عليك تحية الرحمن تترى
نوفمبر 19, 2023خير نموذج للسلف الصالح
نوفمبر 19, 2023شخصية مثالية فقدناها :
ولكنه بنيان قوم تهدما
الأخ محمد سعدان الدين
لقد وقفنا في صفحات التاريخ الإسلامي الباهر على مشاهد مهيبة لجنائز الأفذاذ من الشخصيات الإسلامية مثل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بمشاركة حشود خاشعة غفيرة ، لكن شاهدنا عياناً على جنازة مهيبة مع تهافت الآلاف من الرجال لفضيلة العلامة الشيخ أستاذنا المكرم السيد محمد الرابع الحسنى الندوي تغمده الله بواسع رحمته ، فقد كان يخطر على قلبي أثناء الصلاة عليه في رحاب ندوة العلماء بين حشود الرجال كتقاذف البحر أنها تفسير للآية الكريمة : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) ( مريم : 96 ) . وأتذكر ما سطر العلامة السيد سليمان الندوي رحمه الله معزّياً إثر وفاة العلامة حميد الدين الفراهي رحمه الله حينما وصف لصلاة الجنازة عليه : ” نداء رفع قبل ست مأة ونصف قرن من بلاد مصر والشام إلى ثغور الصين على جنازة العلامة ابن تيمية رحمه الله ، فالحق أن يرفع هذا النداء على جنازته ، ” هذه جنازة عاشق فلتخرج بعظمة ” .
من حسن حظنا أن آخر مجموعة من الطلاب الذين قرؤوا عليه هي مجموعتنا ، فقد درّسنا شيخنا العلامة أيام العام الماضي كتاب الرقاق من ” الجامع الصحيح للبخاري رحمه الله ” في المسجد الجامع لندوة العلماء ، فكان درسه جامعاً بين العلم والتربية ، والأدب والإصلاح ، والود والوئام ، فكوكبة من الحضور تتساقط لأجل الدنو منه ، والأخذ من مشكاة علمه ، ونوره ، وتقواه .
لقد عرف بتواضعه الكريم ، وزهده في الدنيا رغم وفرة المناصب الرئاسية ، والعلائق الرفيعة ، فقد اعتكف ليعيش راغباً عن الدنيا ، حباً في الآخرة ، منصرفاً إلى العبادة ، فهما من أبرز خصائصه ، وصفاته .
لقد سار على منهج واضح لسلفه الصالح ، خاصةً على منوال خاله العلامة المفكر الإسلامي السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله ، فقد ترعرع تحت ظله ، ونشأ في بيئة علمية وأدبية ، فيرى أثرها في فكرته الباهرة ، وطريقه المستقيم ، فقد كان خير خلف لخاله الكريم ، وتولّى جميع مناصبه ، ومسؤلياته وأعماله بأحسن ما يظن ، وأجمل ما يحسب ، فتزايدت النشاطات العلمية في رئاسته لندوة العلماء ، والحفاظ على الكيان الإسلامي برئاسته لهيئة قانون الأحوال الشخصية لعموم المسلمين في الهند ، فقد أكرمه الله بالقدرة على قرار محكم ، ونظرة عميقة على قضايا المجتمع ، وما ينوب على الأقلية من مشاكل في الهند ، وبصيرة إيمانية ، فقد عالج هدوءه المشاكل بحكمة مالم يعالجها ضجيج الآخرين .
تمتاز كتبه عن النظراء في العلم ، والفكر والأدب ، والدعوة ، والسيرة ، فكان قلمه رشيقاً ، ساذجاً ، أميناً ، وعبارةً عن بيان الحقيقة ، وطاهراً عن الحشو والزوائد ، ومحيطاً للعنوان والموضوع . فترك ثروةً قيمةً من العلم والأدب ” الأدب الإسلامي وصلته بالحياة ” ، ” جزيرة العرب ، تاريخياً ، جغرافياً ، وثقافياً ” . وكثير من الكتب الإسلامية التي قررت بالمقررات الدراسية ، والتي أثّرت على المجتمع في الأردية والعربية ، فاشتهر من كتبه كتاب جامع على السيرة النبوية ” سراجاً منيراً ” في الأردية ، صدر تعريبه بالعربية . فكانت حياته موافقةً للسيرة النبوية العطرة ، فكأنه نموذج عملي لكتابه ، صاغ حياته بصيغة الأسوة الحسنة ، ثم كتب كتاباً حكايةً عن العمل .
وكان له باع طويل في مجال الدعوة والإصلاح ، فقد نشر رسالة الإسلام والسلام بصعيد الدوائر والمراكز الدعوية التي يرأسهاً ، فخدم الإسلام بتبليغ رسالته ، وإيضاح حسنه ، وصداقته ، والإزالة عن شبهاته . فقد اختار منهج دعوته من القرآن الكريم : ( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ ) ( النحل : 125 ) .
كان العلامة الندوي رحمه الله رمزاً للأمة الإسلامية ، ومصدراً لعزها ، وشرفها ، فكان ملجأً لتسلية المجتمع ، ومنبعاً للأمن والرخاء ، وشخصيةً لا خلاف فيها بين الأمة ، وجامعاً عظيماً في حياته ومماته ، فأصبحت الأمة الإسلامية يتيمةً برحلته ، وبكت عليه السماء والأرض ، والأفئدة والمشام ، وأجمعت التعازي ، وحزن العالم كله من الهند إلى صنعاء ، ودمعت العيون والأبصار ، فكانت بوفاته انتهى العهد والعصر !
فقد وافته المنية إثر مرض عادي قبيل صلاة العصر 21/ رمضان المبارك 1444هـ بيوم الخميس … رحمه الله :
وما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما