يعلمون ولا يعملون

المصلحون والمفسدون
أغسطس 31, 2025
المصلحون والمفسدون
أغسطس 31, 2025

التوجيه الإسلامي :

يعلمون ولا يعملون

الدكتور أشرف شعبان أبو أحمد *

لقد خلفت الحضارات القديمة من البقايا والأطلال ، ما يدل على سابق تفوقها في كثير من علوم الدنيا ، وإلى يومنا هذا يقف العالم كله منبهراً أمام كل جديد يكشف من آثارهم ، وهكذا هو حال حضارة اليوم ارتقاء بكل مجالات الحياة المادية ، وما صارت إليه يحير العقول ويدهش الألباب ، فعلى مر العصور كانت الدنيا بكل متاعها وشهواتها ، هي الشغل الشاغل للكثير من البشر ، وأكبر همهم ومبلغ علمهم ولا يفكرون في سواها ، فتوجهوا إليها بعقولهم أحياناً وبأهوائهم كثيراً ، وبكل ما أوتوا من قوة ، عملوا ما في وسعهم لتقبل الدنيا عليهم مرغمةً بكل زخرفتها ، ومضوا في ذلك أطواراً ومراحل حتى ظنوا أنهم قادرون عليها ، قال تعالى : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ )  [ الروم : 7 ] فها هم يعلمون ما يخص أمور معيشتهم ومستلزمات حياتهم الدنيوية ، وغفلوا عن الآخرة فلا الجنة يشتاقون إليها ، ولا النار يخافونها ويخشونها ، ولا المقام بين يدي الله ولقائه يعدون له عدته .

وقد بينت آيات من القرآن الكريم أن أكثر الناس لا يعلمون العلم المتعلق بالإيمان بالله ورسله والشرائع السماوية والسنن الإلهية ، حيث اختتمت إحدى عشرة آية بقوله تعالى : ( وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) منها : قوله تعالى : ( إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ يوسف : 40 ] ، أكثر الناس لا يعلمون أن الحكم لله في كل أمر من أمور ديننا ودنيانا ، ولا يعبد إلا إياه وحده لا شريك له ، وهذا هو الدين القيم المستقيم الذي لا عوج فيه ، الموصل إلى كل خير . وقوله تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ الروم : 30 ] أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك الدين الذي ارتضاه لعباده هو الدين القيم ، الذي فطر الناس عليه ، فبقاؤهم عليه وتمسكهم به تمسك بفطرة الله ، فالزموها ولا تبدلوا خلق الله . وقوله تعالى : ( قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ سبأ : 36 ] أكثر الناس لا يعلمون أن الله وحده هو الرزاق لعباده ، يوسع الرزق لمن يشاء من عباده ويضيق على من يشاء منهم ، لا لمحبة ولا لبغض ، ولكن يفعل ذلك لحكمة بالغة ، علمها من علمها ، وجهلها من جهلها . وقوله تعالى : ( وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ الروم : 6 ] أكثر الناس لا يعلمون أن وعد الله حق ، وأنه لا يخلف وعده ، فكل ما وعد الله به عباده المؤمنين وما توعد به غيرهم فهو آت تحقيقه حينما وكيفما يشاء الله . وقوله تعالى في سورة غافر الآية 57 ( لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) وقوله تعالى : ( قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ الجاثية : 26 ] وقوله تعالى : ( وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَىٰ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ النحل : 38 ] فرغم وضوح أن أمر خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ، وأن الذي خلقهما مع ضخامتهما واتساعهما وعظمتهما ، لقادر على بعث الموتى من قبورهم أحياء ، ليحاسبهم ويجازيهم ، فمن أحياهم وأماتهم أول مرة ، لقادر على إحيائهم مرةً ثانيةً يوم القيامة ، وأن وعد الله حق ببعث الأموات ، وإحيائهم بعد أن كانوا تراباً ، وجمعهم ليوم لا ريب فيه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . وقوله تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّى لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِى عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ الأعراف : 187 ] أكثر الناس لا يعلمون عن الساعة ، فقد خفي علمها عنهم ، فعلمها عند الله وحده . وقوله تعالى : ( وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ سبأ : 28 ] أكثر الناس لا يعلمون أن سيدنا محمداً عليه الصلاة والسلام أرسل لكافة البشر بشيراً ونذيراً ورسالته عامة للناس أجمع . وقوله تعالى : ( وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ يوسف : 21 ] ، أكثر الناس لا يعلمون إذا أراد الله شيئاً يغلب الناس عليه ، ويقهرهم على ما يريد ، وتتهيأ الظروف والأحوال ليقع أمر الله . وقوله تعالى : ( وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ يوسف : 68 ] أكثر الناس لا يعلمون عواقب الأمور ودقائق الأشياء ، ومنها إلهام الله لأنبيائه وأصفيائه من العلم والمعرفة ، فسيدنا يعقوب عليه السلام كان صاحب علم عظيم من الله ، لا بحوله وقوته أدركه ، بل بفضل الله وتعليمه .

كما اختتمت خمس عشرة آية بقوله تعالى : ( وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) منها قوله تعالى : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ لقمان : 25 ] أكثرهم لا يعلمون ، أن المنفرد بالخلق والتدبير ، هو الذي يفرد بالعبادة والتوحيد ، ولذلك أشركوا به . وقوله تعالى : ( وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ . مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ الدخان : 38 – 39 ] أكثرهم لا يعلمون أنه سبحانه وتعالى لم يخلق السموات والأرض وما بينهما لعباً ، ما خلقهم إلا بالحق . وقوله تعالى : ( أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ النمل : 61 ] أكثرهم لا يعلمون أنه تعالى هو الذي جعل الأرض قراراً يستقر عليها العباد ، فهو الذي دحاها وسواها ، وجعلها بهذه الطريقة البديعة ، ليتمكنوا من السكنى والحرث والبناء والذهاب والإياب عليها ، وجعل خلالها أنهاراً ينتفع بها العباد في زرعهم وشربهم وشرب مواشيهم ، وجعل لها جبالاً ترسيها ، وتثبتها لئلا تميد وتضطرب ، وجعل بين البحرين المالح والعذب حاجزاً يمنع اختلاطهما ، فتفوت المنفعة المقصودة من كل منهما . وقوله تعالى : ( وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ الأنعام : 37 ] ، أكثرهم لا يعلمون أن إنزال الآيات إنما يكون وفق حكمة الله تعالى وليس وفق ما يطالبون به ، كما يفيد أنهم لا يؤمنون حتى ولو جاءتهم الآيات التي اقترحوها ، لأن عدم إيمانهم ليس عن نقص في الدليل ، ولكنه عن تكبر وجحود . وقوله تعالى : ( وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ النحل : 101 ] أكثرهم لا علم بربهم ولا بشرعه وأحكامه ، وإذا بدلنا آيةً بآية أخرى والله أعلم بمصلحة خلقه بما ينزله من الأحكام في الأوقات المختلفة ، قال الكفار : إنما أنت كاذب . وقوله تعالى : ( أَلاۤ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ )       [ يونس : 55 ] ، ولكن أكثرهم لا يعلمون حقيقة أن كل ما في السموات والأرض ملك لله تعالى ، لا شيئ من ذلك لأحد سواه ، ووعد الله بالبعث والجزاء حق . وقوله تعالى في سورة القصص الآية 13 ( فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) ، ولكن أكثرهم لا يعلمون أن وعد الله حق ، وأن الله لا يخلف وعده ، وهو كائن لا محالة ، وأكثرهم لا يعلمون حكم الله في أفعاله وعواقبها ، فربما يقع الأمر كريهاً إلى النفوس وعاقبته محمودة في نفس الأمر . وقوله تعالى : ( أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هَـٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ ) [ الأنبياء : 24 ] أكثرهم لا يعلمون الحق ، ولا يستطيعون التمييز بينه وبين الباطل ، فهم لذلك منصرفون عن الهدى ، متجهون إلى الضلال ، فمن جهل شيئاً عاداه . وقوله تعالى : ( وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ الأنفال : 34 ] أكثرهم لا يعلمون ، بأن لا ولاية لهم على المسجد الحرام ، وادعوا لأنفسهم أمراً غيرهم أولى به ، إنما أولياؤه الذين آمنوا بالله ورسوله ، وأفردوا الله بالتوحيد والعبادة ، وأخلصوا له الدين ، ويتقونه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه . وقوله تعالى : ( وَقَالُوۤاْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ القصص : 57 ] أكثرهم لا يعلمون أن المولى عز وجل جعلهم متمكنين في بلد آمن ، حرم على الناس سفك الدماء فيه ، يجلب إليه ثمرات كل شيئ رزقاً من لدنه . وقوله تعالى في سورة الأعراف آية 131 ( فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَلاۤ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) أكثرهم لا يعلمون أن ما يصيب الناس من خير أو شر إنما هو بقضاء الله وقدره ، وما يصيبهم من المصايب والبلايا ليس إلا بما كسبت أيديهم ، فينسبونه إلى غير الله ، فيقولون ما يقولون مما تمليه عليهم أهواؤهم وجهالاتهم . وقوله تعالى :     ( فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ الزمر : 49 ] وأكثرهم لا يعلمون الفتنة التي يبتلي الله بها عباده ، فإذا أصاب الإنسان شدة وضر دعا ربه أن يفرج عنه ، وإذا كشف عنه ما أصابه وأعطاه الله من نعمه ، عاد بربه كافراً ولفضله منكراً ، وقال : إن الذي أوتيته إنما أوتيته بسبب علم ونبوغ عندي واستعدادي واجتهادي وتفوقي في مباشرة الأسباب التي توصل إلى الغنى والجاه ، بل الأمر ليس كما زعم ، إنما أعطاه الله على سبيل الابتلاء والاختبار . وقوله تعالى : ( ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ الزمر : 29 ] وقوله تعالى : ( ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ )        [ النحل : 75 ] أكثرهم لا يعلمون حقيقةً أن المشرك في حيرة وشك بينما المؤمن في راحة واطمئنان ، وقد ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لشركاء متنازعين فهو حيران في إرضائهم ، وعبداً خالصاً لمالك واحد يعرف مراده وما يرضيه هل يستويان مثلاً ؟ كما ضرب الله مثلاً لرجلاً مملوكاً عاجزاً عن التصرف لا يملك شيئاً ورجلاً آخر حراً له مال حلال رزقه الله به يملك التصرف فيه ويعطي منه في الخفاء والعلن فهل يقول عاقل بالتساوي بين الرجلين . وقوله تعالى في سورة الطور آية 47 ( وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذٰلِكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) ، ولكن أكثرهم لا يعلمون أن للظلمة عذاباً يلقونه في الدنيا قبل عذاب يوم القيامة ، وأن العذاب ينزل بهم من قتل وسبي وإخراج من الديار وجوع وقحط وأوجاع وسقام وبلايا وذهاب الأموال والأولاد ، يعذبون في الدنيا ويبتلون فيها بالمصايب لعلهم يرجعون وينيبون .

وأما بالنسبة لعلوم الدنيا فما زالوا وسيزالون لا يعلمون منها إلا القليل ، ولن يبلغوا من العلم منتهاه ، قال تعالى : ( وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) [ الإسراء : 85 ] ، والأمثلة على ذلك كثيرة منها :

يعلمون كيفية معالجة الكثير من الأمراض ، وما زال يستعصى عليهم علاج البعض ، وما زلنا نرى ونسمع عن أمراض لم تكن موجودةً من قبل ، أو كانت موجودةً ، ولم يكن أحد يعلم بها ، وكلما قضوا على وباء ظهر آخر ، ولم يستطيعوا بما لديهم من علم تصور عالم خالٍ من الأمراض . وإذا كانوا على علم بقرب موت شخص وهو على سرير المرض وفي مرحلة متأخرة منه ، فليس لديهم علم بالموت الفجائي لمن هو بكامل عافيته وصحته وما زال في مقتبل العمر ويمارس ما اعتاد عليه في حياته ، أو بمن يلقي حتفه في حوادث الطرق والطائرات والقطارات وانهيار المباني والأعاصير والزلازل والحرائق . يعلمون أن بما لديهم من أسلحة فتاكة يمكنهم تدمير الكون كله في لحظات معدودة ، ومن يوم لآخر يستزادون منها ، ولكن لا يعلمون كيفية استخدامها في إحقاق الحق وإزهاق الباطل ، ولا يعلمون كيفية إحياء نفس واحدة قتلت لأنس كانت أو لحيوان أو طائر أو نبات . ولم ولن يخلقوا بذرة من العدم فضلاً عن أي كائناً من كان ، أو يصنعوا ورقةً واحدةً من أوراق أي نبات ودب الحياة فيها لتصير كما كانت عليه ، قال تعالى : ( لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ) [ الحج : 73 ] لن يقدروا مجتمعين على خلق ذبابة واحدة على ضعفها وصغرها فكيف بخلق ما هو أكبر ؟ وإذا أخذ الذباب شيئاً مما عليهم من طيب وما أشبهه لم يقدروا على إنقاذه منه أو استرداده منه . يستطيعون معرفة نوع الجنين ذكراً كان أم أنثى في مراحل تكوينه النهائية في رحم أمه ، ولا يعرفون ذلك في بداية تكوينه عند دخول مني الرجل رحم المرأة ، حيث تتسابق الحيوانات المنوية على تلقيح البويضة ، فلا أحد يعلم أي هذه الحيوانات هو الذي أصاب البويضة ، وما يحمل هذا الحيوان من جينات تشكل مع جينات البويضة مواصفات الجنين ، ومن ثمة لا يعلمون المواصفات التي سيكون عليها بعد ولادته ، قال تعالى : ( يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ . أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً ) [ الشورى : 49 – 50 ] كما أن النطف التي تقذف في أرحام النساء هل هم الذين يخلقونها بشراً أم الله ؟ ومن الذي يفسد تحولها ؟ قال تعالى : ( أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ . أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ ) [ الواقعة : 58 – 59 ] وقال تعالى في سورة المؤمنون آية 14 ( ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ ) كما لا يعلمون هل يتم الجنين مدته ويخرج إلى الدنيا أم يسقط ولا يكمل ، قال تعالى : ( وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ) [ الرعد : 8 ] . يعلمون آداب وبروتوكول ترتيب وتناول الأطعمة والأشربة ، ولكنهم لا يعلمون ما يحل وما يحرم منها ، كما أنهم يغفلون ولا يهتمون بمصدر أموالهم أهي حلال لا شبهة فيها ، أم نتيجة التجارة في المحرمات أو الودائع الربوية والرشاوى أم غيرهما من وسائل الكسب المحرمة . يعلمون كيفية استحداث وسائل الاتصال والتواصل بين الناس ولا يعلمون كيفية نثر التعارف والتآلف والتحاب بينهم ، قديماً كان أهل كل حي أو قرية يعرف بعضهم بعض ، ويجتمعون دائماً معاً في دور العبادة أو الضيافة أو الأماكن العامة ، وتجدهم جنباً بجنب في كافة المناسبات ، أما الآن في ظل وسائل التواصل فلا يعرف أي منا جاره في نفس المسكن والمساكن المجاورة . يعلمون كيفية الصعود إلى القمر والتنقل بين الكواكب ، ولا يستطيعون تغير مسرى أي منهم ، أو توقيف الأرض عن حركتها ، أو تغير مطلع الشمس ومغربها ، أو حتى تغير المناخ والطقس في عالمنا ، وتحويل المناطق القارصة البرودة والتي تغطيها الثلوج إلى مناطق حارة أو العكس .

يعلمون كيفية حرث الأرض للزراعة وبذر البذور فيها وريها بالماء اللازم ، ويعملون على استنباط أصناف جديدة لمحاصيل موجودة ، ولكن لا يستطيعون إنبات كافة البذور المبذورة ، وبعد ما ينبت منها وتزدهر وتبدو عليها علامات النمو ، لا يستطيعون حمايتها من الآفات والأعاصير والعواصف والقوارض ، ومن إن تتلف وتتحول لهشيم لا ينتفع به ، قال تعالى :   ( أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ . أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ . لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً )     [ الواقعة : 63 – 65 ] وتقوم الرياح بنقل حبوب اللقاح من ذكور النباتات للإناث لإتمام عملية التلقيح ، فهل يستطيعون إرسال هذه الرياح وتوجيهاً لجهة دون أخرى أو وقفها ومنعها ، قال تعالى : ( وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ )        [ الحجر : 22 ] . يعلمون كيفية تحويل مجرى النهر ، وتحلية مياه البحر ، ولكن لا يعلمون كيفية إنزال الماء العذب من المزن ، على مكان ما ومنعه عن آخر ، ومن يدعي إنزاله للمطر فلينزله في الصحاري ، وليصنع منه أنهاراً في المناطق القابلة للاستصلاح ، وليمنع مواسم الجفاف عن المناطق الممطرة ، قال تعالى : ( أَفَرَأَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِى تَشْرَبُونَ . أَأَنتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنْزِلُونَ . لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ) [ الواقعة : 68 – 70 ] كما لا يستطيعون إذابة جبال الجليد في المناطق القطبية وتحولها لأنهار .

وختاماً : قال تعالى ( ذٰلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ ) [ النجم : 30 ] كما أخبرنا القرآن الكريم ، حين يظن أهل الأرض أنهم قادرون عليها ، وعلى تسخير ما فيها بما يهوى لهم ، جاءها أمر الله وقضاءه بهلاك ما عليها ليلاً أم نهاراً كأن لم تكن بالأمس ، قال تعالى : ( وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ ) [ يونس : 24 ] وقال تعالى : ( ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) [ الحجر : 3 ] ذرهم يأكلوا ويتمتعوا بلذاتهم ، ويؤملون البقاء في الدنيا ، فيلهيهم عن الآخرة ، فسوف يعلمون أن أعمالهم ذهبت حسرات عليهم ، فلا يغتروا بإمهال الله تعالى فهذه سنته في الأمم .

* جمهورية مصر العربية .