في ظلمات بعضها فوق بعض ، وبذلك عمت اتجاهات التحرر النفسي والجنسي في العمران وحتى في الأرياف والقرى تأثر الناس بهذه الحريات المطلقة والانتكاسات الفطرية ، وضعفت صلتهم بخالق هذا الكون ، فهم بأمس حاجة إلى التزكية وتعليم الكتاب والحكمة وإخراجهم من ضلال مبين ، كما كان الجاهليون مفتقرين إلى ذلك ، وإخراجهم من ظلمات الجهل والخرافة إلى جو واسع من العلم والحكمة ، وكان قد تم ذلك على أوسع نطاق منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم الذي ختم الله سبحانه النبوة بطريقه ، ولم تعد هناك أي حاجة إلى أي بعثة أخرى إلى يوم الدين ، وقد تكامل الدين وتمت النعمة ، وغشى العالم البشري نور السلم والسلام ، وأعلن الله تعالى مدوياً مجهراً : ( ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأِسْلاَمَ دِيناً ) .
ولكنه لم يعجب المتمردين على الطاعة والمنساقين في أمواج الردة من شياطين الجن والإنس هذا الإكمال الرباني وإتمام نعمته فقاموا بمحاربتها ، ورفعوا علم الثورة والعصيان مرفرفاً ضد هذه النعمة العظيمة ، ولم يكتفوا بذلك ولكن توسع غيهم وزادوا في اتباع النفس والشهوات بخطى حثيثة ، واخترعوا لتمثيل هذه الثورة المنتنة أساليب جديدة للشياطين ورؤساء البغي والفساد ، وساروا معهم بكل قوة وإعدادات غير مرضية لدى الفطرة الإنسانية السليمة ، وقد تم لتحقيق هذا الغرض المشبوه في الآونة الأخيرة أنواع وألوان من وسائل الإعلام ، واستُخدمت في الإيجابيات والسلبيات غير المرضية بغاية من السخاء حتى أصبحت وسيلةً للفساد والدمار وذريعةً للتجسيس والتخريب في المجتمعات الإنسانية ، سيّما الجاليات الإسلامية التي تعيش في الدول المسلمة والبلدان الغربية تقع فريسة المؤامرات الإعلامية ، ولنأخذ مثلاً الشباب المسلم الذي تعوّد استخدام الوسائل الإعلامية من غير هدف بناء ، إنما للتلاعب بواسطتها مع كل رخيص وغال ، وأحياناً يستعملونها في الجرائم الإنسانية الإعلامية ويستهدفون سلامة الوجود فيهدمون مآثر التاريخ ويشوهون ما قد بناه المسلمون من شرف الإنسانية العظيم وإنقاذه من تلوثات الوثنيات بأنواعها التي كانت قد أصبحت رمز الحضارة المزعومة ، والتطور العلمي والثقافي الذي لا شأن له مع الطبيعة التي تميز بها الإنسان ، وقد شُغل بهذا الوسائل الهدامة شبابنا الأبرياء حتى غاصت بهم قاذورات الجرائم المنوعة إلى الأعماق ، بحيث أصبح من المستحيل الخروج منها بسهولة وسلامة .
لا يكتفي الشباب وخاصةً الشباب المسلم باستخدام هذه الوسائل الإعلامية كوسيلة سهلة لتلقي المعلومات العلمية والتقنية ، والاستفادة منها في الاطلاع على ما يحدث في العالم من أحوال وأنباء ، وأحداث وظروف ، وما يتطرق إلى المجتمعات المعاصرة من أفكار وآراء ومن تغيرات في أساليب الحياة ، بل الواقع أنهم يتلاعبون بها ويرون من خلال التكنولوجيات الجديدة والتقليدية مناظر ومآسي حافلةً بالوقاحة التي تنكس رأس العالم البشري المنزه ، وذلك بواسطة الكمبيوتر كآلة رئيسية تلعب دوراً بارزاً في بث مادة الإعلام الجديد بأنواعها الكثيرة والمتعددة ، الهدامة والبناءة ، وذلك ما لا يخفى فساده المنظور المعلوم أكثر من نفعيته في عالمنا الحديث .
ولنذكر الآن بالمناسبة الحديث الشريف الذي قال فيه رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم : ” بادروا بالأعمال الصالحة ، فستكون فتن كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ، يبيع دينه بعرض من الدنيا ” .
والله ( ورسوله صلى الله عليه وسلم ) يقول الحق ، وهو يهدي السبيل .
سعيد الأعظمي الندوي