الإمام الأعظم أبو حنيفة ومكانته في علم الحديث
أبريل 20, 202248/ سنةً في ظلال تربية الإمام العلامة أبي الحسن الندوي ( الحلقة الرابعة )
يونيو 3, 2022في مسيرة الحياة :
48/ سنةً
في ظلال تربية الإمام العلامة أبي الحسن الندوي
( الحلقة الثالثة )
بقلم : سعيد الأعظمي الندوي
تعريب : الأخ معصوم علي الندوي
إنشاء مجلة البعث الإسلامي الشهرية :
ليس من السهل إصدار مجلة شهرية وإكمال ترتيباتها الأولية ، خاصةً في زمن لم تكن التسهيلات المطبعية متوافرةً كما ينبغي ، ولم تكن الأمور تسير على ما يرام ، بل كانت هناك ألوان وأنواع من العقبات والعراقيل تكاد تثبط الهمم ، فاستغرق إصدار المجلة شهوراً للحصول على موافقاتها الرسمية ، وكنا مطمئنين عن المواد المنشورة في أول عددها ، ولكن مرحلة الكتابة والطباعة كانت صعبةً ، فلم يكن هناك بد من كتابة المجلة باليد وطباعتها على طابع ” ليثو ” ، وبعد تفكير وبحث تم اختيار أحد الكاتبين المقرئ عبد العليم كاتباً للمجلة ، وكان ماهراً في الكتابة العربية ، فتحمل مسئولية الكتابة بكل سرور ، وفي البداية وافقنا على إصدار مجلة حوالي 32 صفحة فقط ، وتم جمع المقالات وتسليمها إلى الكاتب في أغسطس 1955م ، وبدأ كتابتها بآلة الطباعة ، وافق جميع أعضاء المنتدى على الأستاذ محمد الحسني رئيس التحرير للمجلة ، وتكونت إدارة التحرير من الأستاذ محمد راشد الندوي والدكتورمحمد اجتباء الحسيني الندوي ( رحمهما الله تعالى ) وكاتب هذه السطور ، ولكن قبل صدور المجلة سافر الأستاذ محمد راشد الندوي إلى جامعة دمشق للدراسة العالية في كلية الشريعة ، وبقيت أنا والدكتور محمد اجتباء الحسيني الندوي في إدارة التحرير ، ثم سافر الدكتور محمد اجتباء الحسيني إلى جامعة دمشق ، وبقيت أنا وحدي في إدارة التحرير ثم انتُخبت مدير التحرير للمجلة .
في الأسبوع الأخير من سبتمبر 1955م صدر العدد الأول للمجلة على اثنتين وثلاثين صفحة ، وظهر أمام الناس في غرة شهر أكتوبر ، وأصبح لها أكثر من 50 مشتركاً نظراً إلى الإعلانات والإذاعات ، والحقيقة أن إصدار مجلة عربية ذات أصالة وقيمة في بلاد لم تستأنس بعد بالصحافة العربية لم يكن سهلاً ميسوراً آنذاك ، وكان هذا العمل خطوةً جريئةً ، ويعود الفضل في هذا الطموح والعصامية أولاً إلى صديقي الراحل الأستاذ السيد محمد الحسني رحمه الله الذي وضع هذه المهمة نصب عينيه ، ونكب عن ذكر العواقب جانباً ، وشجّعني كذلك عزمه وتصميمه للعمل ، أتذكر أنني ما تساهلت في أي مرحلة من مراحل الإعداد والكتابة والطباعة ، وبقيت معه كل لحظة جنباً إلى جنب ، ولم أدخر دقيقةً واحدةً في التعاون والمساعدة معه ، فكان يحبني كثيراً وبقيت معه منذ أول لقائه كزميل في العمل ، ثم كصديق مخلص إلى آخر حياته ، ورغم هذه الزمالة الطويلة لم يحدث حدث يؤثر على علاقاتنا الأخوية ، أو يجعلنا في حرج وضيق حتى ينقطع حبل المودة بيني وبينه .
رحلة إلى دهلي ، وبعض مناطق أترابراديش الغربية :
وتقرر بعد ذلك أن نقوم بتعريف هذه المجلة إلى الأوساط العلمية والأدبية والأقسام الدينية واللغوية في الجامعات الكبرى والمكتبات العلمية وأساتذة اللغة العربية والأدب العربي في الهند ، وتحقيقاً لهذا الغرض وضعنا برنامجاً لرحلة إلى الجزء الغربي لولاية أترابراديش ، ولا سيما مدينة دلهي التي تضم عدداً من الجامعات الكبرى والمدارس الدينية .
وبناءً على ذلك قمت أنا والأخ الحبيب الأثير الأستاذ السيد محمد الحسني رحمه الله بهذه الجولة ، وكانت جولةً تجريبيةً ، وما كنا نعرف نجادها ووهادها ، وبدأ السفر من لكناؤ مروراً بكانفور ، ثم وصلنا إلى آكره ، والتقينا من بعض الأحبة ، وقمنا بتعريف المجلة وتوفير المشتركين لها، وزرنا التاج محل والقلعة الحمراء بعد ذلك ، وقد كانا مهوى القلوب والأبصار لأول مرة ، وكان كلاهما حديث الشوق عندنا منذ الطفولة . ولقد رأيناهما بأم عيوننا اليوم ، ولما رآه الأستاذ محمد الحسني لم يملك نفسه عن قراءة البيت الشهير بالفارسية مراراً وتكراراً :
اے تماشہ گاہ عالم روئے تو توکجا بہر تماشا می روی
( يا مشهد العالم ومهوى القلوب والأبصار ! ويا مراد العاشقين ! عمن تبحث أنت ؟ )
وبدءاً من كانفور إلى إتاوه ثم جامعة عليكراه حيث قضينا وقتاً لا بأس به في اللقاءات بالأساتذة وخاصةً أساتذة القسم العربي بالجامعة ، والتقينا بعض الأساتذة العرب والأستاذ محمد المأمون من دمشق ( أستاذ الأدب العربي في القسم العربي لجامعة عليكراه الإسلامية في الهند ) وتكلمنا معه وقدمنا إليه العدد الأول لهذه المجلة ، فكان في غاية السرور ولم يبخل بتقديم التهاني إلينا نحو هذا العمل الصحافي ، وطلب منا الاشتراك في المجلة فسجلنا عنوانه .
أقمنا ثلاثة أيام في عليكراه ثم مضينا إلى دلهي ، واستضافنا الأستاذ السيد محمد واضح رشيد الحسني الندوي ، وكان مذيعاً ومترجماً في القسم العربي لإذاعة عموم الهند ( All India Radio ) آنذاك ، وكانت هذه فترة إقامته الابتدائية هناك ، وكثر انتشار المجلة في دلهي ، وأحبها الإخوة الدارسون للغة العربية ، ودعموها بالاشتراك السنوي في الجامعة الملية الإسلامية وغيرها من الجامعات الرسمية والمدارس الإسلامية هناك ، ثم ذهبنا إلى الجامعة الإسلامية ديوبند ، وأقمنا في منزل شيخ الإسلام السيد حسين أحمد المدني ( رحمه الله ) ، وأقمنا عدة أيام هناك مع الأساتذة والطلاب وغيرهم ، ولم يكن هناك اهتمام كبير بالأدب والصحافة العربية في تلك الأيام ، وكان هناك طالب إفريقي اسمه إسماعيل الإفريقي ، أنشأ بمفرده جمعيةً باسم ” النهضة الأدبية ” للطلاب الإفريقيين والأجانب ، ويسكن مع رفاقه في منزل في المدينة خارج دار العلوم ، ومن هناك يواصل نشاطاته الأدبية ، وكان يصدر مجلةً جداريةً باسم ” اليقظة ” في أيام دراسته ، فاستقبل مجلتنا استقبالاً حاراً ، واشتراها هو وعدد من الطلاب الآخرين بتأييده ، وساعدنا في هذه الرحلة الأستاذ عبد الله السورتي الكافودري ، وكان طالباً في دار العلوم ، وأصبح فيما بعدُ مديراً لجامعة فلاح الدارين في غجرات ( رحمه الله تعالى ) .
كان للأستاذ محمد الحسني صديق اسمه محمد سالم الهنسوي ، وكان يدرس في دار العلوم بديوبند ، فلم يدخر وسعاً في إسعافنا وإراحتنا ، وسهل لنا الأمور ورتب اللقاءات والزيارات مع المشايخ والأساتذة ، وظل رفيقاً لنا إلى مدينة رامفور ، وهكذا اتسع نطاق الاتصال بالشخصيات البارزة ممن اطلعوا لأول مرة على هذا العدد الأول من المجلة ، فأشادوا به وقاموا بالثناء على هذا العمل المخلص ، وانتهت هذه الرحلة بعد أسبوعين مروراً بدار العلوم ديوبند وسهارنفور ومدارس روركي ، ومراد آباد ورامفور ، وكان النجاح بفضل الله تعالى حليفنا في هذا السفر الميمون ، وما نزلنا منزلاً ولا قطعنا وادياً إلا واستقبلنا الأحبة المخلصون في كل مكان برحابة الصدر وسعة القلب ، وكان إصدار مجلة عربية في هذه البلاد أمراً جديداً بالنسبة إلى الناس ، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها نشر مجلة شهرية عربية في الهند بعد مجلة الضياء ، ولقيت إشادةً وقبولاً من كل الجهات ، وقد أفادنا الأستاذ الجليل السيد محمد الرابع الحسني الندوي كثيراً بنصائحه الغالية ومشوراته المخلصة ، وكان منذ بدء الشباب صائب الرأي ، سديد الفهم ، بالغ الذكاء ، ( حفظه الله وأطال بقاءه ) .
وبعد عودتنا من هذه الرحلة ازدادت اللقاءات مع الأستاذ محمد الحسني ، وكان اجتماعنا كل يوم في المساء لازماً ، وهو يتعلق بالتشاور وأداء مسؤوليات المجلة ، ولا بد من الذكر بهذه المناسبة أن مجلة البعث الإسلامي كانت في ملكية الشيخ محمد الحسني في البداية ، وكانت صلتها بندوة العلماء فخريةً ، وانتسبت بندوة العلماء عام 1961م ، وكان مكتب المجلة في منزله على شارع غوين بلكناؤ ، وصدرت منها إلى مدة سنة ونصف ، ثم انتقل إلى مبنى دار العلوم ، وسمحت ندوة العلماء بتأسيس مطبعة عربية ، وتمت لوازم المطبعة ، وبدأت تعمل ، لكن لم يكن عندنا كاتب للعربية ، وبعد بحث طويل وجدنا كاتباً بالأردية ، اسمه عبد اللطيف خان ، ولكن بسبب عدم معرفته باللغة العربية ، لم يكن مفيداً لنا بالقدر الذي كنا نحتاج إليه . وكنت أنا والشيخ محمد الحسني نقف معه ساعات ونساعده ، ونملي عليه حرفاً حرفاً ، وكان الكاتب يلتقط الحروف ويجمعها وفقاً لما نقول . ولكن الكتابة بهذا النمط كانت أمراً صعباً للغاية . واستمرت هذه العملية لفترة طويلة . وقد جرت محاولات أيضاً لتعليم الكتابة العربية على طابع ليثو ، حيث مارسها رجل نبيل إلى حد كبير وأثبت أنه يساعدنا ، ولكن سرعان ما فارقنا . وعندما انتقلت المطبعة في مبنى دار العلوم حاولنا تعليم بعض الطلاب الكتابة ، ولكن لم يأت هذا السعي بنتائج سارة ، وكان عبد اللطيف خان هو الذي يكتب لنا بصعوبة ، ونصدر كل شهر مجلةً محتويةً على 32 صفحة ، وبما أن هذا العمل كان يستغرق وقتاً طويلاً ، ولم نقدر على كتابة المجلة إلا بعد عناء طويل ، فاستجمعنا طاقاتنا العملية ورتبنا ترتيبات جديدةً واعتزمنا بضبط الوقت ونجحنا في ذلك الأمر ، ولا تزال تصدر المجلة على موعدها إلى يومنا هذا ، والحمد لله أولاً وآخراً .
وفي سنة 1962م عندما كانت المطبعة في دار العلوم ، ولم يكن مكتب البعث الإسلامي بالخارج ، سعينا أن يتعلم بعض العمال الكتابة ، وكانت التجربة ناجحةً ، فقد مارس الأخ أنوار أحمد من مديرية مئو ممارسةً جيدةً ، وانـضم إلى مطبعتنا كموظف مستقل ، فسهل به الأمر ، حتى بدأنا نفكر في زيادة الصفحات للمجلة ، فأصبحت 40 صفحةً ، ثم 60 صفحةً ثم 80 ثم 100 صفحةً ، ودامت على ذلك إلى يومنا هذا ، ولله الحمد والمنة .
وكانت للراحل الكريم الأستاذ محمد الحسني توجيهات خاصة وآراء سديدة ، وكان من حسن ظنه بي وشرف نفسه أنه وثق بي تماماً ، واعتبرني مسؤولاً كاملاً ، فأنفدت أوقاتي وجميع طاقاتي في هذا الأمر ، كما بدأنا طباعة بعض مؤلفات وكتيبات شيخنا الإمام السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي ، فطبع في عام 1963م كتاب مهم باسم ” موقف العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية ” ، وكان الدافع الرئيسي من وراء كتابته هو أنني طلبت منه كتابة مقال جديد وحديث للبعث الإسلامي . فوافق شيخنا على الطلب وبدأ كتابة المقال ، ولكن الموضوع كان مهماً جداً فأصبح كتاباً كاملاً بدلاً من المقال القصير ، ثم طُبع على الفور نظراً لأهميته ، ونفس الكتاب نُشر باسم ” الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية ” من بيروت ، وأصبح ذائع الصيت في العالم الإسلامي .
مع تطور المجلة وتنوعها ، توسعت المطبعة أيضاً ، حيث بدأت تتم طباعة ونشر العديد من الكتب ، خاصةً طبع بعض الكتب المهمة للشيخ المحدث محمد زكريا الكاندهلوي رحمه الله ، منها : ” مقدمة أوجز المسالك ” ، و ” تراجم البخاري ، ولامع الدراري ” ، و ” بذل المجهود إلى ستة مجلدات ” ، وعدة رسائل أمثال : ” فضائل القرآن ” ، و ” فضائل الصلاة ” ، و ” فضائل التبليغ والدعوة ” ، و ” أسباب سعادة المسلمين وشقائهم ” ، وكتاب ” الكوكب الدري ” ، و ” عمرات النبي صلى الله عليه وسلم ” لشيخنا الكاندهلوي ( رحمه الله تعالى ) .
أقامت مجلة البعث الإسلامي بيننا رباط الأخوة الإسلامية ، وأصبحت علاقاتنا متينةً حيث يترقب كل واحد منا الآخر ، وينتظره للتحدث والتشاور معه في إعداد المجلة ، وأصبحت علاقتنا الصادقة حديث النوادي . وضرب الناس لها مثلاً ، والذين انتقدوا في البداية أصبحوا مقتنعين بعد ذلك أيضاً ، وكان من تأثير هذا الحب الصادق والعلاقة الأخوية أننا لا نتناقش في الأمور العلمية والإدارية فحسب ، بل في سائر أمور الحياة ، وما نحسبه ضرورياً ، وقد تعزز كل فرد من خلال نصائح الآخر بشكل كبير .
رحلتي إل العراق :
أمرني أستاذي سماحة الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي للقيام برحلة تعليمية إلى العراق في بداية العام 1958م ، وأرسلني إلى الشيخ الأديب محمد تقي الدين الهلالي المراكشي للاستفادة في الأدب العربي والنحو والصرف والبلاغة في بغداد ، حيث كان أستاذاً في كلية تدريب المعلمين في جامعة بغداد . فأقمت عنده أحد عشر شهراً ، واستفدت خلال هذه المدة كثيراً واستزدت في ثقافتي العلمية ، وكانت حركة الإخوان المسلمين محظورةً أيضاً هناك ، وكان أعضاؤها قد أقاموا مركزاً باسم جمعية إنقاذ فلسطين ، وإليكم بعض تفاصيل هذه الرحلة :
بشائر الرحلة العلمية :
لا أكاد أنسى ذلك اليوم الميمون في حياتي الندوية التي بشرني فيه أستاذي الكبير سماحة الشيخ العلامة السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي بأنه قرر رحلةً علميةً خاصةً بي ، ذلك أن يبعثني للاستفادة العلمية والأدبية إلى أستاذ العربية الكبير العلامة محمد تقي الدين الهلالي المراكشي الذي يُعتبر علماً شامخاً في النحو والبلاغة واللغة والأدب ، ويتعذر نظيره في العواصم العربية إذ ليس له اليوم صنو في تذوق اللغة العربية والالتزام بالأسلوب الأدبي والتعبير العربي الخالص ، مع التحاشي من الأساليب الدخيلة والتعابير الركيكة التي راجت بين الأوساط الأدبية والصحفية المعاصرة في البلاد العربية من غير تحفظ أو تدبر .
إعدادات في سبيل العلم :
كان ذلك في أحد أيام الأشهر الأخيرة من عام 1376هـ الموافق 1957م ، وكنت إذ ذاك مدرساً للغة العربية والأدب في دار العلوم ندوة العلماء ، ومن ساعته أملي على سماحة الشيخ الندوي كتاباً باللغة العربية إلى العلامة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي الذي كان أستاذ العلوم الإسلامية في كلية التربية بجامعة بغداد ، طلب فيه موافقته على قراره حول بعثتي إليه للاستفادة العلمية والأدبية ، وقد اهتزت جوانحي بالفرح والسرور وأسرعت لكي أرسل إليه الكتاب بالبريد الجوي المسجل ، وبعد أسبوعين أو ثلاثة جاء منه الرد بالموافقة على الموضوع ، ورحب فيه بهذا القرار ، ولكنه اعتذر من تحمل أي مسؤولية من السكن والطعام للطالب الجديد ، جاء في كتابه :
” يسرني أن يأتي إلي سعيد الأعظمي ، ويدرس عندي ما يقدر الله له من العربية والنحو ، وبودي أن أقوم نحوه بواجب السكنى والطعام ، ولكن ……. ”
بغداد ، نهاية المطاف :
ومع نهاية العام الدراسي لفترة 1376 – 1377هـ سافرت في شعبان إلى بغداد عن طريق البصرة بحراً ، ومنها بالقطار إلى بغداد حيث استقبلني صديقي صالح مهدي السامرائي في محطة القطار ، وأقمت معه في غرفة في مقر جمعية إنقاذ فلسطين التي كان رئيسها فضيلة الشيخ الداعية الإسلامي الكبير محمد محمود الصواف ، وقد حملت إليه من سماحة أستاذي الشيخ الندوي رسالةً يطلب فيها بالسماح لي بالنزول في الجمعية طوال فترة الاستفادة والإقامة هناك ، ورحب بي فضيلة الشيخ الصواف واهتم بي أكثر مما أتوقع ، نظراً إلى الروابط التي كانت بينه وسماحة الشيخ الندوي .
أول تحية إلى العلامة الهلالي :
وحضرت مع الدكتور السامرائي وهو في غرفة أساتذة الكلية بجامعة بغداد ، فسلمت عليه وعرفته نفسي ، وكان كفيفاً لا يبصر ، وقدمت له رسالة سماحة الشيخ الندوي ، ففرح بذلك وأمرني بالقراءة ، وأرشدني خلال قراءتي لها إلى بعض التصويبات الإعرابية وتصحيح النطق ، وهنالك علمت أنه يتمتع بمنصب عال في اللغة العربية ، ولما أنهيت من قراءتي خاطبني قائلاً :
” إنك تأتي من الهند تريد أن تستفيد علماً وتستزيد جوانب جديدة في اللغة والإعراب ، دون أن تهمك شهادة أو درجة علمية اصطلح عليه الناس ، ولكن طلابنا الآن لا يريدون من دراستهم إلا أن يعطوا شهادةً ولو كانت مزورةً كاذبة ” .
وبعد ما قضيت وقتاً قليلاً عنده حان موعد حضوره في أحد الفصول الدراسية ، فودعني وقال لي : غداً تأتي إلى منزلي ، وسنتفق على برنامج مناسب لدراستك ، إن شاء الله ” .
المجال الرئيسي للاستفادة :
كان المجال الرئيسي الذي توخيت للاستفادة فيه من العلامة الهلالي هو مجال النحو والعربية والأدب العربي ، فقد كان للأستاذ الهلالي باع طويل في العلوم كلها إلا أنه كان يُعرف في المجتمع الجامعي والبيئة العلمية هناك بعلو كعبه في علوم السنة ، وكان قد جمع بين حفظ متون الحديث وكتاب الله تعالى مع اطلاعه الواسع على المسائل الفقهية والدينية ، وأقوال الائمة وتصلبه في العقائد ، واستنباطه لما هو أقرب إلى الكتاب والسنة ، ولذلك فإن جامعة بغداد طلبت منه إلقاء محاضرات في كلية تدريب المعلمين حول المواد الدينية مما يتعلق بالتفسير وشرح الأحاديث والفقه الإسلامي ، ولكنه كان ينتهز الفرصة خلال إلقائه هذه المحاضرات أمام طلابه لشرح المسائل النحوية والاستشهاد بكلام فحول من شعراء العرب ، وإعراب العبارات الغامضة بحيث يتضح المعنى ، وينحل اللغز .
برنامج دراسي للاستفادة العلمية :
وكم كنت سعيد الحظ بما قد تكرم به أستاذنا الهلالي من وضع برنامج لي تتيسر به الاستفادة منه في مجال العربية والأدب والتعبير والإعراب ، وخاصةً بعد ما رأى حرصي على ملازمتي إياه وانتهازي لهذه الفرصة التي أتاحها الله لي عنده ، ولقد قرر لي كتاباً في النحو وهو شرح شذور الذهب لابن هشام أقرؤه عليه بشيئ من التحقيق واستعراض مسائل الإعراب من كل باب ، والتفهم لوجوه وفروق ومعاني النحو التي لها دور كبير في بلاغة الكلام وتذوق اللغة وصحة التعبير ، وكتاب آخر في الشعر العربي إذ وقع اختياره على ديوان الحماسة الذي يعتبر من أحسن دواوين الشعر العربي وأجمعها لأصناف الشعر وأبوابه .
وذلك عدا الاستفادات المنوعة التي كنت أحظى بها مع ملازمتي إياه طوال وقت عمله ، فقد كنت أذهب معه إلى الجامعة ، وأحضر معه في كل حصة دراسية كان يدرس فيها درساً من الحديث والتفسير ، ويلقي فيها محاضرات حول مختلف المواضيع من العربية واللغة والإعراب ، وكنت لا أفارقه حتى يأذن لي بالعودة إلى مقري أو يشتغل هو بنفسه أو بأمور خاصة لا شأن لي بها .
كنت أعيش في جو ديني صالح مع إخوة في الدين في مقر جمعية إنقاذ فلسطين ، وكان في موقع جميل وعلى باب المعظم من بغداد ، وكنت أقضي كل أوقاتي بعد العودة من الدراسة في نشاطات دينية لا يخلو منها يوم في هذا المركز الديني ، مع جماعة من الإخوة المحبين ممن كانوا يكرمونني ويعطفون علي بحبهم ويرون في أخاً عزيزاً جاء إليهم من الهند لغرض علمي وديني فحسب ، ولقد كان كثير منهم يعرفونني من خلال كتاباتي في مجلة البعث الإسلامي ، وبصفتي مدير تحرير لها آنذاك .
ورغماً من تعارفي إلى هؤلاء الإخوة في الدين وقضاء لحظات طيبة في مجالسهم واجتماعاتهم ونشاطاتهم الدعوية كنت أترقب بصبر نافد كل مساء صباح النهار القادم الجديد الذي أتوجه فيه على جناح شوق نحو محلة ” الأعظمية ” حيث كان يسكن أستاذي الجليل الدكتور محمد تقي الدين الهلالي ، وألازمه مع لحظة حضوري لديه إلى ما شاء الله أن أبقى معه .
فكنت أرافقه إلى الجامعة إذا كانت له هناك محاضرات صباحية ، وبعد العودة منها كنت أتابع دروسي أمامه في منزله وأقرأ له ما كان يأمرني بقراءته من كتب المراجع أو الكتب الجديدة التي كانت تأتي إليه هدية من مختلف الجهات والمكتبات ، وأحيانا كان يطلب مني قراءة المجلات والجرائد التي كانت ترد إليه بالبريد ، وخاصةً مجلة ” دعوة الحق ” التي طالما تضمنت بحوثه العلمية ومقالاته الأدبية المفيدة ، وبعدئذ كنت أستاذنه للعودة ، وذلك في الأغلب بعد ظهر كل يوم .
كتب أخرى للمطالعة الخاصة :
وقد وضع لي الأستاذ الجليل قائمةً من الكتب لكي أدرسها وأستفيد منها بمطالعتي الخاصة ، منها شرح الألفية لابن عقيل العقيلي الهمداني الذي قال فيه أبو حيان قولته الشهيرة : ” ما تحت أديم السماء أنحى من ابن عقيل ” ، وشرح الألفية لأبي الحسن علي نور الدين بن محمد الأشموني المتوفى عام 900هـ ، وأسرار العربية لإمام العربية عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد الأنباري 513 – 577هـ ، وكان قد صدر الكتاب بتحقيق عالم الشام الكبير العلامة محمد بهجة البيطار ، وكذلك أشار على مطالعة كتاب الأمالي لأبي علي القالي ، والكامل للمبرد ، وخزانة الأدب للبغدادي ، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ .
أما في الشعر العربي فكان ديوان الحماسة لأبي تمام في الدرجة الأولى عنده ودواوين الشعر الأخرى للشعراء الجاهليين مع المعلقات السبع ، وللشعراء الإسلاميين ، كديوان حسان بن ثابت والفرزدق وجرير ، والشريف الرضي ، وكان يتناول المتنبي بالنقد اللاذع ويعتبره في طبقة عادية من الشعراء المتكسبين ، ولذلك كان كلامه خالياً في معظم الأحوال من الروح الفنية ومن العاطفة والوجدان ، وطالما يتضمن ألحاناً لغويةً وإعرابيةً لا يخفى على أهل العلم والبصيرة والنقد .
طلبت إليه أن يوجهني في شأن الكتابة والتعبير العربي ، فقبل ذلك وأمرني بالكتابة حول موضوعات تتعلق بالتراجم والرحلات وأحداث الحياة والمجتمع ، فكنت أكتب وأعرضها عليه ، فكان يتناولها بالإصلاح والإرشاد والتهذيب ، ويشير خلال ذلك إلى نقاط مهمة ذات فائدة عظيمة ، وإلى الأسلوب الصحيح للتعبير العربي الخالص مع الابتعاد عن التعبيرات الأجنبية التي دخلت في العربية عن طريق اللغة الفرنسية واللغة الإنجليزية .