وفقة تأمل للمدارس والجامعات

من وحي الحرب على غزة
أبريل 27, 2024
الآلهة الكاذبة وعاقبة الكفار
مايو 4, 2024
من وحي الحرب على غزة
أبريل 27, 2024
الآلهة الكاذبة وعاقبة الكفار
مايو 4, 2024

التوجيه الإسلامي :
وفقة تأمل للمدارس والجامعات
الإمام الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله
[ ألقى العلامة الندوي هذه المحاضرة في جامعة كشمير في سري نكر خلال زيارته بدعوة من مدير الجامعة للحضور في احتفال توزيع الشهادات على المتخرجين من الجامعة ، وقبول شهادة الشرف للدكتوراه ، وذلك في شهر نوفمبر 1981م . ]
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
إن المهمة الأساسية للجامعات هي : تكوين السيرة الإنسانية المثالية . فينبغي أن تضع الجامعة شاباً لا يرضى أبداً ببيع ضميره إزاء عرض من الدنيا قليل ، فإن الفلسفات والنظم المعاصرة تعتقد بأن كل شخص له ثمن مقدر معلوم ، فإذا لم تستطع أن تشتريه بثمن بخس ، فلتشتره بثمن مناسب ، ولا تعتبر الجامعة ناجحةً في دورها إلا إذا أعدت شباباً كفؤاً في خُلقه وعلمه ، لا يساوم ، ولا يبيع مبادئه ، ولا تستطيع أي فلسفة هدامة ، أو حركة منحرفة ، أو دعوة مضللة أن تشتري ضميره ، ويقدر أن يقول في ثقة ، واعتماد ، وصراحة ، وجراءة في كلمات الدكتور إقبال :
” لك الحمد يا رب ! إذ لست من سقط المتاع ، ولست من عبيد الملوك والسلاطين ، لقد رزقتني حكمةً وفراسةً ، ولكني أحمدك على أنني لم أبعهما لملك من الملوك ” .
والمهمة الثانية : أن يتخرج من جامعاتنا شباب مستعدون ليهبوا حياتهم للحق والصدق ، والعلم والهداية ، شباب يجدون في الجوع لذةً لا يجدها النهم في الأكل اللذيذ ، والشبع المزيد ، ويجدون متعةً في الفقد والحرمان لا يجدها المحظوظون ، والمكثرون ، ويوجهون عظيم صلاحياتهم ، وطاقاتهم ، وأفضل مواهبهم وكفاءاتهم ، التي شحنتهم بها جامعتهم لحماية الإنسانية ، وصيانتها من الدمار الرهيب .
ينبغي أن تراجع الجامعات حساباتها ، فتنظر كم تخرج من أبنائها من الشباب الأكفاء ؟ إنني أصارحكم بأنه لم يعد شيئ في أيامنا هذه على بلد من البلدان ، ويشاد بذكره نظراً إلى عدد جامعاته ، ومعاهده ، إن هذا قصور في النظر ، وفكرة متخلفة لم تعد صالحةً للقبول ، إن القضية هي قضية عدد أولئك الشباب الجامعيين الذين يقضون حياتهم في الشوق إلى العلم ، والبحث والتحقيق ، ونشر العلم النافع والخلق الفاضل ، ومقاومة المنكرات ، والفوضى الخلقية ، ويقفون في وجه الوحشية السفاكة للدماء ، وعبادة القوة والمنفعة والمال ، كم عدد الشباب الذين نذروا نفوسهم لرفع مستوى شعوبهم علماً ، وخلقاً ، وتربيتهم وتوعيتهم ، ولكي ينفخوا فيهم روح العزة والإباء ، الذين ينسون حظوظهم العاجلة ، ويطبقون أعينهم عن مصالحهم الشخصية ، والمنافع المادية ، ويهبون أنفسهم لخدمة القضية العامة ، إن المقياس الصحيح في ذلك أن نرى كم من الشباب عكفوا على العلوم ، والدراسات النافعة ، تاركين وراءهم راحة الدنيا ونعيمها ، ورقيها ليخرجوا إلى أمتهم بأعمال بناءة خالدة .
والحق أن الغرض الأساسي من كل من الأدب والشعر ، والحكمة والفلسفة ، والتصنيف والتأليف بعث حياة جديدة ، ونفخ روح جديدة ، لا أن يكون لمعان سراب ، والتهاب شعلة لا تلبث أن تنطفئ ، وأتمثل هنا ببعض أبيات الشاعر الإسلامي محمد إقبال الذي قالها مخاطباً لأحد الأدباء والشعراء ، ولكنها تصدق على العلم ، والأدب ، والفلسفة ، والحكمة .
يقول ما معناه : ” يا أهل الذوق والنظر العميق ، أنعم وأكرم بنظركم ، ولكن أي قيمة للنظر الذي لا يدرك الحقيقة ؟ لا خير في نشيد شاعر ، ولا في صوت مغنِّ إذا لم يفيضا على المجتمع الحياة والحماس ، ولا بارك الله في نسيم السحر ، إذا لم تستفد منه الحديقة إلا الفتور ، والخمول ، والذوي والذبول ، إن غاية الإحسان في فن من فنون العلم والأدب لوعة الحياة الدائمة ، ما قيمة شرارة تلتهب سريعاً وتنطفى سريعاً ” .
سادتي ! واسمحوا لي أخيراً أن أوجه بعض النصائح إلى هؤلاء الشباب الخريجين الذين يحملون من هنا شهادات العلم ، ويستحقون التهنئة عليها ، والسعداء الذين لا يزالون يقتطفون من أزهار العلم في رحاب هذه الجامعة ، وسوف أستعين في حديثي هذا – الذي قد يكون جاداً وثقيلاً – بقصة طريفة لعلها تملح المجلس ، وتمتع الأسماع .
يحكى أن فريقاً من تلاميذ المدارس ركبوا سفينةً للنزهة في البحر ، أو للوصول إلى البر ، وكان في النفس نشاط ، وفي الوقت سعة ، وكان الملاح المجدف الأمي خير موضوع للدعابة والتندر ، وخير وسيلة للتلهي وترويح النفس ، وخاطبه تلميذ ذكي جريئ ، وقال : يا عم ! ماذا درست من العلوم ؟ قال : ولا شيئ يا عزيزي ! قال : أما درست العلوم الطبيعية يا عمي ؟! قال : كلا ، ولا سمعت بها ! وتكلم أحد زملائه ، وقال : ولكنك درست علم الإقليدس والجبر والمقابلة ! قال : وهذا أغرب ، وتصدقون أني أول مرة أسمع هذه الأسماء الهائلة الغربية ! وتكلم ثالث ” شاطر ” فقال : ولكني متأكد بأنك درست الجغرافية والتاريخ ، فقال : وهل هما اسمان لبلدين ، أو علمان لشخصين ؟ وهنا لم يملك الشباب نفوسهم المرحة . وعلا صوتهم بالقهقهة ، وقالوا : ما سنك يا عم ؟! قال : أنا في الأربعين من سني ! قالوا : لقد ضيعت نصف عمرك يا عمنا ! وسكت الملاح الأمي على غصص ومضض ، وبقي ينتظر دوره ، والزمان دوار .
وهاج البحر ، وماج ، وارتفعت الأمواج ، وبدأت السفينة تضطرب والأمواج فاغرة أفواهها لتبتلعها ، واضطرب الشباب في السفينة ، وكانت أول تجربتهم في البحر وأشرفت السفينة على الغرق ، وجاء دور الملاح الأمي ، فقال في هدوء ووقار : ما هي العلوم التي درستموها يا شباب ؟ وبدأ الشباب يتلون قائمةً طويلةً للعلوم والآداب التي درسوها في الكلية . ويتوسعون فيها في الجامعة من غير أن يفطنوا لغرض الملاح الجاهل الحكيم ، ولما انتهوا من عدِّ العلوم المرعبة أسماؤها ؛ قال في وقار تمزجه نشوة الانتصار : لقد درستم يا أبنائي هذه العلوم الكثيرة ، فهل درستم علم السباحة ؟ وهل تعرفون إذا انقلبت هذه السفينة – لا قدر الله – كيف تسبحون ، وتصلون إلى الساحل بسلام ؟ قالوا : لا والله يا عم ! هو العلم الوحيد الذي فاتتنا دراسته والإلمام به ! هنالك ضحك الملاح ، وقال : إذاً كنت قد ضيعت نصف عمري ، فقد أتلفتم عمركم كله ، لأن هذه العلوم لا تغني عنكم في هذا الطوفان ، إنما كان ينجدكم العلم الوحيد ، هو علم السباحة الذين تجهلونه .
ولا يزال الوضع – في أيامنا هذه – في بلدان العالم الراقية المتحضرة التي تبدو كأنها تملك مقادير الأمم ، حيث ارتطمت سفينة الحياة في ورطة لجبة وتعصف بها الأمواج العاتية كالتماسيح الهائلة الضارية فاغرة أفواهها لتبتلعها ، والشاطئ بعيد . والخطر محدق قريب . ويحمل ركاب السفينة المحترمون كل شيئ إلا فن السباحة ، وبتعبير أفصح وأوضح ، تعلموا كل علم وفن ، ولكنهم لم يتعلموا كيف يعيشون حياة الإنسان الكريم الذي يخشى ربه ، ويرحم خلقه ، ويتوجع لما أصابهم من ويلات ونكبات ، لقد صور الدكتور إقبال هذا الوضع الخطير ، وهذا التناقص العجيب الذي أصيب به أبناء القرن العشرين ، بل المجتمعات البشرية كلها ، يقول :
” من الغريب أن من اقتنص أشعة الشمس ، لم يعرف كيف ينير ليله ، وكيف يصبح ، وأن من بحث عن مسالك النجوم وطرقها ، لم يستطع أن يسافر في بيداء أفكاره ، ومن عكف على الألعاز بحلها ، ويشرحها لم يستطع أن يميز النفع من الضرر ” .
إن الشروط الأساسية للحياة الكريمة الناجحة المأمونة من الخطر والضرر هي معرفة الطريق إلى حياة إنسانية نبيلة ، والخشية لله الواحد ، وحب الناس ، وصلاحية ضبط النفس وقسرها ، وصفة إيثار المصلحة الجماعية على المصلحة الفردية ، واحترام الإنسانية ، والعواطف الكريمة للحفاظ على الأنفس والأعراض والأموال ، وإيثار أداء الحقوق لأهلها على المطالبة بها ، وحماية المضطهدين المظلومين ونصرة الضعفاء المساكين ، وجراءة مواجهة الطغاة الجبارين ، وعدم الخوف من الناس الذين لا يحملون إلا الثروة والجاه ، وعدم الخضوع أمامهم ، والصراحة بقوله الحق دائماً ، والشهادة على نفسه وجماعته ، والتمسك بالعدل لنفسه ولغيره ، وإقامة القسطاس المستقيم ، والإيمان الجازم بإله قادر شاهد بصير ، والتفكير في المسؤولية أمامه ، والخوف من حسابه ، هذه هي الشروط الأساسية للحياة الشريفة المحترمة ، وهذه هي الضمانات اللازمة لوجود المجتمع الصالح الرشيد والحكومة القوية المحروسة ، وإن تربية هذا المجتمع ، وتهيئة الجو المناسب له من أولى فرائض الجامعات ، والمؤسسات العلمية ، وإيجاد هؤلاء الشباب من أهم مسؤوليات المثقفين والمفكرين ، والمسؤولين في البلاد .
ويلزمنا في مثل هذه المناسبات أن نراجع أنفسنا ، وننظر إلى أي مدى نجحت مؤسساتنا وجامعاتنا ؟ وكم من شبابها الخريجين وأبنائها العاملين يستحقون أن يهنؤوا ويبارك لهم ؟ وما هي محاولاتنا للحصول على هذه الأهداف والمقاصد العظيمة في المستقبل ؟ وماذا أعددنا له ، وجهزنا ، إنها قضية تستحق أكبر قسط من التأمل ، والتفكير .
وختاماً أشكركم على هذا التكريم ، والثقة التي وضعتموها في ، وعواطف الحب والاحترام ، التي أبديتموها عن طريق هذا التكريم .