عبد العزيز جاويش الشيخ الذي رفض منصب شيخ الإسلام
فبراير 7, 202248/ سنةً في ظلال تربية الإمام العلامة أبي الحسن الندوي ( الحلقة الثانية )
مارس 15, 2022في مسيرة الحياة :
48/ سنةً
في ظلال تربية الإمام العلامة أبي الحسن الندوي
بقلم : سعيد الأعظمي الندوي
تعريب : الأخ محمد معصوم علي الندوي
نبذة عن الطفولة :
أعتقد أن كل شخص يتمكن في ذهنه بعض الكلمات والذكريات عن طفولته ، وبعض الإشارات للأحداث التي وقعت في تلك الفترة . وما إن بلغتُ الفطام حتى أدركت أن أجواء بيتي مليئة بالعلم تحت رعاية والديّ وتربيتهما ، وكان والدي الشيخ محمد أيوب الأعظمي أستاذ الحديث الشريف ومديراً بجامعة مفتاح العلوم ببلدة مئو ، أما جدي فقد تجاوز السنّ وترك العمل في حيدر آباد ، وعاد من أنشطته التعليمية إلى وطنه ، وهو الذي ربَّاني في كنفه ، وكان شيخاً ومرشداً من المشايخ الربانيين ، وكان الناس يختلفون إليه مسترشدين فيرشدهم وينصح لهم ، واعتاد الناس الجلوس في فناء الحي حيث يأتي إليهم ويعظهم . وكنت أصاحبه – أحياناً ممسكاً إصبعه ، وأحياناً في حضنه – ، وكان أخوال والدي في الحي ، أزورهم مع جدي ، ولما تجاوزت الثانية من عمري بدأت أذهب مع والدي إلى مدرسته ، أتتلمذ أمام المدرس الذي وكلني والدي إليه ، ( سمعت من والدتي أنني كنت أحسن صحة من الأطفال الآخرين في صغر سني ، حتى بدأت المشي في سن تسعة أشهر ) ، يأخذني بعض طلاب المدرسة بعد انتهاء الدراسة إلى المنزل ، وكنت أقيم في بيتي تحت رعاية أخي الأكبر ونصائحه الغالية ، وهو الشيخ الطبيب المسمى بعزيز الرحمن ، فلم يَسمح لي بمغادرة المنزل بعد غروب الشمس ، وكان والدي يقول : لا تدعوا أولادكم يخرجون من البيت بعد المغرب ، لأن الشياطين تنتشر بعدها في الشوارع وتضلل الصبيان . وذلك عملاً بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم ، فإن الشياطين تنتشر حينئذ ، فإذا ذهبت ساعة من الليل فخلوهم ( رواه البخاري ومسلم ) .
في المدرسة الابتدائية :
كنت معتاداً للذهاب إلى المدرسة تدريجياً والجلوس أمام المعلم ، وعرض بعض الدروس وإسماعها إليه ، ولم تكن المدرسة بعيدةً من بيتي ، دخلت في الفصل الفارسي وقرأت فيها غولزار دبستان ، وبوستان ، وأخلاق محسني ، ويوسف زليخة ( الأبيات الفارسية ) ، وأكملت هذه الكتب – بعون الله – قبل المعتاد ، وبدأنا جميع الإخوة والأخوات إعادة الدروس كل يوم بعد صلاة المغرب ، والوالد رحمه الله كان يجلس بيننا مشرفاً ، يراقبنا ويصحح أخطاءنا ، فالأساتذة الذين استفدت منهم في المدرسة الابتدائية هم الشيخ حبيب الله ، والشيخ أسد الله ، والشيخ فدا علي ، والمقرئ عبد المنان والشيخ عبد الرشيد غفر الله لهم ورحمهم رحمةً واسعةً .
رحلة إلى دار العلوم ديوبند :
بدأت قراءة الكتب العربية تدريجياً وفقاً للمناهج الدراسية في المدرسة ، وكنت أصغر سناً من رفاقي ، وأكملت الابتدائية والمتوسطة هناك ، ثم عزمت على الذهاب إلى دار العلوم بديوبند ، فسافرت إليها مع الأصدقاء تحت رعاية العلامة الجليل الشيخ إبراهيم البلياوي ، وكان عدد من كبار زملائنا يدرسون هناك ، وقد دُعيت للاختبار في دار التفسير ، وحصلت على 45 رقماً من /50 ، وتمت إجراءات الالتحاق بكل سهولة ، وخصصت لي الغرفة في الرواق الجديد ، وكان من المقرر أن يأخذ الطالب طعامه من نوافذ المطبخ ، وكان الطلاب يخرجون للتنزه بعد العصر كل يوم ، وكانت إجراءات الالتحاق مستمرةً ، ولم تبتدئ الدراسة في الفصول بعد ، فبدأ تسويل الشيطان ، فأصبح القلب يشتاق إلى البيت كل حين ، وحب الوطن يخطر ببالي كل آن ، وبقيت أسبوعاً هناك ، ثم غادرت دار العلوم مع صديق لي بكل سرية ، وكنت في بدء 15/ عاماً آنذاك ، ووصلت إلى البيت ، فلامني جميع أعضاء الأسرة ، واشتهر هذا الخبر ، حتى ضاقت علي الأرض بما رحبت ، وخبأت نفسي لأيام أسفاً وحياءً ، ثم عين لي الوالد مدرساً لتدريس بعض الكتب في مدرسته ، والعام المقبل كان لتكميل كتب الحديث فشاركت دروس مشايخ الحديث لدى العلامة المحدث الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي والشيوخ الآخرين ، وأكملت هذه الكتب خلال 1950م – 51 ، والحمد لله على ما وفقنا إليه .
منعطف في الحياة وتعيين اتجاه صحيح :
جاءت اقتراحات حول مواصلة دراستي العالية ، منها دراسة الطب والأدب العربي وغيرهما . . . وقال البعض : دع عنك دراسة الأدب العربي والاشتغال به ، فإنه لا يعود بطائل في البلدان العجمية ، وتعلّم الأدب الأردي ، فإنه يفيدك مالاً ومنصباً ، وكان والدي مصراً على دراسة الأدب العربي ، وقال : فيه خير وبركة بإذن الله ، وسر للتقدم ، ولكن لم يستحسن الناس مقاله ، فاقترح والدي في سنة 1951م أن أشتغل بالمطالعة والاستزادة من الكتب العربية ، وقد عزم على إرسالي إلى دار العلوم لندوة العلماء ، واستشار في ذلك من الشيخ الكبير أبي المآثر المحدث الكبير حبيب الرحمن الأعظمي فاستحسنه ، وطلب منه والدي ( رحمه الله ) تدريسه إياي بعض الكتب العربية ، حتى أتمكن من الالتحاق بدار العلوم لندوة العلماء ، فأعطاني الأستاذ الأعظمي مؤلفاً أدبياً لعالم مصري ، وأمر بقراءته وترجمة بعض أجزائه ، وبدأت أذهب إليه للقراءة وعرض الترجمة أمامه ، وجلست خلال هذه الأيام في الامتحان الرسمي الحكومي ونجحت في جميع المواد سوى اللغة العربية التي رسبت فيها ، فأعددت لها إعداداً يليق بها ، ورجع الإمام الشيخ أبوالحسن علي الحسني الندوي ( رحمه الله ) من سفره للشرق الأوسط ، فكتب أبي إليه كتاباً ، وكتاباً آخر إلى الشيخ محمد منظور النعماني رحمه الله ، فأجابا بكلمات حافزة للهمم ، ويممت شطري إلى ندوة العلماء ، متزوداً بنصيحة والدي رحمه الله بحسن النية وصدق الطلب والصبر على الشدائد والتفاؤل بالخير .
التحاقي بدار العلوم لندوة العلماء :
بدأ هذا العام الدراسي الجديد ( 1952م ) ، وكنت في دار العلوم لندوة العلماء أكبر الجامعات الإسلامية وأشهرها ، وقد سعدت من قبل بقراءة الكتب الحديثية في مدرسة مفتاح العلوم بـ ” مئو ” أمام أساتذتها ، منهم المحدث الكبير الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي ، وجامع المعقولات والمنقولات الشيخ عبد اللطيف النعماني ، ووالدي الجليل الشيخ محمد أيوب ، والشيخ عبد الجبار الأعظمي ( رحمهم الله ) ، وتمت إجراءات اختبار القبول على أيدي ثلاثة من خيرة العلماء : الشيخ عبد الحفيظ البلياوي ، والشيخ عبد الله عباس الندوي ، والشيخ أبي العرفان الندوي ( برد الله ثراهم ) ، وبفضل الله وتوفيقه تم التحاقي في السنة الأولى للدراسات العليا في الأدب العربي .
بعض رفاقي في الصف :
كنت في رواق شبلي آنذاك في غرفة رقمها 13 ، وكان عدد الطلاب في كل غرفة لا يتجاوز أربعة طلاب ، وكان معي ثلاثة طلاب من نفس الصف : أحدهم الأخ مسيح الدين ( من ولاية بيهار ) ، وكان رئيس جمعية الإصلاح لهذا العام ، وكان طالباً مجداً ، شغوفاً بالمطالعة ، مساعداً للزملاء . وثانيهم السيد احتشام أحمد الذي شغل منصب رئيس قسم اللغة العربية في جامعة كاليكوت لفترة طويلة ، وكان مجتهداً ومحباً للعلم والتعلم ، فريداً في احترام الآخرين ورعاية حقوقهم ، ورفيقي الثالث السيد محمد أيوب الغوندوي ، الذي تم تعيينه كرئيس جمعية الإصلاح في السنة التالية ، إنه شغل التجارة بعد التخرج في مدينة بومبائ ، وقد أُصيب بمرض منذ سنوات ، وظل طريح الفراش ، وكان مغرماً بالأدب الأردي ، ضحوكاً مبتسماً ، مرهف الحس ، رقيق الشعور ، يسوده الشعور بالمسئولية دائماً ، متواضعاً ، يخلص في القول والعمل ، ونحن الأربعة كنا ممثلين للسنة الأولى من الأدب . كان هناك أربع عشرة غرفة في الرواق ، وفي كل غرفة 4 طلاب ، وهكذا يبلغ عددهم حوالي 65 طالباً ، أما الطلاب الأصغر سناً في دار العلوم ، فكانوا يسكنون في الجزء الشرقي من مبنى دار العلوم المركزي ، وكان اسمه الرواق الأصغرChoti Boarding . يسكن فيه تقريبا 20 – 25 طالباً ، وكانت هذه الدنيا الصغيرة لدار العلوم آنذاك .
بعض أساتذة دار العلوم :
كيف أنسى أولئك الأساتذة والمعلمين الذين علّموني وزودوني بالثقافة الإسلامية والعربية ، فكان منهم المفتي الأول لندوة العلماء الأستاذ محمد سعيد ، والأديب الأول الشيخ الأستاذ عبد الله عباس الندوي ، والشيخ عبد الحفيظ البلياوي أستاذ النحو والأدب بدار العلوم ، والشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي ، والشيخ أبو العرفان خان الندوي ( المشرف الأعلى في رواق شبلي ، وأستاذ التفسير والبلاغة والمعقولات ) ، وكان الأستاذ القاضي معين الندوي مشرفاً على الجانب الآخر من الرواق ، وأستاذاً بدار العلوم ، وكان منزل الأستاذ محمد سميع الصديقي أمام المسجد ، والجزء العلوي من مبنى دار العلوم يختص لمديرها الشيخ الحافظ محمد عمران خان الندوي الأزهري ، والشيخ المحدث الشاه حليم عطاء كان يسكن في الطابق الأرضي ، رحمهم الله جميعاً ، وأسكنهم فسيح جناته .
وكان المقرر الدراسي للسنة الأولى من الدراسات العليا من قسم الأدب يشتمل على عدة كتب منها : المفصل ، ومقامات بديع الزمان والحريري ، وتلخيص المفتاح ، وتاريخ الأدب العربي لأحمد حسن الزيات ، ورنات المثالث والمثاني في رواية الأغاني ، ونهج البلاغة ، وتيسير الوصول في الحديث ، وكان صفي في الطابق الثاني لمبنى دار العلوم على الجانب الغربي ، وكانت الحصص الدراسية ستاً ، وكل حصة تحتوي على خمسين دقيقةً .
ودرست من الأستاذ السيد محمد الرابع الحسني الندوي رنات المثالث والمثاني في السنة الأولى من الدراسات العليا ، فأفادني هذا الدرس وزادني علماً ومعرفةً وأدباً ، وكان يدرِّس باللغة العربية ، كما قرأت على الأستاذ عبد الله عباس الندوي تاريخ الأدب العربي لأحمد حسن الزيات ، وكان الأستاذ عبد الحفيظ البلياوي يدرّسنا المفصل في النحو للزمخشري ، ومقامات بديع الزمان والحريري ، ونهج البلاغة ، ودرسنا اللغة الإنجليزية على الأستاذ محمد سميع الصديقي ، وكانت مادة علم الاقتصاد والسياسة عند الأستاذ محمد إسحاق السنديلوي ، ودلائل الإعجاز عند الأستاذ أبي العرفان خان الندوي ، وكتاب تيسير الوصول ( المجلد الأول ) عند الأستاذ المفتي محمد سعيد ( رحمه الله ) .
مرةً كان الشيخ الأستاذ عبد الله عباس الندوي يملي علينا الإنشاء التعبيري ، فأنشد شعراً للدكتور محمد إقبال :
راز ہے راز یہ تقدیر جہان تگ وتاز
جوش کردار سے کھل جاتے ہیں تقدیر کے راز
وقال : ترجموا هذا البيت : فترجمت الشطر الأول للبيت : وإنه لسرٌ لو تعلمون عظيم . فسُرّ به سروراً عُرف من وجهه . وكذلك يدرسنا الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي رنات المثالث ، فشرح هذا البيت :
وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا
قال : حان أي قرب ، نحو حانت الصلاة ، وحين جمعه أحيان : معناه الوقت ، ولكن إذا كان الحين مفتوح الحاء فكان معناه : الهلاك والابتلاء ، مثلاً : حيَّنه الله .
كنت شغوفاً باللغة العربية ، ومغرماً بها ، فأساهم بكل مواظبة في حفلات النادي العربي ، وكان الأمين العام للنادي العربي آنذاك الأخ محمد راشد الندوي الذي ظل رئيس قسم اللغة العربية بجامعة علي جراه بعد تخرجه من دار العلوم ، وكانت حفلات النادي تنعقد يوم الخميس بعد كل أسبوعين ، وتتخللهما حفلة يعقدها المجلس العلمي بدار العلوم ، وكان سكرتير هذا المجلس الأخ محمد أيوب الغوندوي ، فأشارك هذا المجلس أحياناً ، وهذه الحفلات تنعقد في دار الأساتذة الملاصقة بالقاعة العباسية بدار العلوم ، أمّا حفلات جمعية الإصلاح فتنعقد بعد صلاة العشاء في القاعة الجمالية برواق شبلي ، كنت أحضرها وأشارك فيها ، فأحياناً أساهم خطيباً أو أقدم مقالاً علمياً وفق العناوين المحددة .
في هذا الزمان كان الإمام الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي يسكن على شارع المحكمة في مركز التبليغ والدعوة بأمين آباد ، لكناؤ ، وأحياناً ينزل في ندوة العلماء ، فكنت أحضر في مجلسه في المركز كل يوم بعد صلاة العصر ، مرةً كنت عنده ، فامتحنني ، وأمرني بكتابة قصة باللغة العربية ، وهكذا يطلب مني كل يوم عملاً جديداً للتمرين والتدريب ، فازددت منه حباً وتعظيماً ، وهكذا وفّر لي فرصةً للتدريب على الإنشاء بالعربية .