قصص ” ضفاف الحنين ” للقاصة : د . جميلة يوسف الوطني
نوفمبر 3, 2021تعريف بكتاب :
قصص النبيين للإمام الندوي : دراسة تحليلية
الأستاذ محمد عمر فاروق *
كتاب ” قصص النبيين ” من أجمل الكتب المؤلفة في الأدب الإسلامي عامة ، وأدب الأطفال خاصة . وهو لمؤلفه الشهير في مجال الدعوة ، والإرشاد ، والتاريخ ، والأدب ، والفكر الإسلامي الحديث ، العلامة الشيخ السيد أبي الحسن علي الندوي رحمه الله ، ألفه في خمسة أجزاء مراعياً المستوى الذهني للصغار من الأدنى إلى الأعلى . بدأ كتابه بقصة إبراهيم عليه السلام وختم على سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . وللكتاب مكانة مرموقة في تربية الأبناء وتزويدهم بالصفات العالية ، وله أسلوب حلو في التعبير ، ودقة في المعنى ، ولكن سذاجة في الألفاظ .
يقول الداعية الأديب سيد قطب رحمه الله عن هذا الكتاب : ” ولقد قرأت الكثير من كتب الأطفال بما في ذلك قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وشاركت في تأليف مجموعة القصص الديني للأطفال في مصر مأخوذاً كذلك من القرآن الكريم ، ولكني أشهد غير مجاملة أن عمل السيد أبي الحسن في هذه القصة التي بين يدي جاء أكمل من هذا كله ، وذلك بما احتوى من توجيهات رقيقة وإيضاحات كاشفة لمرامي القصة وحوادثها ومواقفها ومن تعليقات داخلة في ثنايا القصة ” [1] .
وسبب تأليفه أن مؤلفه كان رائداً من رواد الأدب الإسلامي الحديث ، وكان يحمل في قلبه لوعةً وحرقةً لإصلاح المجتمع وبنائه على القيم الإسلامية الصحيحة ، وكان يرى الناشئين يدرسون قصص العجماوات والجمادات ، وقصصاً أخرى كاذبةً موضوعةً ليس وراءها عاطفة خالصة وصدق ووفاء ، ولا تحمل بين جنبيها شعوراً وإحساساً ، وهو ركن ركين للأدب ، فأراد أن يربّي أبناءه على الأساس المستقيم للأخلاق العالية ، وأي أساس أعلى من أساس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين جعلهم الله أئمة يهدون الناس بأمره . فإن للأنبياء شخصيةً كاملةً ونموذجاً مثالياً ، بحيث لا يوجد فيها أي نوع من النقص والزوال ، فاختار المصنف لذلك هذه القصص . والدارس إذا قرأ هذا الكتاب وتغلغل في معانيه وتحلى بمحاسن المذكورين فيه فهو يخرج منه ، وقد عرف حقيقة الحياة ، واتصف بصفات أولي الألباب ، بل أصبح هو بنفسه رجلاً مثالياً للمجتمع كله . ويقول المؤلف في كتابه الآخر ” إذا هبت ريح الإيمان ” : ” وكنت إذا قرأت روايات الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني وأنا في أيام الطلب وريعان الشباب أوخذ بسحر أدبها ولغتها العربية الفصحى وتعبيرها الجميل وتصويرها البارع لخواطر النفس وأشكال الحياة وكنت أغار على هذه العربية الفصحى التي نزل بها القرآن الكريم وتكلم بها الرسول وأصحابه أن تسخر للأغراض التافهة – إذا لم أقل الخسيسة – التي ألف لها هذا الكتاب وأن تضيع في الألحان والأغاني ورنات المثالث والمثاني ، وتصوّر جوانب الضعف ومواضع السقط . . . . . وكنت أتمنى أن تستخدم هذه الملكة البيانية وهذه الثروة اللغوية الفذة وهذا الأسلوب القصصي الخفيف الجميل في مقاصد شريفة وأغراض نبيلة . . . ” [2] .
الجانب الخلقي للكتاب :
وأول شيئ ركز عليه المؤلف تركيزاً بالغاً هو توحيد الله عز وجلّ إذ به تكتمل الشخصية الإنسانية ويخرج به العبد من عبادة المخلوق إلى عبادة الله وحده ، وهو مصدر للخير كله يعلّم صاحبه الصدق والوفاء ويمنحه الثقة والاعتماد ويكون به حنيفاً مسلماً مخلصاً . وما أحوج الأطفال إلى هذه الصفة وما أسرع قلوبهم قبولاً لهذه الحقيقة الفريدة العالمية لأنها لوحة بيضاء لم ينقش عليها رسوم الشرك الجاهلية . وما من نبيّ إلا وقد دعا قومه إليه ، وهذا الكتاب الذي نحن بصدده يحكي قصص الأنبياء فكيف يخلو منه . ولكن الأنبياء عادة يخاطبون الكبار لأنهم مكلفون بدعوتهم ، أما المؤلف فهو يخاطب الصغار فراعى مزاجهم وطبيعتهم فكأنه غيّر الأسلوب للكبار إلى أسلوب يناسب الصغار .
اقرأ معي كلامه وهو يريد أن يبذر شجرة التوحيد في طالب مبتدئ ويطمئنه ، وكأنه يشرح قول الله عزوجل حكايةً عن إبراهيم عليه السلام : ( وَكَذٰلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ ) [3] .
” . . . والكوكب ضعيف يغلبه الصبح ، والقمر ضعيف تغلبه الشمس ، والشمس ضعيفة يغلبها الليل ، ويغلبها الغيم ، ولا ينصرني الكوكب لأنه ضعيف ، ولا ينصرني القمر لأنه ضعيف ، ولا تنصرني الشمس لأنها ضعيفة ، وينصرني الله ، إن الله حي لا يموت ، وباق لا يغيب ، وقوي لا يغلبه شيئ ” . تأمل هذه الكلمات وما فيها من تكرار للإثبات والتقرير .
وهو أعاد التوحيد بأساليب متعددة فيقول وهو يحكي عن سيدنا يوسف عليه السلام وقد سأل صاحبي السجن ” أين رب البر ؟ ورب البحر ؟ ورب الرزق ؟ ورب المطر ؟ ونحن نقول الله رب العالمين ” ، ثم يعيد نفس الكلام بعد سطر واحد ” أين رب البر ورب البحر ورب الرزق ورب المطر ؟ ” ، ويستمرّ ويكرّر ، ولكن بأسلوب جديد للسؤال ” وكيف رب البر ورب البحر ورب الرزق ورب المطر ؟ ” ، وإن هذا السؤال بأسلوبه المتين وتكراره القوي حرّك الأذهان وأحدث في القلوب شعوراً بمعرفة خالق الكون وربّه وأعلم الأطفال خطأً واضحاً تمسك به المشركون فقال مجيباً عن نفس السؤال : ” الحكم لله ، الملك لله ، الأرض لله ، الأمر لله ” .
وأثناء بيان دعوة الأنبياء لم يغفل المؤلف عن الحكمة الحسنة التي هي جزء لازم لها مع أن الصغار قلّما يرون الأشياء بدقة وإمعان ، فذكر الحكمة في اختيار الوقت المناسب فيقول وهو يحكي دعوة يوسف لصاحبيه في السجن : ” قال يوسف في نفسه : إن الحاجة ساقت الرجلين إلي وإن صاحب الحاجة يلين ويخضع وإن صاحب الحاجة يطيع ويسمع . . . ” ، وكذلك بيَّن الحكمة في اختيار الكلمات المناسبة كما في قصة هود بحيث يذكر دعوته : ” قال هود يا قوم أنا أخوكم وصديقكم بالأمس ألا تعرفونني ؟ يا إخواني لماذا تخافونني وتفرّون مني ؟ ” ، تأمل كيف كلمة ” الأخ ” وكلمة ” الصديق ” ثم انظر موقعهما في قلوب الأطفال الذين هم بحاجة إلى الصداقة والأخوة . وذكر الأسلوب نفسه في قصة صالح عليه السلام : ” يا إخواني ! أتظنون أنكم هنا إلى الأبد ؟ ” .
ولم يكتف بالدعوة فقط بل ما هو ضدها وهو الدعوة إلى الشر لأن الأشياء تتبين بأضدادها فيقول وهو يريد بيان قبح الشرك : ” إن الله لا يؤتي علمه المشرك ” . فحكى عن الشيطان وفكرته وفلسفته وكيف يحتال ليتبع الإنسان هواه وطريقه وكأنه اطلع على طريقة تفكيره ، وبينه على أسلوب الحوار علماً بأن الديار التي عاشها كانت ملائ بالشرك وكان المسلمون أحدثوا في الدين أشياء هي أقرب إلى الشرك منه إلى الإيمان ” ، ذهب الشيطان إلى الناس وذكر هؤلاء الرجال : ” ( الصلحاء ) وقال : كيف كان فيكم فلان وفلان وفلان ؟ قالوا : سبحان الله ! رجال الله وأولياؤه . . . . . . . قال الشيطان وكيف حزنكم عليهم ؟ قالوا : شديد قال وكيف اشتياقكم إليهم قالوا عظيم قال ولماذا لا تنظرون إليهم كل يوم ؟ قالوا : كيف السبيل إلى ذلك وقد ماتوا قال : اعملوا لهم صوراً وانظروا إليها كل صباح ” ، ثم بين كيف انتقل الناس من الصور إلى التماثيل ومنه إلى الشرك .
ومن عادة الشيخ أبي الحسن علي الندوي رحمه الله أنه يحبّب الصفات النبيلة للطلاب ويستنبط من المراحل التي مرت بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام صفات خاصةً ويلقي عليها ضوءاً بأسلوب جذّاب ساحر . انظر كيف تكلم عن صغر الأنبياء وطفولتهم وليس قصده إلا أن يرى أبناء قومه على تلك العادات الحسنة فيقول عن إبراهيم عليه السلام وهو صغير جداً : ” وكان آزر له ولد رشيد جداً ” ، وتكلم عن صغر يوسف : ” وكان يوسف ولداً صغيراً . . . وكان يوسف غلاماً جميلاً ، وكان يوسف غلاماً ذكياً ” ، بعد دراسة هذه الكلمات لا شك أن الدارس يرجو أن يكون رشيداً ويكون ذكياً .
وتحدث أيضاً عن الكرم والسخاء والحرية وهي من صفات المؤمنين وأعاد ذكرها عدة مرات ترسيخاً في الأذهان وتشويقاً إلى الإتيان بها . فيقول : ” وكان يوسف جواداً كريماً لايعرف البخل ” ، وكان يوسف جواداً كريماً مشفقاً على خلق الله ” ، ويقول عنه في مكان آخر : ” وكان يوسف في السجن ولكنه كان حرّاً كريماً كان يوسف فقيراً ولكنه كان جواداً سخيّاً ” . تأمل كيف جمع بين الفقر والسخاء وكيف دعا إلى الجمع بينهما وكيف حمل الطالب على أن يتفكر بأنه لا يملك شيئاً وهو كلّ على والده ، فهل يستطيع أن يكون سخياً ؟ فأجاب عن هذا السؤال بنفسه وذكر بأن السخاء لا يكون بالمال فقط وإنما يكون بأنواع شتى من الخير حيث قال : ” إن الأنبياء يجهرون بالحق في كلّ مكان وإن الأنبياء يجودون بالخير في كل زمان ” .
قصة يوسف كلها تدور على أن لله حكمة خفية وأن لله يداً مستورةً بحيث جرت الأحوال على خلاف ما يشتهيه سيدنا يعقوب عليه السلام فهو يحب ابنه يوسف ويريد بقاءه عنده كما لا يريد مفارقة بنيامين ولكن يعقوب عليه السلام نرى فيه اعتماداً كاملاً على الله وهدوءاً في شخصيته إذ ليس فيها جدل ومخالفة للأخلاق العالية الكريمة وهو يقول في كل مصيبة تكاد تتقطع لها القلوب الصابرة ويزلزل لها الرجال العباقرة ” فصبر جميل ” ويقول : ( إني أَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) .
وإذا تتبعنا القصص كلها وجدنا المؤلف ألقى اهتماماً كبيراً على كل صفة عظيمة من صفات الأنبياء وأعاد بيانها عدة مرات فمثلاً هو يتحدث عن الإباء فيقول : ” إن يوسف كان كبير النفس أبياً ، إن يوسف كان كبير العقل ذكياً ” ، ولا يخفى أهمية الإباء الذي كاد أن يخلو المجتمع كله منه وكثرت فيها المجاملة والتملق . ويقول وهو يريد قباحة السرعة والعجلة لأنها من الشيطان ” ، ولكن يوسف لم يسرع ، ولكن يوسف لم يستعجل .
ومن المعلوم أن قصة يوسف كلها موعظة حسنة للأطفال الصغار لأن يوسف لم يكن في ذلك الوقت إلا شاباً صغيراً وكيف تحمل ما تعرض له من الحقد والبغضاء والحسد وكيف أوذي إيذاء على غير سبب ، سوى أن والده يحبه أكثر من إخوته ثم كيف أصبح ذلك الولد الصغير البائس المسكين المطروح في البئر وزيراً على خزائن الأرض بسبب صلاحه وتقواه بل وفي هذه القصة موعظة ونصيحة للشباب كيف يحفظ فرجه ويعيش طاهراً طيباً كما فيها نصيحة للملك كيف يهتم برعيته ولا ينسى مولاه .
الجانب الأدبي للكتاب :
نرجع الآن إلى أدب هذا الكتاب فلا تسأل عن حسنه وروعته ، وحسبنا أعمال الشيخ الندوي الأدبية التي لقيت حفاوةً عظيمةً على المستوى العالمي ، ولكني أريد أن أشير هنا إلى بعض الجوانب المهمة . بلاغة هذا الكتاب هو مراعاته أذهان الناشئين الصغار من حيث الأسلوب واللغة والأدب والتقديم ، فكأنه سلّم يدرج عليه الطالب رويداً رويداً إلى أن يصل أعلاه ويدرك منتهاه . استعمل المؤلف الألفاظ السهلة العذبة والجمل الصغيرة – مع أنه متعود على الجمل الطويلة كما هو ظاهر في كتبه المؤلفة للكبار – مع اجتنابه الألفاظ الغريبة الصعبة لا سيما من الرباعي والخماسي وأمثالهما فمثلاً بدأ الكتاب بقوله : ” قبل أيام كثيرة كثيرة جداً ، كان في القرية رجل مشهور جداً ، وكان اسم هذا الرجل آزر . . . ” ، وكذلك نراه يحاول أن يأتي بالجمل الإسمية ابتداء كما يجمع أنواعها المختلفة من أخوات كان والحروف المشبهة بالفعل فتجده يكثر أحياناً استخدام ” كان ” وتارةً ” صار ” حتى يترسخ هذا الأسلوب في ذهن القارئ .
ومن ميزته الأدبية هو التكرار ، ولكن دون أن يسبب مللاً أو سآمةً في القارئ ، والتكرار الذي أتى به المؤلف على عدة أقسام فيعيد نفس الكلمة مرةً أو مرتين تأكيداً كما في قوله ” كثير كثير جدا ” ، وقوله ” ولد رشيد رشيد جداً ” ، وفي أماكن أخرى يغير شيئاً يسيراً في الألفاظ فمثلاً كما ذكرت آنفاً أتى بقوله ” أين رب البر . . ” ، ثم غير الأسلوب فقال ” كيف رب البر ورب البحر ” ، وفي قوله ” كيف يطيب له الشراب والطعام وأبوه لا يطيب له شراب ولا طعام ولا منام ” .
ومع كل ذلك أحياناً يذكر العبارة نفسها مرات عديدةً ، وكأنه يجد لذتها بنفسه ولا ينساها فقال وهو يشرح منظر البئر : ” وبقي يعقوب يذكر يوسف ، وبقي يوسف يذكر يعقوب ، وكان يوسف في البئر ، وكانت البئر عميقةً ، وكانت البئر في الغابة ، وكانت الغابة موحشةً ، وكان ذلك في الليل ، وكان الليل مظلماً ” .
ثم ذكر نفسها في آخر القصة : ” وهم لا يعرفون أنه يوسف الذي كان في البئر وهم يظنون أنه قد مات وكيف لا يموت وقد كان في البئر ، كان في البئر وكانت البئر عميقةً ، وكانت البئر في الغابة ، وكانت الغابة موحشةً ، وكان ذلك في الليل وكان الليل مظلماً ” ، وقال في موضع آخر : ” وكان يوسف ولداً صغيراً وكان قلبه صغيراً وكانت البئر عميقةً . . . ” ، تأمل في هذا التكرار كيف ذكره مرتين ولا يخفى ما يقع في فؤاد القارئ بعد دراسته من الحلاوة والعذوبة وهو يرددها مرات ويجد في كل مرة لذةً أعلى مما قبلها . وتأمل ما في هذه العبارة من ترتيب واقعي ووصف للمنظر الموحش من الأدنى إلى الأعلى ، فكانت تكفي جملته الأولى ” كان في البئر ” وهو ولد صغير ولكنه أتى بنفس الجملة مع زيادة الصفة وهي ” العمق ” وهي جعلت البئر أكثر وحشةً ثم يتصور القارئ بأن البئر من الممكن أن يكون قريباً من القرى والعمران ولكنه أزال تلك الشبهة فقال مشيراً إلى حدود البئر الجغرافية ” وكانت البئر في الغابة ” ولم تكن الغابة عاديةً كما هو ظاهر بل أضاف لها صفةً أخرى مع جملة جديدة ” وكانت الغابة موحشةً ” ، حسبك يا أبا الحسن رحمك الله فقد أتيت بجمل أثبتت وحشة ذلك المنظر فلا يستطيع الطالب الصغير أن يتحملها إلا بمشقة . فكأنه يجيب إنني أشعر بما يشعر به يوسف الصغير في ذلك المكان ولم يقتنع بهاتين الجملتين بل أضاف إليهما على الترتيب السابق ” ، وكان ذلك في الليل وكان الليل مظلماً ” . لا يظن ظان بأنه يأتي بالمبالغة بل كل ذلك يستنبطها من الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة ، ألا ترى الإشارة إلى الليل ( وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ ) ، وعمق البئر بقوله سبحانه : ( غَيَابَةِ ٱلْجُبِّ ) .
الأولاد الصغار يحبون أسلوب الحوار لما فيه من مؤانسة ومداولة من الجانبين فلم يشغل عنه المؤلف بل ذكر أسلوب الحوار في عدة مرات وخاصةً في المعنى الذي يريد ترسيخه في الأذهان ، ولا تنس أن الحوار يقرّب المنظر إلى القارئ فهو يظن بأن الكاتب رأى المنظر بنفسه ولم يعتمد على كلام شخص آخر فاقرأ كلامه وهو يذكر الحوار بين الشيطان وبين الإنسان ، وتأمل كيف صوّر الشيطان بصورة صديق يجلس مع صديقه ويحاول في إضلاله وإغوائه : ” ذهب الشيطان إلى الناس وذكر هؤلاء الرجال ( الصلحاء ) وقال كيف فيكم فلان وفلان وفلان ؟ قالوا : سبحان الله رجال الله وأولياؤه ، أولئك إذا دعوا أجابهم وإذا سألوا أعطاهم ، قال الشيطان : وكيف حزنكم عليهم ؟ قالوا شديد قال وكيف اشتياقكم إليهم قالوا عظيم قال ولماذا لاتنظرون إليهم كل يوم قالوا كيف السبيل إلى ذلك ؟ وقد ماتوا قال اعملوا لهم صوراً وانظروا إليها كل صباح . . . ” ، وانظر في حوار دار بين الإخوة ويوسف : ” قال يوسف من أين انتم ؟ قالوا من كنعان قال من أبوكم قالوا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم قال هل لكم أخ آخر قالوا نعم لنا أخ اسمه بنيامين قال لماذا لم يأت معكم . . . ، وقال لهم ” ائتوني بأخ لكم من أبيكم . . . ” .
من ميزاته بأن المؤلف يحاول تقريب الطلاب إلى كلام الله سبحانه وتعالى ولا يخفى بأن القرآن الكريم يستخدم بعض الأحيان عبارات صعبةً بالنسبة إلى الأطفال الصغار فإذا وجد المؤلف الصعوبة شرحها بنفسه بكلمات سهلة ولكن إذا وجد فيه عبارةً سهلةً لا يصعب فهمها على المبتدئ فهو لا يأتي بجمله بل يكتفي بذكر الآية القرآنية كما في قوله : ” وقال للآخر اذكرني عند ربك ” ، ومثله كثير .
اهتم المؤلف ببيان الإحساس والشعور وهو لازم للنص العالي فتجده في موضع الفرح يذكره بأسلوب يكاد يجد القارئ الفرح أو هو من شدة فرحه يكاد يبكي كما في قوله : ” ولما وصل يعقوب إلى مصر استقبله يوسف ولا تسأل عن فرحهما وسرورهما ، وكان يوماً مشهوداً في مصر ، وكان يوماً مباركاً في مصر ، ورفع يوسف أبويه على العرش ووقعوا كلهم سجداً ليوسف . . . ” ، وكذلك تجد فيها مشاعر الحزن والحب معاً كما في قوله : ” وهنا هاج الحزن والحب في يوسف ولم يملك نفسه . . . أبناء أبي وأبناء الأنبياء يشكون فقرهم ومصيبتهم . . . ” ، ومشاعر الصبر والتحمل كما في قوله : ” وسمع يوسف هذا البهتان فسكت ولم يغضب وكان يوسف كريماً حليماً ” ، ومشاعر الإباء ” ما رضي يوسف أن يخرج من السجن هكذا ويقول الناس : هذا يوسف ، هذا كان أمس في السجن ، إنه خان العزيز ” ، ومظاهر الوفاء والأمانة كما في قوله : ” أنا لا أخون سيدي أنه أحسن إلي وأكرمني إني أخاف الله ” . إضافةً إلى ما في الكتاب من ذكر الأسماء مرات دون رجع الضمير إليها لأنه يسهل الفهم للمبتدئ .
لقد ظهر مما مضى بأن هذا الكتاب ليس مجرد كتاب القصة ، بل فيه علم عظيم وموعظة حسنة وأخلاق عالية وتربية راقية وأدب رفيع وبلاغة رائعة يتناول أشياء كثيرةً مهمةً ، ولكن يطلب من القارئ الكد والسعي في معرفة كل ذلك أولاً ، والعمل به ثانياً . ويدلّ كل ذلك على أن المؤلف كان مليئاً بالحب والإخلاص والصدق والصلاح وكان يحمل قلباً يقظاً نشيطاً رحيماً يريد الخير للمجتمع ولم يكن ذلك إلا لأنه كرّس الحياة لنشر العلم وجاهد في سبيل الله وأدى دوره على أحسن ما يستطيع المسلم المؤمن ، وكان بنفسه شخصيةً مثاليةً ، ترك آثاره الحميدة ليقفوها من وجد إلى ذلك سبيلاً .
* أستاذ اللغة العربية بالجامعة الإسلامية العالمية ، إسلام آباد – باكستان .
[1] قصص النبيين للسيد أبي الحسن على الندوي ، ص 4 ، تقريظ للسيد قطب .
[2] إذا هبت ريح الإيمان ، ص 10 .
[3] الأنعام : الآية 75 .